المجتمع الفلسطيني بين "استراتيجية التقاسم" وفصول الإبادة

31 يوليو 2022
لوحة جدارية في مخيم برج الشمالي (محمود زيات/فرانس برس)
+ الخط -

ليس غريباً وصف معاناة الشعب الفلسطيني اليوم، بعد عقودٍ من الاحتلال والشتات، بمعاناة الأمرّين، فـ"مرّ" المعاناة الفلسطينية تحت الاحتلال الصهيوني، يتمثّل في آلة القتل، الهادفة إلى التطهير العرقي وممارسات العزل العنصري، التي توازي جرائم الإبادة العرقية، حسب المادة 15 من "الاتفاقية الدوليّة لقمع جريمة الفصل العنصري والمعاقبة عليها"، أمّا أمرّ الأمرّين، فيتمثّل في استراتيجيّة الاحتلال لتفتيت الشعب الفلسطيني المقيم والمشرّد، لتنطبق سياسة العزل والتقسيم على الشتات أيضاً.

وإذا كنّا بصدد تناول اللجوء الفلسطيني في لبنان، كنموذج صارخ على انتقال الانقسام الداخلي الفلسطيني إلى مخيمات لجوئه، فضلاً عن سهولة هذا الانتقال إلى بنية لبنان الهشّة، فهذا لا يلغي سوء إدارة الدولة اللبنانية، وعدم وضعها أي تشريعات تراعي القوانين الدوليّة ذات الصلة.

من هنا كان الفلسطينيون في لبنان "قبل وبعد" اتفاقية أوسلو على الحال نفسه، في حرمانهم من كافة حقوقهم الإنسانية بوصفهم "خطراً" ديمغرافيّاً يهدّد الكيان اللبناني، أو بكلام أوضح، بات يتردّد في الإعلام علناً، اعتبار الفلسطينيين خطراً إسلاميّاً "سنيّاً"، يخلّ بالتوازن الطائفي اللبناني، يبدو ذلك في ظاهره دفاعاً عن قدسيّة الصيغة اللبنانية، وتعمية عن العزل العنصري، الذي تمارسه السلطة على اللاجئين الفلسطينيين، في انتهاك للمواثيق الدولية، التي ساهم لبنان بوضعها "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان"، أو التي انضم إليها "الاتفاقية الدولية لمنع جريمة الفصل العنصري والمعاقبة عليها".

ولمّا كانت منازل اللجوء الفلسطيني على الحال النقيض من التزامات لبنان الدوليّة، في ما خصّ الظروف المعيشيّة، والمنع من المشاركة في الحياة السياسية والاقتصادية للبلد، والحرمان من الحقوق الأساسية، بما في ذلك العمل وحرية التنقل والرأي والتعبير، أدّى ذلك إلى إفراغ هذا اللجوء من جوهره، كشاهد حيّ على اغتصاب فلسطين، وكركن أساس للقضية الفلسطينية، وحوّله بالتالي إلى أقليّة منبوذة وصامتة، لا تحضر سوى بوصفها خطراً أمنياً يهدّد محيطه اللبناني.

كانوا يحلمون بالعودة وأصبحوا يحلمون بالهجرة إلى حين العودة

ويمكن تلخيص الاستنزاف التدريجي الذي عاشه المجتمع الفلسطيني في شتاته القريب بمسألتين، كانت أولاهما إلحاق المخيمات الفلسطينية بالصراع الأهلي اللبناني منذ العام 1982، عام الاجتياح الإسرائيلي للبنان، ثمّ حرب طرابلس 1985، وحرب المخيمات 1986.

وثانيتهما، امتداد الانقسام الفلسطيني إلى مخيمات اللجوء المنهكة أصلاً، ولا شكّ أنّ الاستنزاف الذي أفرغ في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي المجتمعين الفلسطيني واللبناني على حدّ سواء من شبابهما وكفاءاتهما، عبر الهجرة إلى أصقاع العالم، كان واحداً من نتائج الحرب الأهلية اللبنانية بفصولها، إلّا أنّ القاسم المشترك بين ما عانى منه مجتمع اللجوء الفلسطيني خلال الحرب الأهلية وما بعدها، هو التنازع العربي والإقليمي نفسه على تقويض القرار الفلسطيني، أو الإمساك بهِ.

الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت

إذا عدنا إلى مفهوم الإبادة كمفهوم إنساني وقانوني لا يقتصر على التصفية الجسدية فقط، نجد أن استهداف كينونة المجتمع الفلسطيني، وحصاره في الداخل وفي الشتات، مساوٍ لجرائم التطهير العرقي منذ نكبة 1948، مروراً بصبرا وشاتيلا 1982. يتصدّر العزل العنصري جرائم الإبادة، ومن هنا لم يكن بريئاً تبنّي النخبة الحاكمة الإسرائيليّة استراتيجيّة إسحاق رابين، التي وضعت أسس التفتيت الإقليمي لمناطق السلطة الفلسطينية كـ"رؤية استراتيجية للاحتلال، وتقبّله نوعاً من التقاسم الإقليمي، في ما خصّ نشوء الدولة الفلسطينية".

الأمر الذي ظهرت بواكيره في الاقتتال الفلسطيني بين حركتيّ فتح وحماس عام 2006، الذي أوقع 322 قتيلاً. ولم يكن التشرذم الفلسطيني وتراجعه عن دوره التحرّري، وإسكات صوت النّخَب الفلسطينية وإقصائها، سوى أرض خصبة للانقسام السياسي والجغرافي، حيث تواجه كلّ كتلة بشرية فلسطينية معزولة حصارها على حدةٍ، إن داخل الجدار أو خارجه، وإن في الضفة الغربية أو غزة، وبين فلسطينيي الأراضي المحتلة عام 1948، وبين اللاجئين في دول الجوار. ولا تستطيع استراتيجية العزل الإسرائيلية إلّا أن تكون امتداداً للفكرة الصهيونية الأوضح، "الفلسطيني الجيّد هو الفلسطيني الميّت".

البرج

تم سحب "جغرافيا التقاسم"؛ وبالأصحّ "جغرافيا التقاتل"؛ إلى مخيّمات الشتات، ليضع واحداً من أبرز أشكاله في حرب مخيم نهر البارد صيف 2007، التي ذهب ضحيتها مئات اللبنانيين والفلسطينيين، وذلك وسط هشاشة فلسطينية وواقع لبناني لم ينته من براثن حربه الأهليّة. ساعد هذا الواقع في دخول مجموعات سلفيّة دخيلة على المجتمع الفلسطيني، هي مجموعات من عدّة جنسيات، للتوغّل والتحصّن في المخيّم بين الفقراء، وتقديم المساعدات لهم، واستقطاب إسلاميين متطرفين، كما ساعد الانقسام الفلسطيني في اختلاف المواقف من هذه التيارات السلفية، ومن التعامل معها، وبحسب وصف أحد الزملاء الصحافيين، فقد تأرجحت المواقف بين التراخي والصمت والمرونة، حرصاً على عدم الاشتباك، وتشدّد أخرى ووقوفها خلف الجيش اللبناني، لإنهاء هذه الظاهرة السلفيّة ("فتح الإسلام")، التي كانت تسعى لتحويل الشمال اللبناني إلى إمارة إسلاميّة.

امتدت هذه المعركة مائة يوم واثنين بما كلّفته من خسائر بشرية وماديّة، تاركةً خلفها ملف إعادة إعمار المخيّم، الذي شابه الكثير من التلكؤ. لم يعد "نهر البارد" إلى ما كان عليه من قبل، كما لم يعد مخيم "عين الحلوة"، في الجنوب اللبناني، كما كان عليه قبل المعركة الأعنف التي شهدها في نيسان/ إبريل من العام 2017، حيث حسمت قوى أمنية مشتركة لبنانية وفلسطينية المعركة لصالحها. أصيبت المخيمات الفلسطينية بالإنهاك، وتحوّلت إلى غيتوهات أمنية، مغلقة بالأسوار والحواجز الإسمنتية، وأصبح المخيّم في الفَهم اللبناني العام مصدراً للإرهاب، بعد أن كان في العقود الماضية مصدراً للفكر التحرّري، ومقصداً للشباب اللبناني والعربي والأممي.  

يوم في المخيّم

تحت سقف الانقسام، يعيش سكان المخيمات على بعض ما يعينهم من سُبُل الاستمرار، من وظائف منظمة التحرير الفلسطينية وبعض المؤسسات المدنية، لكن تبقى مصادر الرزق والعيش شبه معدومة، وسط ظروف المنع من العمل، وظروف صحيّة صعبة، سببها العيش في محدّدات جغرافيّة ضيقة، وبيوت متراصّة رطبة لا تدخلها الشمس، يزيد على ذلك كثافة السكان، وتخلّي وكالة أونروا عن واجباتها، فضلاً عن غرقها في الهدر والفساد، ولكي يزداد الطين بلّة؛ بدأ الانقسام الفلسطيني يطفو على سطح المؤسّسات الطبية والخدميّة، حيث يعطل صراع النفوذ بين الفصائل في المؤسسة الواحدة هبات ومساعدات خارجيّة مقدّمة للشعب الفلسطيني، كما حصل أخيراً في إحدى المؤسسات الدولية، وبالمحصّلة فقد طغى على هذه المؤسّسات إلى المصالح العائليّة والمحسوبيات والفساد.

كان الفلسطينيون قبل ذلك يحلمون بالعودة، ثمّ أصبحوا يحلمون بالهجرة إلى حين العودة، وقد أشارت معلومات إلى أعداد كبيرة من هجرة فلسطينية غير شرعية عبر مراكب الموت في الأعوام الأخيرة. ولا شكّ أن كلّ هذه العوامل التي تتضافر فيها الانقسامات الفلسطينية والانقسامات اللبنانية المحيطة، قد شكّلت، من حيث تدري أو لا تدري، فصلاً من نهج إبادة الهوية الفلسطينية في الشتات.

ملحق فلسطين
التحديثات الحية

بيوت المخيّم آيلة للسقوط

يبقى سكان المخيّم على قيد صبر أيوب، حيث تسيطر مافيات مولدات الطاقة الكهربائية التابعة للفصائل، موزّعةً مغانم الخدمات في ما بينها، يتقاضى أصحاب هذه المولّدات اشتراكاتهم الشهرية بالدولار الأميركي، مستغلين أزمة كهرباء الدولة اللبنانية. رغم جباية اللجان الشعبية، الموزّعة على الفصائل، في كثير من المخيمات رسوما على الخدمات، بما في ذلك الإيجارات والمياه وسواها، إلّا أنها تدّعي عدم قدرتها على إصلاح قناة مياه تم إيصالها منذ ما قبل العام 1982 إلى مخيّم برج البراجنة مثلاً، كما تدعي عدم قدرتها المالية على حفر بئر بديلة داخل المخيّم، وتتداخل تمديدات الأسلاك الكهربائية بشكل عشوائي وخطر بين البيوت وأقنية المياه، ما يعرّض نحو سبعين شخصاً للموت صعقاً بالكهرباء في مخيمات بيروت سنويّاً.

تلك المخيّمات التي باتت أبنيتها العشوائية آيلة للسقوط، أكثر من ذي قبل، بعد انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس/ آب 2020، وكذلك ازدياد الكثافة السكانية بعد أربعة أجيال من اللجوء، ليشكل الارتفاع العمودي فوق الغرف الرئيسية، التي شيّدت في بداية الخمسينيات كجدران مؤقتة بدون ركائز، خطراً ينذر بكارثة. يروي المصوّر الفلسطيني ناصر خزعل قصته، فقد ناشد وكالة الأونروا من أجل ترميم منزله منذ سنوات دون جدوى، فقام بالترميم على حسابه الخاص مراراً، ثم في يونيو/ حزيران الماضي جاءت الموافقة بالترميم، بعد لقائه بأحد معارفه من مهندسي الوكالة.

ويؤكّد خزعل أنه لولا معرفته بهذا الشخص لما استحصل على الموافقة على الترميم، لكن بعد أيام من زيارة الوكالة إلى بيت خزعل، سقط أحد أسقف المنزل، والصدفة وحدها أنقذت أسرته، كما تؤجل البيروقراطية الإدارية في الأونروا بدء تنفيذ قرار الترميم حتى الآن، بعد نحو أربعة أشهر على قرار الموافقة.

يؤكّد سكان المخيّم أن عدداً كبيراً منهم تقدّم بطلبات ترميم بيوتهم، لكن في العادة لا تتم الاستجابة لهذه الطلبات، إلّا في حال وجود وساطة من الفصائل، تلك الفصائل التي لا تتفق على كرامة عيش اللاجئ الفلسطيني، ولكنها اتفقت في يونيو/ حزيران الماضي على إصدار بيان "يستنكر" الأعمال الطلابية والمسرحية المختلطة بين الإناث والذكور، على أنه "يتعارض مع تقاليد مجتمعاتنا الشرقية المحافظة"، فهل تتفق هذه الفصائل، فقط، على إصابة المجتمع الفلسطيني بالقهر والتخلّف حتى الموت؟