في مذكراته، وحول تهجير سكان مدينتي اللد والرملة في تموز/ يوليو عام 1948، يذهب إسحق رابين، أحد رجالات "البلماخ" المتفرعة من "هاغاناه"، في حينه، إلى أنه بعد أن كرّر إيغال ألون، قائد "البلماخ"، سؤاله لدافيد بن غوريون: ماذا نفعل بالسكان؟ رد الأخير مطوّحاً بيده، في إشارة منه إلى طردهم. حتى لو سلمنا بعدم توافر أوامر مكتوبة بطرد الفلسطينيين، من قبل قادة العصابات الصهيونية، فإن شعار الحركة الصهيونية "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، كان تجاهلاً متعمداً لوجود العرب الفلسطينيين، وحذفاً ذهنياً لهؤلاء، تمهيداً لمحوهم عملياً، فمارست تلك العصابات، بحق الفلسطينيين، عن سابق تخطيط، جميع أشكال العنف والإرهاب، وعشرات المجازر، في سياق أكبر عملية تطهير عرقي، عرفها التاريخ المعاصر، التي كانت نتيجتها طرد وتهجير أكثر من 85% من الشعب الفلسطيني، من 531 قرية ومدينة، وتحويلهم إلى لاجئين. وُثِّقَت 37 مجزرة ارتكبتها العصابات الصهيونية عام 1948، ودفعت الاحتجاجات العالمية، بعيد مذبحة دهمش في اللد، دولة الاحتلال الإسرائيلي إلى الاستنكاف عن تلك المجازر، لكنها عادت لتستأنفها خريف عام 1948 استكمالاً لاحتلال الجليل، ولا تزال مجازرها مستمرة حتى اليوم (وفق ومواثيق حقوق الإنسان، تعرّف المجزرة أو المذبحة بأنها قتل وتصفية خمسة أشخاص أو أكثر في مكان محدد غير قادرين على الدفاع عن أنفسهم).
تشهد مشكلة اللاجئين الفلسطينيين على وحشية الاحتلال الإسرائيلي، واستمرارها انتهاك مستمر لحقوق الإنسان. وقد قامت الاستراتيجية الصهيونية الإسرائيلية، التي يمكن استنتاجها من خلال الأدبيات السياسية الإسرائيلية، في تعاملها مع مشكلة اللاجئين، على ثلاثة محاور أساسية. تمثّل الأول برفض دولة الاحتلال الاعتراف بمسؤوليتها السياسية والقانونية والأخلاقية عن خلق مشكلة اللاجئين، وإلقائها على عاتق الفلسطينيين والعرب، بدعوى أن الفلسطينيين هربوا عام 1948 من قراهم بمحض إرادتهم عائدين إلى "بلادهم الأصلية"؛ الأردن، وسورية، ولبنان، والعراق، ومصر، أو أنهم خرجوا استجابة لدعوات قادتهم المحليين أو أوامر قادة الجيوش العربية "الغازية". ومع اعترافها بإخلاء الجيش الإسرائيلي لقرى فلسطينية حدودية (إقرت، وكفر برعم ...) فإنها تبرره بالحفاظ على أرواح المدنيين، في خضمّ الاشتباكات المسلحة.
المؤرخون الجدد في إسرائيل كشفوا زيف الروايات الإسرائيلية، التي أريد بها إعفاء دولة الاحتلال الإسرائيلي من مسؤوليتها عن خلق مشكلة اللاجئين، وأكّدوا الرواية الفلسطينية، وأن ما حصل كان تطهيراً عرقياً، وعزّزت شهادات شفوية دوّنتها منظمة "زوخروت" الإسرائيلية مصداقية الرواية الشفوية الفلسطينية التاريخية، التي لم تقتصر على شهادات مكتوبة للاجئين ولاجئات فلسطينيين عايشوا النكبة، بل أيضاً شهادات لجنود إسرائيليين ويهود شاركوا في معارك ومجازر عام 1948.
تمثل المحور الثاني من تلك الاستراتيجية بتفسير دولة الاحتلال للقرارات الدولية بخصوص اللاجئين بما يضمن تفريغها من مضمونها والالتفاف عليها. من ذلك، أن قرارات الأمم المتحدة، خصوصاً قرار الجمعية العامة رقم 194، لا تنص على عودة اللاجئين وإنما عودة من يرغب منهم للعيش بسلام مع جيرانهم، لكن اللاجئين من الفلسطينيين لا يرغبون في السلام، وأن مشكلتهم لا تنفصل عن قضية ملايين اللاجئين حول العالم التي ينبغي التعامل معها كمسألة إنسانية يمكن حلها من خلال أطر اقتصادية تشمل التوطين والاندماج والتنمية. وأن إنشاء وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين دليل على رغبة المجتمع الدولي في حل تلك القضية انطلاقاً من هذا التوجه. عموماً، تنظر دولة الاحتلال إلى تلك القرارات على أنها غامضة وغير ملزمة وغير نهائية، وأن إسرائيل لم تكن قد أصبحت بعد عضواً في الأمم المتحدة حين صدورها. أما بالنسبة إلى حق التعويض، فتطرح الأدبيات السياسية الإسرائيلية مقايضة على أساس المساواة بين أملاك اللاجئين الفلسطينيين واليهود الذين غادروا الدول العربية إلى دولة الاحتلال على أساس أن موضوع اللاجئين الوارد في القرار 242 يتناول اللاجئين الفلسطينيين و"اللاجئين اليهود" معاً.
كان الصليب الأحمر الدولي وغيره من منظمات إغاثية دولية وإنسانية، قد رفض عام 1949 الاستمرار في تقديم المساعدة للاجئين الفلسطينيين اعتقاداً أن استمرار ذلك قد يكون على حساب الحل السياسي المطلوب، ممثلاً بعودتهم وفق القرار 194، وفي السنوات الأخيرة سعت حكومة بنيامين نتنياهو بدعم من إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، لتصفية وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) بوصفها عنواناً سياسياً لحقّ العودة. ومع أن قبول إسرائيل عضواً في الأمم المتحدة كان مشروطاً بقبولها القرارات الدولية، ومنها القرار 194، حيث وافقت دولة الاحتلال على عودة 100 ألف لاجئ فلسطيني، إلا أنها تراجعت عن ذلك بعد قبول عضويتها. وتقوم الاستراتيجية الإسرائيلية، في محورها الثالث، على الحيلولة دون عودة اللاجئين، ورفض تنفيذ القرارات الدولية بشأنهم، بحجّة أن هؤلاء يشكّلون خطراً ديمغرافياً وأمنياً، أو أن بيوت هؤلاء وقراهم باتت مأهولة إسرائيلياً، ولا سيما أن إسرائيل قد استوعبت عدداً كبيراً من اليهود قدموا إليها من العالمين العربي والإسلامي. وتذهب أدبيات إسرائيلية إلى أن البند الـ 28 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ينصّ على حق الإنسان في إنشاء بيئةٍ اجتماعيةٍ وجوٍّ عالميٍ يتمتع فيه بحقوقه الشخصية، أما البند الـ 51 منه فيمنح الإنسان الحق في الدفاع عن النفس، وبناءً عليه، يجري التوصل إلى استنتاج مفاده أن منع أولئك اللاجئين الفلسطينيين من العودة هو دفاع عن النفس، ما دامت عودتهم تهدد قدرة اليهود على خلق مجال اجتماعي يتمتعون فيه بحقوقهم الشخصية. بقي إعلان إسرائيل استعدادها لتطبيق حق العودة جزئياً، وعلى عدد معين من اللاجئين، تكتيكاً تفاوضياً، فخشية إسرائيل من "الاحتلال السكاني" الناجم عن عودتهم، يجعلها، كما ذهب شاليم آفي (كتابه "الحائط الحديدي") تقف أمام خيارين: إما أن تفقد الشخصية اليهودية للدولة، أو أن تتوقف عن الادعاء أنها دولة ديمقراطية. البديل لدى إسرائيل هو وجوب النظر إلى التبادل السكاني بوصفه ظاهرةً سائدةً في التاريخ الإنساني، وأنه يمكن حل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، واليهود، من طريق الهيئات الدولية.
بعد اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إسحق رابين، عام 1995، عزز اليمين الإسرائيلي المتطرف سيطرته على السياسة الإسرائيلية، وكرّس هذا اليمين بقيادة رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، بنيامين نتنياهو، الأطول حكماً في إسرائيل، معظم جهود سياسته الخارجية لتقويض الرواية الفلسطينية وإضفاء شرعية دولية على الرواية التاريخية الصهيونية، معلناً أن إنتاج هوية وطنية فلسطينية، كان مؤامرة عربية لإسقاط "حق اليهود" في فلسطين، فلم يكن هناك شعب فلسطيني يملك وعياً قومياً أو هوية قومية، يطالب بـ "تقرير المصير"، وإنما هم، في نظره، مجرد غطاء استعمله العرب في مسعاهم للقضاء على إسرائيل. لم يكتف نتنياهو بالمطالبة الخارجية بالاعتراف بيهودية الدولة، بل شدد على تأكيد يهوديتها في مواجهة الداخل الفلسطيني، فدعم اقتراحاً بتعديل قانون المواطنة، لينص على أن قسم الولاء لإسرائيل كدولة "يهودية ديمقراطية" شرط للراغبين في الحصول على الجنسية الإسرائيلية، محاولاً أن يفرض على الفلسطينيين، لا الاعتراف بـ"الشعب اليهودي" فقط، بل أيضاً بـ"الدولة اليهودية"، وأن عليهم (تحت ضغط سياسة الأمر الواقع الاستيطاني) الكفّ عن محاولة إغراقها باللاجئين بتمسكهم بحلم العودة، بوصف ذلك مفتاحاً لحل الصراع. ولم يكن المقصود بالتطبيع اعتراف العرب بإسرائيل أمراً واقعاً فقط، بل أيضاً اعترافاً بشرعيتها التاريخية، وبالتالي اعترافاً بلا شرعية عودة اللاجئين الفلسطينيين.
رغم أن مفاوضات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل دعت، في إحدى محطاتها، إلى إنشاء "سلطة حكم ذاتي" في الضفة الغربية وقطاع غزة، تتبع "بمحادثات الوضع النهائي"، إلا أنها حيّدت قضية اللاجئين عن الطاولة، أما اتفاقية وادي عربة الأردنية الإسرائيلية، فلم تتعامل مع اللجوء الفلسطيني نفسه، بل مع المشاكل الناتجة منه، ونظرت إلى مشكلة اللاجئين بوصفها مشكلة إنسانية، لا سياسية، تعهّد فيها الطرفان بالسعي إلى التخفيف من حدة المشاكل الناتجة منها بتطبيق برامج الأمم المتحدة المتفق عليها، وغيرها من البرامج الاقتصادية الدولية المتعلقة باللاجئين والنازحين، بما في ذلك المساعدة على توطينهم. وكانت الكارثة أن اتفاق أوسلو قد أجّل قضية اللاجئين إلى مباحثات "الوضع النهائي" التي لم يكتب لها الانطلاق حتى اليوم، بعد انسحاب إسرائيل عملياً من "أوسلو" وفرضها على الفلسطينيين سياسة الأمر الواقع.
لا تزال قضية هؤلاء اللاجئين غائبة عن الطاولة، في وقت يجري فيه تفتيت مجالاتهم السوسيولوجيّة في بلدان الشتات. ولا يبدو أن الاستراتيجية الإسرائيلية ستتغير، ولا تسمح موازين القوى الحالية بتغييرها، بما أن عودتهم تنسف بالأساس المشروع الصهيوني القائم على تفريغ فلسطين من شعبها لإقامة "الدولة اليهودية". قد يكمن الفارق في مدى الكفاءة السياسية لحكام إسرائيل في تطبيقها خارجياً وداخلياً.