في مؤشر إلى تغيّر جذري في قواعد اللعبة السياسية في روسيا، قضت محكمة في مدينة موسكو أول من أمس الثلاثاء بسجن المعارض أليكسي نافالني، لمدة ثلاث سنوات ونصف السنة. وبتجاهله الاحتجاجات الشعبية الداعية لإطلاق سراح نافالني، وإصراره على مقاربة أمنية عنيفة لتخويف المحتجين وترهيبهم، بدا واضحاً أنّ الكرملين يراهن على إنهاء التظاهرات في أسرع وقت، وشنّ حرب لا هوادة فيها ضدّ المعارضة "غير النظامية" لتحجيم فرصها في الحصول على أي مكاسب في الانتخابات البرلمانية الحاسمة في خريف العام الحالي، عبر اعتقال أو تحييد معظم قادتها، وإلصاق تهم الخيانة لصالح أجهزة استخبارات غربية بها. وتشّي الانتقادات الشديدة لحضور ممثلين لبعض السفارات الأجنبية جلسة محاكمة نافالني، ورفض السلطات المطلق للاستماع لأي مطالب غربية بشأن الإفراج عن "مريض برلين"، وهي الصفة التي باتت بديلة عن اسم نافالني في تصريحات الرئيس فلاديمير بوتين والمسؤولين الروس و"بروباغندا" الكرملين، بأن موسكو تفضّل خوض معركة جديدة مع الغرب، على أمل توحيد الشارع وراء شعارات توحيد الجبهة الداخلية في مواجهة الخارج الساعي إلى الحدّ من نفوذ روسيا العالمي، ومحاولة إضعافها من الداخل باستخدام "طابور خامس". وقوام هذا "الطابور" خليط بين الصحافة المعارضة، و"العملاء الأجانب"، كمؤسسات مجتمع مدني أو ناشطين فيها، و"المحتجين الفوضويين، الذين منهم من خرج من أجل المال" وآخرين من فئة "الشباب الضالين" و"التلاميذ الذين لا يفقهون في السياسة، ولم يجربوا حال الفوضى في تسعينيات القرن الماضي، ولم يطلعوا على المآسي والحروب الدموية في روسيا بعد عام 1917 التي أزهقت ملايين الأرواح وتسببت في دمار البنية الصناعية والزراعية في روسيا"، وفق تصريحات المسؤولين الروس.
ألمانيا: فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على روسيا بسبب قضية نافالني غير مستبعد
وتوالت التنديدات الغربية بقمع التظاهرات في روسيا، إلى جانب المطالبة بإطلاق سراح نافالني. فقد قالت الحكومة الألمانية إنّ فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على روسيا بسبب قضية نافالني "غير مستبعد"، فيما طالبت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل موسكو بالإفراج عن نافالني ووضع حد لقمع التظاهرات. كما طالبت بريطانيا، عبر رئيس الوزراء بوريس جونسون ووزير الخارجية دومينيك راب، بـ"الإفراج فوراً ومن دون شروط" عن المعارض الروسي، مندّدة بالقرار الجبان و"المنحرف" الذي أصدره القضاء الروسي. أما وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، فقال أمس إن "هناك توجهاً واضحاً نحو النزعة السلطوية" في روسيا، ودعا إلى إطلاق سراح نافالني، وهي الدعوة التي كان أطلقها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كذلك مساء الثلاثاء.
وعلى الرغم من حملات الاعتقال الكثيفة في تظاهرات 23 و31 يناير/ كانون الثاني الماضي، خرجت تظاهرات أول من أمس الثلاثاء، للتنديد بالحكم ضدّ نافالني في مدينتي موسكو وسان بطرسبورغ، استفاد منظموها من التجربتين السابقتين، وتحدوا الشرطة والقوات الخاصة والأمن الوطني الذي انتشر بكثافة وسط العاصمة وأغلق محطات المترو القريبة من ساحة "مانيج"، وتحولت شوارع مركز موسكو الضيقة لثلاث ساعات إلى ساحة كر وفرّ. وبدا واضحاً أنّ سيارات المواطنين المدنيين عطلت عن قصد حركة سيارات وباصات الأمن المعدة لاعتقال المحتجين، فقد أطلق بعض السائقين أبواق سياراتهم لتحذير المحتجين، وتوقفوا في وسط الطريق لمنح المتظاهرين فرصة للهروب من الاعتقال.
روسيا في باص اعتقال
وفي إطار سعيها لإخماد التظاهرات اتبعت السلطات سياسة تجمع بين الترهيب عبر التحذير من المشاركة في التجمعات غير المرخص لها، وما يمكن أن تتسبب به من زيادة في أعداد المصابين بفيروس كورونا، والتهديد عبر تأكيدها أنها لن تتهاون في تنفيذ القوانين بحقّ التظاهرات "غير الشرعية".
اعتقل الأمن الروسي منذ عودة نافالني إلى البلاد في 17 يناير وحتى مساء الثلاثاء، ما يزيد عن 11 ألف شخص
وحسب منظمة "أو في دي إنفو" التي ترصد أعداد وأوضاع المحتجزين في التظاهرات، فقد اعتقل الأمن الروسي منذ عودة نافالني إلى البلاد من ألمانيا، في 17 يناير وحتى مساء الثلاثاء، ما يزيد عن 11 ألف شخص، صدرت بحق المئات منهم قرارات توقيف إداري لمدة تتراوح بين 3 أيام وشهر. وأشارت المنظمة إلى أنه في يوم محاكمة نافالني تم اعتقال قرابة 1408 أشخاص، معظمهم في موسكو وسان بطرسبورغ، فيما قدرت المنظمة عدد المعتقلين في تظاهرات 23 يناير الماضي بنحو أربعة آلاف شخص في 125 مدينة، ونحو 5754 على أقل تقدير في تظاهرات 31 يناير في 87 مدينة. وذكرت أنّ النيابة العامة فتحت أكثر من 40 قضية جنائية بحق مشاركين في الاحتجاجات في 20 مدينة، مشيرةً إلى أنّ حملة الاعتقالات الحالية هي الأكبر منذ قرابة 9 سنوات.
ومع زيادة حالات الاعتقال، أفادت تقارير صحافية بأنّ المحتجزين يقضون ساعات طويلة بانتظار إيداعهم في مراكز الاحتجاز المكتظة. وفي السياق، كشف تقرير نشرته صحيفة "كوميرسانت"، أمس الأربعاء، تحت عنوان "ساووا بين الموسكوفيين والأجانب المرحلين"، أنّ السلطات اضطرت إلى احتجاز المحتجين في مراكز على بعد أربعين كيلومتراً جنوب غربي موسكو، تستخدم عادة لاحتجاز الأجانب المخالفين لقوانين الهجرة والإقامة تمهيداً لترحيلهم. ونشرت الصحيفة شهادات لأفراد من عائلات المحتجزين اضطروا للانتظار ساعات عدة في البرد أمام المراكز لإيصال الطعام والملابس لأبنائهم وأقاربهم المعتقلين. ونقلت الصحيفة عن محتجزين سابقين أنهم بقوا لأكثر من عشر ساعات في سيارات الاحتجاز التابعة للشرطة من دون ماء أو طعام، وأنهم لم يتمكنوا من الذهاب إلى المراحيض أثناء تنقل الشاحنات بين مراكز الاحتجاز، وأشاروا إلى أنّ الاكتظاظ الكبير داخل الشاحنات تسبب في نقص الأوكسجين.
من جانبها، خصصت صحيفة "نوفايا غازيتا" المعارضة، غلاف صفحتها الأولى أمس، لصورة باص تستخدمه الشرطة للاعتقالات، وتظهر من نافذته بقايا لخريطة روسيا، وكتبت عبارة "أخذوها بعيداً".
مراهنات الكرملين
ويظهر الحكم القاسي، وتوقعات بحكم إضافي بحق نافالني يوم غد الجمعة، في قضية التشهير بحق أحد المحاربين القدامى (في الحرب العالمية الثانية) يدعى إيغنات أرتيمينكو، تزامناً مع زيارة وزير خارجية الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل إلى موسكو، أنّ الكرملين اختار نهجاً واضحاً في تحدي الضغوط الخارجية وانتظار حزمة عقوبات جديدة تضاف إلى العقوبات السابقة المفروضة منذ 2014. وعلى الصعيد الداخلي، فإنّ تصرفات السلطات الحاسمة في حملات الاعتقالات والترهيب، بعثت إشارة واضحة إلى انتهاء مرحلة السماح بوجود معارضة "غير نظامية" لا تدور في فلك سياسات الكرملين، والاكتفاء بمعارضة برلمانية "مدجنة" يمثلها الحزب الشيوعي الروسي، والحزب الليبرالي الديمقراطي و"حزب روسيا العادلة"، على أن يكون أقصى سقف لها هو تحسين بعض القضايا المطلبية، وطرح آراء معارضة في قضايا صغيرة، مع الالتزام بالخط العام للدولة، والدفاع عنها في وجه "هجمة غربية تهدف إلى إضعاف صعود روسيا العالمي".
قرار حبس نافالني يهدف إلى إضعاف المعارضة
ويبدو واضحاً أنّ قرار حبس نافالني الفعلي يهدف إلى إضعاف المعارضة عبر حرمانها من شخصية "كاريزمية" استطاعت جذب طيف واسع من الشباب ومناصري الأحزاب الأخرى إلى حركتها التي لم تعد تقتصر على "الليبراليين"، بل باتت تهدد بانقسامات عمودية وأفقية في الحزب الشيوعي الروسي. وعلى الرغم من أنّ قرار الحبس كان مفاجئاً بقسوته، إلا أنّه كان متوقعاً في ظلّ تغيّرات شهدتها البلاد منذ الصيف الماضي، مع إقرار الدستور الجديد وتصفير عداد الرئاسة. وربما كان السماح بتسميم نافالني قبل أشهر بداية لمرحلة جديدة لإنهاء عمل المعارضة غير النظامية في البلاد، قبل أن تتطور لاحقاً إلى إلصاق تهمة الخيانة برموز هذه المعارضة وكل المتعاطفين معها، تمهيداً لتفصيل نتائج انتخابات مجلس الدوما (البرلمان) في سبتمبر/ أيلول المقبل، بحيث تضمن لبوتين اختيار الوسيلة المناسبة والمريحة لعملية نقل السلطة في 2024.
في المقابل، فإنّ انسداد أفق الحوار السياسي بين السلطة والمعارضة غير النظامية، والقسوة الواضحة في التعامل مع المتظاهرين، تزيد من رصيد أنصار نافالني الذين يراهنون على استمرار التظاهرات حتى بداية الخريف، واجتراح أساليب جديدة للاحتجاج ترهق السلطات الأمنية، ومواصلة كشف فساد السلطة، على أمل الدفع بمرشحين منهم أو دعم مرشحين مستقلين أو شخصيات مقبولة من الأحزاب غير "روسيا الموحدة"، من أجل إضعاف قبضة حزب السلطة على البرلمان. وفي حين، يراهن أنصار نافالني على البلدان الغربية للضغط على الكرملين، فإنّ السلطات تستغلّ نداءات فرض عقوبات إضافية على المقربين من بوتين، على أنها دليل واضح على تبعية المعارضة للغرب، بعدما بدأت بتصوير الداعين للتظاهرات كمجرمين بحق رجال الشرطة، ولا يتوانون عن استخدام الأطفال لأغراض سياسية. وهو ما يمهّد لحملة أقسى بحق المحتجين لإنهاء التظاهرات الأخطر منذ نحو 20 عاماً، ليس لحجمها الذي يمكن أن يكون متواضعاً بالنسبة لسكان روسيا، ولكن بسبب انتشارها الجغرافي الواسع في أنحاء البلاد، في وقت تشهد فيه روسيا تراجعاً في الأوضاع الاقتصادية بسبب العقوبات الغربية، وتراجع أسعار النفط، وتبعات فيروس كورونا. وواضح أنّ سخونة المشهد السياسي حالياً وانعكاساته على الشارع، ستحدّد مصير روسيا لسنوات مقبلة، بين الكرملين الراغب في إجهاض الاحتجاجات بأسرع وقت من خلال المراهنة على الخيار الأمني، والمعارضة الطامحة إلى زيادة ثقلها والمحافظة على زخم الاحتجاجات في "ربيع روسيا" (فصل الربيع) الذي غالباً ما يشهد عواصف وانتكاسات تعيد الثلوج بعد ذوبانها.