يثير اتفاق قادة ثلاث دول مغاربية، هي الجزائر وتونس وليبيا، على عقد قمة رئاسية كل ثلاثة أشهر لبحث مشكلات المنطقة وتنسيق المواقف، نقاشات حول ما إذا كانت خطوة القمة الرئاسية الجزائرية التونسية الليبية محاولةً لتجاوز مؤسسة "اتحاد المغرب العربي" المجمدة منذ عام 2004 (تضم إلى جانب الدول الثلاث المغرب وموريتانيا)، ومدى إمكانية نجاح هذه القمم المصغرة في حلّ بعض المشكلات القائمة في ظلّ ظروف بالغة الهشاشة بالنسبة إلى ليبيا وصعبة بالنسبة إلى تونس.
وإذا كان الغياب المغربي يفسّر بطبيعة العلاقات مع الجزائر، تبرز تساؤلات حول عدم انضمام موريتانيا إلى هذه الخطوة وما إذا كانت قد فضلت البقاء على هامشها بالنظر إلى حساسية وضعها ولعدم تعريض علاقاتها مع المغرب لأي حرج في حال فُهمت هذه الخطوة المغاربية على أنها مبادرة جزائرية لعزل المغرب.
القمة الرئاسية الجزائرية التونسية الليبية
ومنذ الجولة الأخيرة التي قام وزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف قبل أسبوعين، وشملت تونس وليبيا وموريتانيا، كان واضحاً أن الجزائر تخطط لطرح مبادرة تسمح بخلق إطار مشترك يتيح تنسيق المواقف ومناقشة مشكلات دول المنطقة، ضمن توجهات جديدة في سياسات الجزائر لوضع العامل الاقتصادي كمحرك أساس لعلاقات جوار ناجعة. وهو ما أعلن رسمياً، ليل الأحد الماضي، عقب لقاء جمع الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون والرئيس التونسي قيس سعيّد ورئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد يونس المنفي على هامش القمة السابعة للغاز المنعقدة السبت الماضي في الجزائر.
القمة الأولى ستنعقد في تونس بعد شهر رمضان
وبحسب ما أفاد بيان للرئاسة الجزائرية، فإنه "تدارس الرؤساء الأوضاع السائدة في المنطقة المغاربية، ليخلُص اللقاء إلى ضرورة تكثيف الجهود وتوحيدها لمواجهة التحديات الاقتصادية والأمنية بما يعود على شعوب البلدان الثلاثة بالإيجاب".
كما تقرر "عقد لقاء مغاربي ثلاثي، كل ثلاثة أشهر، يكون الأول في تونس بعد شهر رمضان المبارك"، بحسب البيان.
من الناحية السياسية، قد تكون خطوة القمة الرئاسية الجزائرية التونسية الليبية إيجابية، عبر توفير إطار تنسيق سياسي عالي المستوى، يتيح توحيد المواقف وما أمكن من معالجة المشكلات القائمة بصورة أسرع تنعكس على مصالح دول وشعوب المنطقة.
ويأتي ذلك خصوصاً مع استمرار تجمد مؤسسات اتحاد المغرب العربي، بعد فشل آخر محاولة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، عندما طالبت الجزائر "بعقد اجتماع لمجلس وزراء خارجية اتحاد المغرب العربي من أجل مواصلة مسار الصرح المغاربي"، إضافة الى تباعد الخيارات الإقليمية بين كل من ليبيا وتونس والجزائر مع المغرب في ما يتعلق بالتطبيع مع إسرائيل خصوصاً.
معطيات أمنية واقتصادية
لكن نجاح هذه الخطوة الجديدة سيكون مرتبطاً بمدى النجاعة في إيجاد تصورات براغماتية للمشكلات الاقتصادية بصورة تخلق قيمة مضافة إلى المعطى الاقتصادي بين الدول الثلاث، الجزائر وتونس وليبيا، وبناء خطوط تجارة إقليمية ومناطق تجارة على الحدود تساهم في التنمية وخلق القيمة المضافة، والحد من ظاهرة التهريب، وتوفير مسارات لمد أي من الدول الثلاث بحاجياتها من مواد أو سلع تموينية في ظرفية أزمات طارئة، كما هو قائم في مسألة التمويل بالكهرباء، إضافة إلى تطوير خطوط نقل مشتركة والتفكير في خط سكة حديد يربط البلدان الثلاثة.
ويدرج متابعون هذه الخطوة ضمن سياق توجه جديد للجزائر في هندسة علاقات الجوار، تقوم على إعطاء أهمية قصوى للبعد الاقتصادي في هذه العلاقات من أجل ضمان استدامتها.
فقبل أسبوعين، أعلن الرئيس الجزائري عن إقامة منطقة تبادل تجاري حرّ مع تونس، تم التفاهم بشأنها خلال زيارة رئيس الحكومة التونسية أحمد الحشاني إلى الجزائر في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. وشجّعت على هذه الخطوة البيانات الاقتصادية، حيث زاد حجم المبادلات التجارية بين البلدين إلى حدود 60 في المائة مع نهاية العام الماضي.
كما تم الإعلان عن منطقة أخرى مع ليبيا تزامناً مع ترتيبات لإعادة فتح المعبر البرّي الدبداب غدامس بين الجزائر وليبيا، في خطوة تستهدف رفع حجم التبادلات التجارية بين البلدين لتصل إلى حدود 3.1 مليارات دولار، خصوصاً لتصريف فائض المحصول الزراعي. ويضاف إلى ذلك قرار بإقامة معرض للإنتاج الجزائري الموجه للسوق الليبية.
ومنذ شهر نوفمبر الماضي، نجحت الجزائر وتونس وليبيا في إتمام الربط التزامني بين شبكات نقل الكهرباء بالجزائر وتونس وليبيا، ورفع حجم المبادلات البينية إلى أكثر من 2 في المائة بين هذه الدول.
ويرى الخبير الاقتصادي أحمد جيلالي، في حديث مع "العربي الجديد"، أن هذه الخطوة المشتركة "يمكن أن تسهل إمكانية تطوير إطار اللقاءات الرئاسية المرتقبة إلى أطر أخرى على مستوى القطاعات الوزارية المعنية بمسائل التجارة، من خلال رفع التعرفات الجمركية على السلع، وإنشاء مصارف مشتركة، وتحديث البنية التحتية المشتركة لخطوط النقل البرّي".
ويذكّر جيلالي بوجود طريق يربط الجزائر بتونس ويمتد إلى الحدود التونسية الليبية على مسافة 1800 كيلومتر، لافتاً أيضاً إلى إمكانية تطوير النقل بالسكك الحديدية، "حيث تفكر الجزائر وتونس في إعادة تفعيل الخط الذي توقف قبل عقدين، والذي كان مقرراً تفعيله في أغسطس/ آب 2017، كجزء من مشروع القطار المغاربي الذي كان قد طرح مشروعه في تلك الفترة".
تأتي الخطوة مع استمرار تجمد مؤسسات اتحاد المغرب العربي
ويعتبر باحثون أن المقاربة الاقتصادية الجديدة للجزائر قد تساهم في تركيز حلول لبعض مشكلات المنطقة. وبالنسبة للباحث في جامعة أم البواقي عمر سيغة، والذي كان قد أعد دراسة حول التحديات الأمنية في المنطقة، فإن هذه الخطوة التي تقودها الجزائر تؤكد أن "هناك إعادة تموضع هام لهذا البلد في مجاله الجغرافي الطبيعي، وإعادة توجيه للجهد الدبلوماسي نحو تحكم أفضل في مسارات ذات بعد اقتصادي وشراكات يمكن أن تبصر النور عن قريب وتتجسد على أرض الواقع، تساعد على إحلال معالجات اقتصادية واقعية للكثير من المشكلات ذات الصلة بالمسألة الأمنية بمفهوم الأمن الشامل، سواء محاربة الإرهاب أو شبكات الجريمة والتهريب".
الجزائر... إعادة تموضع في الامتداد الاستراتيجي
وإضافة إلى البعد الاقتصادي، فإن المسألة الأمنية تبدو في صلب خطوة القمة الرئاسية الجزائرية التونسية الليبية الجديدة، خصوصاً أن الدول الثلاث التي تتقاسم الحدود وتتشارك بعض نقاطها، معنية بشكل مترابط بأي من المعضلات الأمنية، تحديداً تلك المتأتية من التطورات من منطقة الساحل.
كما أن المخاوف قائمة لدى الدول الثلاث من أي تطورات في المنطقة من جهة، ومن جهة ثانية معضلة الهجرة غير النظامية، حيث كانت الموجة الأخيرة للمهاجرين قد برزت في المناطق الجنوبية للدول الثلاث بشكل متزامن.
إضافة إلى البعد الاقتصادي، فإن المسألة الأمنية تبدو في صلب الخطوة الجديدة
وفي السياق، يرى الباحث في العلاقات الدولية في جامعة عنابة، شرقي الجزائر، خالد خليف، في حديث مع "العربي الجديد"، أن هذه الخطوة "تأتي لتفتح باباً تعاونياً بين دول المغرب العربي في مسار آخر خارج المسار التقليدي الكلاسيكي الذي تجمد كلياً خلال العقدين الأخيرين".
ويعرب خليف عن اعتقاده بأن "التحركات السياسية والخطوات الاقتصادية المتسارعة للجزائر مع كل موريتانيا وتونس وليييا سيكون لها أثر هام في رصّ الصف المغاربي تجاه القضايا الداخلية لهذه الدول، خصوصاً ليبيا، وكذا القضايا المشتركة كقضايا الحدود والأمن ومحاربة الجريمة من دون أن ننسى تحريك العجلة الاقتصادية وأهمها التبادل التجاري".
ويلفت الباحث في العلاقات الدولية إلى أن هذا المستوى من اللقاءات بشكل مستمر يأتي "في سياق وظرفية سياسية مهمة يجب قراءتها من خلال العديد من الجوانب، أولها خصوصاً بالنسبة للجزائر، إذ إنها اليوم تحاول التقرب أكثر من أي وقت مضى من جيرانها باعتبارهم الامتداد الاستراتيجي والحيوي لها، وكذلك من ناحية حشد الجهود السياسية والأمنية للمخاطر التي تهدد المنطقة".
وفيما تم تحديد القمة كل ثلاثة أشهر، فإن بعض المراقبين يلفتون إلى طبيعة السنة الجارية 2024، والتي تبدو حسّاسة بالنسبة للداخل في الدول الثلاث، إذ تمثل سنة الانتخابات الرئاسية في كل من تونس والجزائر. كما يرتقب هذا العام تسارع ترتيبات الحل السياسي في ليبيا.
ويثير غياب موريتانيا عن الخطوة تساؤلات عدة. وعلى الرغم من حضور الرئيس الموريتاني محمد ولد الغزواني في قمة منتدى الدول المصدرة للغاز، السبت الماضي، في الجزائر، إلا أنه لم ينضم إلى الاجتماع.
من الناحية المبدئية، قد تجيب الجغرافيا في بعدها السياسي والأمني على هذا التساؤل، إذ إن الجزائر وتونس وليبيا تتقاسم حدوداً متقاربة ومشتركة في بعض النقاط، كبرج الخضراء، غير بعيد عن غدامس الليبية والدبداب الجزائرية، وهو ما يجعل بعض الانشغالات الأمنية مشتركة بينها دون أن تعني موريتانيا التي لا تتشارك الحدود سوى مع الجزائر. لكن هناك معطى سياسياً يقول إن موريتانيا ربما تكون قد فضّلت البقاء على هامش هذه الخطوة، بالنظر إلى حساسية وضعها ولعدم تعريض علاقاتها مع المغرب لأي حرج في حال فُهمت هذه الخطوة المغاربية على أنها مبادرة جزائرية لعزل المغرب.