منذ اندلاع الصراع العسكري بين الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع" في 15 إبريل/ نيسان الماضي، تتعرض الأحياء السكنية في العاصمة الخرطوم للتدمير بسبب استخدام الأسلحة الثقيلة والغارات الجوية، إلى جانب ما يُعرف بالقصف العشوائي، والذي يستهدف مناطق سكنية لا تضم أي أهداف عسكرية، وسط إنكار الطرفين مسؤوليتهما عن هذه الهجمات التي أدت إلى مقتل وإصابة عدد كبير من المدنيين.
وبحسب ما رصدته "العربي الجديد" خلال الأسبوعين الماضيين، طاولت عمليات القصف الجوي والمدفعي المتبادل بين الجيش و"الدعم السريع"، أكثر من سبع مناطق سكنية في الخرطوم، شملت أحياء جنوب الحزام، وسوق قورو، وأم بدة، والشعبية، والثورة، وبانت والعباسية، إضافة إلى مدينة نيالا في جنوب دارفور غربي البلاد. ووصل عدد الضحايا المدنيين الذين قُتلوا نتيجة القصف إلى أكثر من 150 شخصاً، حسب ما أعلنت غرف الطوارئ ولجان الأحياء.
طاول القصف الجوي والمدفعي في الأسبوعين الماضيين أكثر من 7 مناطق في الخرطوم
ضحايا القصف في الخرطوم وإدانات
وقال المتحدث باسم غرفة طوارئ منطقة جنوب الحزام في الخرطوم، محمد عبد الله، لـ"العربي الجديد"، إنه في 10 سبتمبر/ أيلول الحالي، لقي أكثر من 40 شخصاً مصرعهم وأصيب آخرون، نتيجة قصف عشوائي استهدف سوق قورو في منطقة جنوب الحزام، والذي كان مكتظاً بالمدنيين.
وأضاف أن حوالي الساعة 7:15 صباح ذلك اليوم، نفذ الطيران الحربي غارة على السوق، وتوافدت حالات الوفيات والإصابات إلى مستشفى بشائر، موضحاً أن غرفة طوارئ جنوب الحزام اضطرت لدعوة الكوادر الطبية والمتطوعين بالمنطقة، للتوجه نحو المستشفى في أسرع وقت.
كما ناشدت المواطنين بالتوجه لبنك الدم للتبرع بالدم، وتم التعامل مع الوفيات والإصابات وسط ضغط كبير تعرض له المستشفى.
وأشار عبد الله إلى أن آخر ما تعرضت له المنطقة في 19 سبتمبر الحالي سقوط ثلاث قذائف صباحاً. وسقطت القذيفة الأولى بحي الإنقاذ مربع 3، توفي على أثرها طفل واحد، كذلك تسببت في تلف جزئي للمنزل المستهدف، فيما سقطت القذيفة الثانية على الحد الفاصل بين حي الإنقاذ مربع 3 والأزهري مربع 12، من دون تسجيل خسائر في الأرواح والممتلكات.
والقذيفة الثالثة استهدفت الأزهري مربع 12 وخلفت عدداً من الجرحى تم نقلهم لمستشفى بشائر وتلقوا العلاج، وحالاتهم مستقرة تماماً.
من جهتها، قالت منسقة الطوارئ في منظمة "أطباء بلا حدود" في الخرطوم، ماري بيرتون، في بيان صحافي في 12 سبتمبر الحالي: "كان يوماً يغمره الرعب. ولساعات، ظلت عشرات الجثث ملقاة تحت الأغطية في ساحة المستشفى (بشائر) حتى جاءت العائلات للتعرف إلى أحبائها المفقودين".
وأضافت أن "موظفينا بذلوا قصارى جهدهم لإنقاذ حياة الناجين الذين كانت جروحهم تدل على القوة الكبيرة للأسلحة المستخدمة إذ كانت أجزاء من أجسادهم ممزقة وكانت بطون البعض مفتوحة".
وينفي الجيش السوداني استهداف المدنيين أو قصف الأحياء السكنية، ويقول إن قوات "الدعم السريع" تحاول إلصاق التهمة بالجيش لتشويه سمعته، فيما تتهم "الدعم" الجيش بقصف المدنيين وأماكن تجمعاتهم في الأسواق وداخل الأحياء. وقال الجيش في بيان يوم 17 سبتمبر الحالي، إن قوات "الدعم السريع" تواصل استهداف الأحياء السكنية بالقصف العشوائي، وإنها قصفت في اليوم نفسه أحياء بانت والعباسية والموردة وما حولها مما أدى إلى جرح 40 مدنياً.
وبعد قصف أسقط عدداً من الإصابات في مدينة الخرطوم بحري، تعرّضت له عدة مرات خلال الأسبوعين الماضيين، اعتبرت لجان أحياء بحري، أن عدم التمييز بين المقاتلين وغير المقاتلين وأحيائهم السكنية ونقاط تجمعهم من قبل قوات القصف، يقابلها استخدام المواطنين كدروع بشرية من قبل "الدعم السريع"، هو أوضح انتهاك للقانون الدولي الإنساني وقواعد الاشتباك الدولية من الطرفين.
بدورها قالت مجموعة "محامي الطوارئ" الحقوقية، في بيان في 10 سبتمبر الحالي، إن القصف الذي يتم لمناطق مأهولة بالسكان، يعد من الأفعال التي تصنف على أنها جرائم ضد الإنسانية وهي من أخطر الجرائم في القانون الدولي ولا تسقط بالتقادم. وأضافت "ندين بشدة هذا النهج غير الإنساني والجرائم والتي ترتكب بحق المدنيين العزل من قبل طرفي النزاع، وعدم احترامهم قواعد القانون الدولي الإنساني".
كما دانت منسقة الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة في السودان، كليمنتين نكويتا سلامي، بتاريخ 11 سبتمبر، الهجمات العشوائية على المناطق السكنية في الخرطوم. وأشارت في تغريدة على موقع "إكس" (تويتر سابقاً) إلى مقتل وجرح عشرات الأشخاص خلال هجوم استهدف أحد الأسواق في ضواحي الخرطوم في 9 سبتمبر.
الجيش والدعم السريع متورطان بالقصف
المواطن السوداني السنوسي أحمد، من سكان الحارة 29 بحي الثورة في مدينة أم درمان، اضطر وأسرته للفرار من منزلهم بعد أن كانت منطقتهم تحظى باستقرار نسبي. وقد نزح إلى منطقة أبعد في أم درمان بعد عمليات قصف عنيف تعرض له الحي وطاول منزلهم الذي سقطت داخله قذيفة هشمت جزءاً كبيراً منه.
وقال لـ"العربي الجديد" إنه أصبح مشرداً الآن، "لكن المهم هو أن أسرته كانت قد خرجت إلى منطقة أخرى قبل القصف بأيام، ثم لحق بهم عقب تهشم المنزل". ويسعى أحمد حالياً لإخراجهم إلى ولاية أخرى، لافتاً إلى أن "عمليات القصف العشوائي تصيب منازل وتجمعات المواطنين ولا تطاول أي هدف عسكري داخل الأحياء".
وأضاف أن "المواطنين عانوا كثيراً من استخدام المدفعية الثقيلة في قصف الأحياء من قبل الطرفين"، مشيراً إلى أنه في "أحد الأيام دارت معركة داخل الحي استمرت ما يقارب من 12 ساعة، وبعد توقفها وخروج المواطنين لتفقد بعضهم بعضاً اكتشفوا مقتل 3 جنود و7 مدنيين، وإصابة عشرات المنازل".
الجيش والدعم السريع لا يحترمان حقوق المدنيين
من جهته، قال المحامي والمدافع عن حقوق الإنسان عثمان صالح، لـ"العربي الجديد"، إن القصف العشوائي للمدنيين مستمر من قبل طرفَي الصراع في السودان، لافتاً إلى أن "المدنيين محميون بقوانين دولية سواء كان النزاع دولياً، أو داخلياً مثل حالة السودان".
وأوضح أنه "في ظل هذا النزاع العسكري في السودان فإن المدنيين تحميهم اتفاقيات جنيف الأربع للعام 1949، خصوصاً الاتفاقية الرابعة، والمتعلقة بحماية المدنيين أثناء النزاعات المسلحة". وتُلزم هذه الاتفاقية "الأطراف المتحاربة بعدم الاعتداء أو مضايقة المدنيين لأنهم ليسوا طرفاً في النزاع المسلح، وبجب احترام كل حقوقهم، وهي حقهم في الحياة وحق التحرك والأمان وعدم ترويعهم".
وقال: "لاحظنا أن الطرفين لا يحترمان حقوق المدنيين المحميين بموجب اتفاقيات دولية، ورأينا قصف المنازل من الطرفين، الجيش بالطيران والدعم السريع بالمدافع والكاتيوشا وغيرها، وقصف الأسواق سواء في مدينة نيالا أو الخرطوم أو مدن أخرى، والاعتداء على المستشفيات وتدميرها بالقصف العشوائي".
عثمان صالح: ارتكب الجيش والدعم السريع جريمة بموجب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية
وبذلك فبحسب صالح، فإن "الطرفين بالأفعال التي قاما بها ضد المدنيين، قد ارتكبا جريمة بموجب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، لأنه حدد بعض الجرائم التي تختص بها المحكمة ومن ضمنها جرائم الحرب الواردة في المادة 8 منه". وأشار إلى أنه في تفصيل المادة 8 "هناك إشارة لتعمد توجيه الهجمات ضد السكان المدنيين والمنشآت المدنية".
ورأى صالح، أنه يمكن أن يكون الأشخاص مرتكبو هذه الجرائم أو القادة العسكريون مسؤولين بنفس المستوى عن هذه الأفعال "إذا لم يمنعوا جنودهم أو يحققوا معهم، وسيتعرضون للمحاكمة لارتكابهم جريمة حرب". وأضاف أن ما يحصل اليوم "يستدعي لجان تحقيق دولية لتحديد المسؤوليات، أو إحالة الملف للمحكمة الجنائية الدولية لتتولى بنفسها التحقيق في هذه الجرائم، وتحديد المسؤولية وتقديم المسؤولين للمثول أمامها للمحاكمة".