بعيداً عن الملفات التقليدية الموروثة من الإدارات الأميركية المتعاقبة، مثل أفغانستان والعراق وسورية، اختارت الإدارة الأميركية بقيادة جو بايدن، تفعيل حضورها في منطقة القرن الأفريقي (تضمّ السودان، جنوب السودان، إريتريا، جيبوتي، إثيوبيا، الصومال، كينيا، أوغندا)، خصوصاً بعد تفاقم الخلافات بين دول المنطقة وفي داخل كل دولة، وتأثيرها على الملاحة في البحر الأحمر بين مضيق باب المندب وقناة السويس. وتخشى الولايات المتحدة عملياً من تراجع نفوذها في المنطقة وسقوط تحالفاتها، واستطراداً خسارة ورقة جديدة في تنافسها مع الصين، مع ما سيستولده ذلك من عبء إضافي على نهج بايدن، وتأثيره في السياسة الخارجية. وأعلن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن عن تعيين الدبلوماسي المعروف في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، جيفري فيلتمان ليكون مبعوث الولايات المتحدة للمنطقة. واعتبر بلينكن في بيان التعيين، يوم الجمعة الماضي، أن هذا الأمر "يؤكد التزام الحكومة بذل جهد دبلوماسي دولي لمعالجة الأزمات السياسية والأمنية والإنسانية المترابطة في القرن الأفريقي". وعبّر عن "القلق البالغ" إزاء "الوضع غير المستقر في إثيوبيا"، لا سيما بسبب النزاع في إقليم تيغراي. ورفعت الولايات المتحدة لهجتها أخيراً، مستنكرة "التقارير عن الاغتصاب وغيره من أشكال العنف الجنسي التي لا توصف" في الإقليم الواقع شمالي إثيوبيا.
فيلتمان: سورية مجرد لعبة أطفال مقارنة مع ما قد يحصل في إثيوبيا
وتتقاطع التقارير في أولوية حلّ أزمة إقليم تيغراي لدى واشنطن. وكان النزاع في الإقليم قد اندلع في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، على خلفية إخضاع الحكومة الفيدرالية بقيادة رئيس الوزراء أبي أحمد "جبهة تحرير شعب تيغراي". وعلى الرغم من إعلان أحمد بعد شهر من المعارك عن انتهائها، في ظلّ غياب التغطية الإعلامية لها، إلا أنه تبيّن لاحقاً استمرار الحرب، بل ومشاركة القوات الإريترية فيها دعماً للقوات الإثيوبية. وأدت الاشتباكات إلى نزوح مليون شخص من الإقليم ولجوء 60 ألفاً إلى السودان المجاور، كما أعلنت الأمم المتحدة أن 4.5 ملايين شخص من أصل 6 ملايين هم عدد سكان تيغراي، يحتاجون إلى الغذاء بصورة عاجلة. وعلى وقع حصول مجازر وانتهاكات واعتداءات، حاولت واشنطن، خلال العملية الانتقالية التي تلت انتخاب بايدن، توجيه الأنظار إلى المنطقة، فعينت السيناتور كريس كونز موفداً شخصياً للرئيس الأميركي، قبل تعيين فيلتمان أخيراً. وتخشى واشنطن من استمرار الحرب في تيغراي، وهو ما كان واضحاً في أول حديث لفيلتمان بعد تعيينه، وأجرى مقارنة بين الوضع الإثيوبي وسورية. وقال "انظروا إلى الانهيار في سورية وفوضى الحرب الأهلية، إن أزمة اللجوء تركت تأثيراً على أوروبا، كما أن صعود المنظمات الإرهابية يملأ الفراغ الناجم عن الانهيار". وأضاف "كان عدد سكان سورية قبل الحرب (في عام 2011) 22 مليوناً، بينما يبلغ عدد سكان إثيوبيا 110 ملايين. بالتالي إذا استمرت التوترات بالتفاقم هناك، فستؤدي بالبلاد إلى الغرق في حرب أهلية ستتجاوز إقليم تيغراي، حينها ستكون سورية مجرد لعبة أطفال مقارنة مع ما سيحصل في إثيوبيا".
وقال فيلتمان إنه ينوي بدء محادثات صعبة مع آبي والرئيس الإريتري أسياس أفورقي بشأن الصراع، معتبراً أنه "من المخيب عدم انسحاب القوات الإريترية من تيغراي، بل عززت حضورها حتى". وتوقع أن يكون حواره مع آبي أسهل من أفورقي، متوقعاً أن يشكّل هدف "إثيوبيا الموحّدة" نقطة انطلاق لأي حوار. في المقابل، فإن أفورقي الممسك بإريتريا منذ عام 1993، قد لا يتراجع بسهولة عن تيغراي. وإذا كانت قضية تيغراي أساسية في مهمة فيلتمان إلا أن ملفات عدة تنتظره، بدءاً من الخلاف الحدودي بين السودان وإثيوبيا، وتأثيره على المفاوضات المتعثرة بشأن سد النهضة. فالخلاف الحدودي المستمر منذ الخريف الماضي، يهدد بتفجير الوضع، خصوصاً أن المرحلة الانتقالية في السودان هشّة، وتأثير مثل هذه الحروب قد يفضي إلى زعزعة أسس المرحلة الحالية في الخرطوم. والملف الثاني من حيث الأهمية، هو ملف سد النهضة بالذات، الذي يحاول فيه بايدن الخروج من عباءة ترامب، تحديداً بعد قول الأخير قبل مغادرته البيت الأبيض، إن "مصر تهدد بقصف السد"، مؤججاً التوترات من جهة، ومكرّساً الخلاف المصري ـ الإثيوبي من جهة أخرى. وحول هذا الأمر قال فيلتمان: "أشعر بالخوف من التحدي المتمثل في ذلك. إنه جزء معقد من العالم، وفيه الكثير من الأزمات المتداخلة، التي تحصل في الوقت نفسه. لكن المنطقة هامة للغاية من الناحية الاستراتيجية للولايات المتحدة وحلفائنا". وبشأن سدّ النهضة، اعتبر فيلتمان أن هناك إمكانية لإحراز تقدم محتمل في المحادثات بين إثيوبيا والسودان ومصر لتجنب أزمة دبلوماسية كبيرة. وشدّد على أن الاختلافات "ليست غير قابلة للتسوية بطبيعتها"، مستدركاً: "لا يمكن التظاهر بالقدرة على معالجة أزمة الثقة بين ليلة وضحاها". وتهتمّ الإدارة الأميركية أيضاً بالملف الصومالي، خصوصاً بعد تمديد الرئيس عبدالله فرماجو ولايته عامين إضافيين، وتأجيل الانتخابات التشريعية والرئاسية، في ظلّ انزلاق البلاد إلى العنف. وعلى الرغم من معاناة الصوماليين من سيطرة تنظيم "حركة الشباب" المتشدد على مساحات واسعة من البلاد، إلا أن الجبهة المقابلة له بدأت تتضعضع على وقع اشتباكات العاصمة مقديشو بين أنصار فرماجو ومناوئيه، في ظلّ انقسام قوات الأمن. وآخر إفرازات الصراع الصومالي، كان بدء عمليات فرار للسكان، أول من أمس الاثنين. ومع رفض فرماجو التراجع عن تمديد ولايته، من المرجح، وفي ظلّ طبيعة الصومال القبلية، عودة شبح الحرب الأهلية إلى البلاد. مع العلم أن التأثير الصومالي قد يمتد إلى إقليم أوغادين الإثيوبي وكينيا المجاورة، التي تعاني من صعوبة بالغة في مواجهة تفشي وباء كورونا. أما أوغندا، التي لا يحتل ملفها مركزاً أساسياً في سلّم الأولويات في القرن الأفريقي، فإنها تغرق بدورها في اضطراباتها الداخلية، بعد انتخاب الرئيس يوري موسوفيني لولاية سادسة على التوالي في يناير/كانون الثاني الماضي، وبدئه حملة قمع لأنصار المرشح الخاسر، بوبي واين، والمعارضة عموماً. لكن الاهتمام الأميركي بمنطقة القرن الأفريقي قد يكون له دوافع أخرى: الصين التي يظهر تمددها واضحاً في المنطقة، وفي جيبوتي تحديداً، عبر بناء بكين واحدة من أكبر قواعدها العسكرية خارج البلاد، فضلاً عن ضخّها استثمارات ضخمة في جيبوتي وإثيوبيا. وسبق لبايدن أن حدد الصين كأولوية خارجية قصوى دبلوماسياً. بالتالي لا يُمكن فصل القرن الأفريقي عن بحر الصين الجنوبي وأفغانستان، كساحات صدام أميركية ـ صينية مباشرة. في المقابل، أبدى الممثل الخاص للاتحاد الأوروبي في القرن الأفريقي، ألكسندر روندوس، سعادته في تعيين فيلتمان. وفنّد الأمر بقوله: "لقد كنا بمفردنا لسنين طويلة، وانتظرنا اليوم الذي تعيّن فيه الولايات المتحدة شخصاً ما ليكون نظيراً ويساعد حقاً في تشكيل جهد مشترك". وأضاف أن "خبرة فيلتمان واتصالاته في الشرق الأوسط ستكون ضرورية لهذا المنصب، بالنظر إلى الدور المتزايد لدول الخليج في القرن الأفريقي". ولفت إلى أن "الخليج بدأ يدرك أن القرن الأفريقي هو جانبه الغربي، ومن الأفضل لأي شخص في الغرب يعتقد أننا اللاعبون الوحيدون هناك، أن يستيقظ ويفهم أن هناك كل أنواع اللاعبين الآخرين الذين سيبقون هناك".
تبني الصين أكبر قاعدة عسكرية لها خارج البلاد في جيبوتي
وفيلتمان دبلوماسي مخضرم بدأ عمله في هايتي عام 1986، ثم عمل في السفارة الأميركية في المجر بين عامي 1988 و1991، حيث شهد على انهيار كتلة دول أوروبا الشرقية الموالية للاتحاد السوفييتي. واستمر في العمل في أوروبا الشرقية والوسطى حتى عام 1993. بعدها، درس فيلتمان اللغة العربية في جامعة الأردن في عمّان، منتقلاً للعمل في السفارة الأميركية في تل أبيب بين عامي 1995 و1998، وكان مولجاً بمتابعة الوضع الاقتصادي لقطاع غزة. ثم انتقل للعمل في السفارة الأميركية في تونس بين عامي 1998 و2000. وعاد إلى تل أبيب كمساعد خاص للسفير مارتن أنديك بين عامي 2000 و2001، قبل أن ينتقل للعمل في القنصلية الأميركية في القدس المحتلة بين عامي 2001 و2003. وعمل في مكتب "سلطة الائتلاف المؤقتة" في إربيل، في كردستان العراق بين عامي 2003 و2004، قبل أن يصبح سفيراً للولايات المتحدة في لبنان، بين عامي 2004 و2008، شاهداً على اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، والعدوان الإسرائيلي على لبنان في يوليو/تموز 2006. بعدها عاد للولايات المتحدة، وعمل مساعداً لوزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى بين عامي 2009 و2012. وكان وكيلاً للأمين العام للأمم المتحدة للشؤون السياسية بين عامي 2012 و2018، فزار إيران وكوريا الشمالية، في سياق مهمته.
(العربي الجديد)