قبل نحو 35 عاماً، وصفت رئيسة الوزراء البريطانية الراحلة مارغريت ثاتشر الصحافي بوريس جونسون بـ"المفضّل لديها"، بسبب مقالاته المشكّكة بجدوى بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي.
ومع أنه لم يكن ذا قدرة قيادية مؤثرة لدى حزب المحافظين، إلا أن وصول جونسون إلى 10 داونينغ ستريت في 24 يوليو/تموز 2019 تمّ بعد بدء لندن إجراءات الانفصال عن الاتحاد الأوروبي.
وهو ما عُدّ نصراً كبيراً له، ولـ"الثاتشرية" في مكان ما. الصعود الصاروخي في استطلاعات الرأي، ثم الفوز الانتخابي الكاسح في تشريعيات 12 ديسمبر/كانون الأول 2019، الأكبر للمحافظين منذ عام 1987، أيام ثاتشر بالذات، تحوّل في الأشهر والأسابيع الأخيرة إلى كابوس قد يؤدي إلى خروج جونسون من مقرّ رئاسة الوزراء، بسبب تتالي الفضائح السياسية والاجتماعية.
أزمة الحفلات في المقرّ الحكومي
أحدث الفضائح التي تهزّ بريطانيا حالياً، هي أزمة "إقامة حفلات في المقرّ الحكومي، في ظلّ الإغلاق العام الذي فرضته الحكومة لمواجهة تفشي فيروس كورونا".
وتسابق الإعلام البريطاني في الأيام الماضية على نشر وثائق وصور تدلّ على خرق جونسون وفريقه فترة الإغلاقات. تعددت الحفلات، ومنها حفل نظّمه فريق عمل رئيس الوزراء في مايو/أيار 2020 تخلّله تقديم مشروبات كحولية وحضره جونسون شخصياً، في وقت كانت فيه قواعد التباعد الاجتماعي المفروضة تحظر التجمعات.
ونظّم حفلان في إبريل/نيسان 2021 في فترة التحضير لمراسم دفن الأمير فيليب، زوج الملكة إليزابيث الثانية. ونُشرت صورة توصيل ثلاجة عند المدخل الخلفي لمقر رئاسة الحكومة في ديسمبر 2020 مخصصة لحفلات شرب نبيذ كانت تنظم أيام الجمعة.
كما نُشرت صورة لكاري زوجة رئيس الوزراء وهي تعانق أحد الأصدقاء في حفل أقيم في سبتمبر/أيلول 2020، فيما يبدو خرقاً لقواعد التباعد الاجتماعي.
وحضر جونسون حفلاً لتوديع مستشاره العسكري ستيف هايام قبيل عيد الميلاد 2020. حاول جونسون تطويق التداعيات عبر تقديم سلسلة من الاعتذارات، ومنها في مجلس العموم (البرلمان) الأسبوع الماضي، غير أن الأمر لم يكفِ للجم تصاعد المواجهة ضده.
طالب ستة من مشرّعي حزب المحافظين رئيس الوزراء علناً بالاستقالة
وطالب ستة من مشرّعي حزب المحافظين رئيس الوزراء علناً بالاستقالة، فيما أعلن آخرون أنهم يتريثون بانتظار صدور نتائج التحقيق الداخلي الذي تجريه المسؤولة في الخدمة المدنية سو غراي.
وسعى جونسون لتدارك الأمر مطلعاً غراي على كل ما يعرفه، وذلك قبيل نشر تقريرها خلال هذا الأسبوع. وغرد الوزير السابق تيم لوتون قائلاً: "لقد توصلت للأسف إلى استنتاج بأن موقف بوريس جونسون في الوقت الراهن يتعذر الدفاع عنه، واستقالته هي الطريقة الوحيدة لإنهاء هذا الفصل المؤسف، وأعمل مع زملائي للضغط من أجل وجهة النظر هذه".
من جهته، أقرّ وزير الثقافة، نائب رئيس حزب المحافظين أوليفر داودن بأن الحفلات التي نُظّمت في مقر رئاسة الحكومة "غير مقبولة على الإطلاق"، مضيفاً أن جونسون "نادم للغاية". الا أن داودن أيد بقاء جونسون في منصبه في حديث لشبكة "سكاي نيوز" أجراه المذيع تريفور فيليبس، الذي أجهش بالبكاء وهو يصف الامتثال للإجراءات عند وفاة ابنته خلال الوباء.
وقال نواب محافظون، أمضى كثر منهم نهاية الأسبوع في دوائرهم الانتخابية، إنهم تلقوا سيلاً من الرسائل التي وجّهها ناخبوهم عبّروا فيها عن غضبهم إزاء معلومات تفيد بمخالفة القانون في مقر رئاسة الحكومة.
مع العلم أن حكومة جونسون نفسها أقرّت قيوداً جديدة "لمكافحة تفشي كورونا" في ديسمبر الماضي، إلا أنها وُوجهت بشكوك من داخل الصفوف المحافظة.
من جهته، اعتبر زعيم "العمال" المعارض كير ستارمر، الذي ارتفعت شعبيته في استطلاعات الرأي في ضوء ما سمي فضيحة "بارتي غيت" (فضيحة الحفلات) أن الوقائع أصبحت جلية.
وقال ستارمر في تصريح لشبكة "بي بي سي" البريطانية: "أعتقد أنه (جونسون) خالف القانون"، مشيراً إلى أن جونسون "أقر بذلك". وأضاف أن ما يتعيّن على غراي القيام به هو فقط إثبات الوقائع، مطالباً الشرطة بالنظر في إمكان فتح تحقيق جنائي بعد صدور تقرير غراي.
تراجع المحافظين في استطلاعات رأي
ومنحت ثلاثة استطلاعات للرأي تقدماً كبيراً لـ"العمال" في أي انتخابات. وفي السياق، نشرت شركة "أوبينوم"، التي تملك مقرّين رئيسيين، في العاصمة البريطانية لندن ونيويورك الأميركية، نتائج استطلاع للرأي أُجري بين 12 يناير/كانون الثاني الحالي و14 منه، شارك فيه 2005 بريطانيين.
منحت الاستطلاعات تقدماً مريحاً لـ"العمال"، هو الأول من نوعه منذ عام 2013، بحصوله على 41 في المائة من نوايا المستفتين، في مقابل 31 في المائة للمحافظين.
ويخشى الحزب الحاكم من أن يؤدي بقاء جونسون في منصبه، إلى تهديد قوته في الانتخابات المحلية المقررة في 5 مايو المقبل، ما يجعل موقفه ضعيفاً في الانتخابات التشريعية المقررة في موعد أقصاه 2 مايو 2024.
منحت ثلاثة استطلاعات للرأي تقدماً كبيراً لـ"العمال" في أي انتخابات مقبلة
لم يثر جونسون الغضب الشعبي فقط بسبب الحفلات، بل إن فترة حكمه التي ناهزت العامين ونصف العام، بدت مليئة بفضائح عدة، ومنها تنحّي كبير موظفي الحكومة سايمون كيس عن قيادة تحقيق في حفلات في المكاتب الحكومية، الشهر الماضي.
كما وجّهت استقالة الوزير المسؤول عن ملف "بريكست" ديفيد فروست الشهر الماضي أيضاً، ضربة قوية لجونسون. وعلّل فروست استقالته بقوله: "أشعر بخيبة أمل من النهج الذي تسلكه الحكومة".
وفي ديسمبر الماضي أيضاً، فرضت هيئة الرقابة الانتخابية للمحافظين غرامة قدرها 17800 جنيه استرليني (23500 دولار) لعدم تقديم تقارير دقيقة عن عملية تبرع، ساهمت في تمويل تجديد المقر الرسمي لإقامة جونسون.
وتعيد الغرامة فتح تساؤلات حول الجهة التي دفعت الأموال نظير هذا العمل، وقدّرتها بعض وسائل الإعلام بمئات الآلاف من الجنيهات، مشيرة إلى أن جونسون كان على علم بالأمر.
فضائح بالجملة
وعانى جونسون في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، من فضيحة فساد لاحقت النائب السابق عن المحافظين في دائرة نورث شروبشاير، أوين باترسون.
وتسرّع رئيس الوزراء بمحاولة حماية باترسون، عبر تغيير اللوائح من أجل إنقاذه، إلا أن موجة الانتقادات التي لاحقته، دفعته للتخلّي عن باترسون، ثم خسارة مقعد نورث شروبشاير لمصلحة هيلين مورغان عن الحزب "الليبرالي الديمقراطي".
وفي سبتمبر الماضي، تعرّضت بريطانيا لنقص حادّ في المحروقات، بسبب تسريب إحاطة حكومية حول النقص في عدد سائقي الشاحنات، ما أدى إلى تدفق المواطنين إلى محطات الوقود، والوقوف في طوابير طويلة.
وأدى ذلك إلى ارتفاع أسعار المشتقات النفطية، والاستعانة بالجيش لتغطية نقص السائقين، وتأمين ديمومة سلاسل التوريد. ومع أن جونسون عزا ذلك إلى "عودة الاقتصاد العالمي إلى الحياة"، إلا أن اقتصاديين كثر نفوا ذلك.
عانى جونسون من أزمات مع أميركا والصين وفرنسا
وفي نوفمبر 2020، استقال مدير الاتصالات في 10 داونينغ ستريت، لي كاين، بسبب وقوع صراع داخلي في مجلس الوزراء. ودعا جونسون، كبير مستشاريه السابق دومينيك كامينغز، للاستقالة.
وفي 26 مايو 2021، شنّ كامينغز هجوماً غير مسبوق على جونسون، خلال تقديمه إفادة في البرلمان، استمرت سبع ساعات، وجاء فيها أن "جونسون غير لائق لوظيفته" وأن "عشرات الآلاف من الأشخاص لم يكن يجب أن يموتوا بسبب سلوك إجرامي لجونسون و(وزير الصحة مات) هانكوك".
كما أنه في بدايات عهده الحكومي، فصل 21 نائباً من حزبه، لمخالفته خطته في شأن "بريكست"، ممهداّ الطريق لانتخابات ديسمبر 2019.
وعدا الداخل، فإن خلافات جونسون مع الولايات المتحدة في الصيف، بسبب الانسحاب من أفغانستان، انتهت يوم 15 سبتمبر الماضي، بتوقيع اتفاقية "أوكوس" الأمنية، التي تضمّ البلدين بالإضافة إلى أستراليا. لكن الاتفاق أجج الخلافات المستعصية مع الفرنسيين، الذين خسروا بموجبه صفقة غواصات بقيمة 40 مليار دولار.
الخلاف مع باريس ليس مستجداً، بل يبدأ في الحدود البحرية في بحر المانش، ومسألة منح التراخيص للصيادين الأوروبيين، الفرنسيين خصوصاً، للصيد في المياه البريطانية. وكادت مسألة عدم منح لندن التراخيص للقوارب الفرنسية، أن تشعل أزمة طويلة، وصلت إلى حدّ التلويح بالحرب بين البلدين.
في هونغ كونغ، أظهر جونسون نواياه لمواجهة الصين، معتبراً أنه "إذا استمرت الصين في تطبيق قانون الأمن القومي في هونغ كونغ، فإن بريطانيا ستعرض على 350 ألفاً من سكان الإقليم من حاملي جوازات السفر البريطانية، و2.6 مليون فرد آخر، فرصة للانتقال إليها، مع إمكانية حصول من لا يحمل الجنسية البريطانية، عليها".
(العربي الجديد، فرانس برس، رويترز)