"العمال البريطاني" وفلسطين: القاعدة الحزبيّة في مواجهة القيادة الجديدة

31 أكتوبر 2021
تظاهرة دعم لفلسطين في لندن (مارك كاريسون/Getty)
+ الخط -

أعاد القرار الذي تبناه حزب العمّال البريطاني حول فلسطين في مؤتمره الأخير أيلول/ سبتمبر الماضي في مدينة برايتون، الاعتبار إلى أهمية العمل الجذري من داخل الأحزاب السياسيّة في الدول الغربيّة لمصلحة القضيّة الفلسطينيّة. فالقرار الذي صعّد من حدّة انتقاد سياسات الاحتلال تجاه الشعب الفلسطيني مطالبًا بفرض عقوبات على إسرائيل ووقف بيعها الأسلحة بسبب "النكبة المستمرة في فلسطين، وهجوم إسرائيل العسكري على المسجد الأقصى، والتهجير المتعمد في الشيخ جراح، وحرب إسرائيل على غزة "، أكّد بشكل جلي أن التغييرات الحاصلة على مستوى قيادة العمّال البريطاني وموقفها تجاه القضيّة الفلسطينيّة لم تنعكس على القاعدة الحزبيّة التي صوتت بأغلبية ساحقة لصالح إدانة نظام الفصل العنصري.


يأتي هذا القرار الذي بادر إلى طرحه وتبنيه "شباب العمّال البريطاني" في سياق مرحلة جديدة يمر فيها الحزب الجالس في المعارضة بعد خسارته الانتخابات الأخيرة أمام حزب المحافظين، واستقالة زعيمه السابق جيرمي كوربين المعروف بمواقفه الواضحة المنحازة للشعب الفلسطيني على أثر هذه الخسارة، وأيضًا على أثر حملة ضده اتهم فيها بازدياد "اللاساميّة" داخل الحزب تحت قيادته.
جاء الزعيم الجديد للحزب النائب كير ستارمر، المتحدث السابق باسم الحزب والمحامي القادم من مجال الدفاع عن حقوق الإنسان، ليعلن عن مرحلة جديدة تسعى للقطع مع مرحلة كوربين وصورة الحزب المنحاز للفلسطينيين، مدشّنًا هذه المرحلة بالاعتذار للجالية اليهوديّة في بريطانيا عن ظواهر "اللاساميّة" في حزبه، ومتبنيًا خطابًا متوددًا لإسرائيل "التي لها الحق في الدفاع عن نفسها".
شكّل قرار مؤتمر برايتون الأخير الذي رحّب أيضًا بفتح تحقيق في محكمة الجنايات الدوليّة في لاهاي ضد إسرائيل، صفعة للقيادة الجديدة، وعكس مستوىً آخر من مكانة القضيّة الفلسطينيّة على صعيد القاعدة الحزبيّة داخل العمّال البريطاني. هذا القرار -وإن كان خطابه الأشدّ حدّة- ليس الأول في تاريخ الحزب. سبقته عدّة قرارات، ولعل أشهرها قرار مؤتمر عام 2018 الذي تبنّى قرارًا بوقف بيع السلاح لإسرائيل في حال تشكيل حزب العمّال الحكومة القادمة الأمر الذي لم يحصل. لكن ما ميّز مؤتمر 2018 إضافة إلى هذا القرار، الصورة التي انطبعت من ذلك المؤتمر بعد أن حمل المئات من أعضاء الحزب الأعلام الفلسطينيّة ملوّحين فيها لتشكّل موجة تضامن واضحة مع الشعب الفلسطيني ولتحتلّ عناوين الأخبار والأذهان في سابقة تاريخيّة داخل الحزب، وأي حزب غربي آخر.

أصدقاء فلسطين
هذا المشهد لم يكن ليتشكل لولا نشاط حثيث ونضال قاده العشرات من أنصار القضيّة الفلسطينيّة من داخل حزب العمّال البريطاني ومن خارجه على مدار سنوات. نذكر من أبرز هذه المبادرات مجموعة "العمال الأصدقاء لفلسطين والشرق الأوسط" وهي مجموعة تطوعيّة من أعضاء حزب العمّال البريطاني تنشط من داخل حزب العمّال للنضال من أجل السلام والعدالة في الشرق الأوسط، مع التركيز بشكل خاص على القانون الدولي وحقوق الإنسان. وبحسب تعريف المجموعة لذاتها، فهي ترى أن تحقيق العدالة للشعب الفلسطيني من أكثر القضايا الدوليّة الملحّة في عصرنا التي طال انتظار تحقيق العدالة فيها. تعتمد المجموعة على القوانين الدولية وقرارات الأمم المتحدة في رؤيتها للحل، من خلال حل الدولتين وإقامة الدولة الفلسطينية المتصّلة جغرافيًا والقابلة للحياة وتوفر الحريّة والعدالة للشعب الفلسطيني. كذلك تعمل على اعتراف المملكة المتحدة بالدولة الفلسطينيّة، من خلال العمل مع نواب في البرلمان وطرح القضية الفلسطينيّة بانتظام على جدول الاعمال، بالإضافة إلى المشاركة في المؤتمرات السياسيّة، والخطابات، والفعاليّات في البرلمان، وإنتاج المواد الترويجيّة وتنظيم الحملات الفعاليات الثقافيّة، وتنظيم زيارات وفود للبرلمانيين إلى فلسطين ليشهدوا الواقع على الأرض.
 

ترافق النشاط من داخل العمّال لصالح القضيّة الفلسطينيّة وإحقاق العدالة للشعب الفلسطيني مع مشهد أوسع في بريطانيا نفسها، قادته حملة التضامن الفلسطينيّة التي لها حضور قوي ومؤثر في العديد من المدن، من خلال مجموعات عمل منتشرة على قضايا عينيّة مثل ملاحقة شركات ومؤسسات بريطانيّة متورطة في دعم أو الشراكة مع مؤسسات وشركات إسرائيليّة عسكريّة تنتهك القانون الدولي أو تعمل في المستوطنات، من هذه المجموعات من يعمل ويتظاهر بشكل أسبوعي حتّى أن بعضًا منها يقوم باحتلال وإغلاق مكاتب الشركات والمؤسسات البريطانيّة المتورطة مع الاحتلال.

إضافة إلى ذلك، شهدت الجامعات البريطانيّة في العقدين الأخيرين، حراكًا واسعًا مؤيدًا لحركة مقاطعة إسرائيل وفرض العقوبات عليها وسحب الاستثمارات منها BDS، قادته الحركات الطلابيّة واتحادات الطلاب ومجموعات من الأكاديميين، الذين تبنوا بشكل واضح سياسة مقاطعة إسرائيل خصوصًا المقاطعة الأكاديميّة. هذه الأجواء في الجامعات كان لها انعكاساتها على قواعد حزب العمّال، خصوصًا على الجيل الشاب في الحزب الذي يتبنى توجهات لا استعماريّة ونقديّة تجاه التاريخ الاستعماري لبريطانيا. ولم يكن غريبًا أن تأتي مبادرة طرح القرار الأخير للتصويت في مؤتمر العمّال من قبل المجموعات الشبابيّة فيه، رغم محاولات منعهم من طرحه على جدول أعمال المؤتمر وممارسة الضغوطات عليهم، إلّا أنهم نجحوا في تمريره.

ستارمر نحو إسرائيل

خرج ستارمر الذي وعد أن قيادته للعمّال البريطاني ستتخذ نهجًا توحيديًا أمام الخلافات الواقعة بين أقطاب الحزب، بتصريحات لوسائل الإعلام في أعقاب القرار الأخير، تُفيد أن القرار غير ملزم لقيادة الحزب في محاولة للتنصل منه ومن أي التزام به مستقبلًا، تصريحات دعمها عدد قليل من القيادات المقرّبة منه سعيًا للتأكيد على المرحلة الجديدة التي يطمح لها ستارمر تجاه الموضوع الفلسطيني/ الإسرائيلي وصورة وموقف حزب العمّال حيال ذلك.

في نفس الوقت، خرجت تحذيرات من داخل الحزب بسبب مواقف ستارمر تجاه القضيّة الفلسطينيّة تُنبّه من إمكانيّة خسارة التأييد الشعبي للعمّال في أوساط المسلمين في بريطانيا. فبحسب استطلاع للرأي أنجزته المجموعة المسلمة في حزب العمال البريطاني بالتعاون مع مؤسسة "سرفايشن" (Survation)؛ أظهرت نتائجه تراجعًا في تأييد الحزب في صفوف الأقلية المسلمة بنسبة 11%.

يُحسب للزعيم السابق جيريمي كوربين نجاحه في التخلّص من وصمة توني بلير في غزوه للعراق وخسارة شرائح عربيّة ومسلمة مؤيدة للعمّال آنذاك، من خلال إعادة كسب ثقة الأقليّات عبر منح ممثليها الفرصة للترقي داخل الحزب وتشكيل كتلة عربيّة والأهم الدعم الكبير الذي عبّر عنه كوربين للقضيّة الفلسطينيّة. لذلك تُطرح علامات سؤال حول وجهة الحزب المستقبليّة في ظل قيادة ستارمر الجانحة نحو اليمين، وتخليه عن شرائح داعمة للحزب مقابل استقدام شرائح جديدة. ولعل ما حصل في شهر رمضان الأخير، بعد امتناع ستارمر من المشاركة في إفطار رمضاني نظمته جمعيّة "أصدقاء الأقصى" بعد ضغوط مارستها صحيفة "ذا جويش كورنيل" التي نشرت تغريدة لأحد منظمي الإفطار يدعو فيها إلى مقاطعة المنتجات الإسرائيليّة، يعكس التوجّهات للتقرب من الرواية الإسرائيليّة، أمرّ يؤكده قيام ستارمر بتوظيف عساف كابلان، الضابط السابق في الوحدة "8200" التابعة للاستخبارات العسكريّة الإسرائيليّة، مسؤولًا عن قسم التواصل الاجتماعي في الحزب، ومن دون أن يُعلن الحزب عن توظيفه.

خلاف عميق بين القاعدة والقيادة

تبدو الفجوة كبيرة وعميقة بين قيادة الحزب الجديدة والقاعدة الحزبيّة للعمال البريطاني بخصوص القضيّة الفلسطينيّة، ستحاول القيادة في المرحلة القادمة التقرّب أكثر نحو إسرائيل على صعيد الخطاب والممارسة، بينما ستصعّد القواعد الحزبيّة من انتقادها إسرائيل وممارستها وتزيد من نشاطها التضامني مع فلسطين من الناحية الأخرى. إلّا أن هذه الفجوة والخلافات لا تعني بالضرورة أن الأغلبيّة الحزبيّة المؤيدة لإحقاق العدالة للفلسطينيين ستتغلب على الأقليّة المؤيدة للتقرّب من إسرائيل، لأن القضيّة الفلسطينيّة رغم رمزيّتها والضجة التي تُثار حولها، ليست القضيّة الوحيدة أو حتّى المركزيّة داخل حزب العمّال البريطاني الذي يبحث عن تعزيز مكانته الشعبيّة بعد الخسارة الأخيرة في الانتخابات وخسارته معاقل تاريخيّة، في ظل وجهة بريطانيا ما بعد بريكست من تحدّيات سياسيّة واقتصاديّة، وفي ظل جائحة ما زالت فيها بريطانيا تحت تهديدها.

لكن يبقى لهذا القرار أهميّة كبرى على المدى البعيد يُمكن البناء والمراكمة عليه لإحقاق العدالة للشعب الفلسطيني وإنهاء نظام الفصل العنصري أو محاصرته من خلال تغيير سياسات الحكومات عبر تغيير يحصل من داخل الأحزاب الحاكمة في الدول، وهو شيء، كما في تجربة جنوب أفريقيا، يُمكن له أن يحصل.

المساهمون