العشائر العربية في سورية... ولاء يطلبه الجميع

07 سبتمبر 2023
مقاتلون من العشائر خلال الاشتباكات الأخيرة (بكر القاسم/الأناضول)
+ الخط -

ليست المعارك التي تدور في الشرق السوري بين "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) ومقاتلين من العشائر العربية، إلا فصلاً جديداً من الصراعات للسيطرة على مناطق هذه العشائر التي خضعت لتبدلات كبيرة منذ بدء الثورة السورية في 2011. فمنذ ذلك الحين شهدت هذه العشائر انقسامات حادة لأبنائها، نظراً لغياب الدولة، وتعدد الجهات التي دخلت مناطقها، بين النظام السوري والمعارضة، وصولاً إلى تنظيم "داعش"، قبل فرض "قسد" سيطرتها على المنطقة.

وفي حين سعى كل طرف للحصول على ولاء هذه العشائر، فإن الأخيرة لم تستطع إنتاج أحزاب أو تيارات سياسية فاعلة يمكن أن تؤدي دوراً في حماية مصالحها، على الرغم من أن تلك العشائر أنتجت العديد من التشكيلات العسكرية التي كان لها دور فاعل في سياق الحرب السورية. وبعد نحو 12 عاماً من الأزمة السورية، تبقى هذه العشائر أمام تحديات كبرى قد تهدد تماسكها، وحتى وجودها كطرف فاعل في المعادلة السورية.

معارك شرقي سورية

وبعد أكثر من أسبوع على المعارك بين "قسد" ومسلحين من العشائر العربية، في دير الزور، ومنبج تحديداً، تجاوز عدد القتلى التسعين. في حين برز إعلان "قسد" أمس الأربعاء "انتهاء العمليات العسكرية" في منطقة ذيبان بريف دير الزور الشرقي. وأفاد المتحدث باسم "قسد" فرهاد شامي وكالة "فرانس برس" عن "انتهاء العمليات العسكرية في ذيبان والبدء في تفتيش المنازل والأحياء بحثاً عن مسلحين مختبئين".

في المقابل، قالت مصادر محلية لـ"العربي الجديد" إن مسلحين من العشائر العربية من فصائل المعارضة و"هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة سابقاً) هاجموا مواقع لـ"قسد" في المحور الشمالي لمنبج، وسيطروا على قرية البوغاز، تزامناً مع تقدّمهم في محاور تلال الحمرا، وتورين، والبوهيج شمال منبج.

بعد أكثر من أسبوع على المعارك بين "قسد" ومسلحين من العشائر، في دير الزور، تجاوز عدد القتلى التسعين

وتزامنت هذه التطورات مع تظاهرات في منطقة الشعيطات بريف دير الزور الشرقي، تندد بممارسات "قسد". وقالت مصادر لـ"العربي الجديد" إن التحالف الدولي، بقيادة الولايات المتحدة، فشل في التدخل لإنهاء العمل العسكري الذي تقوم به "قسد" في دير الزور.

وكانت وزارة الخارجية الأميركية قد أعلنت أول من أمس أن وفداً أميركياً التقى قادة من "قسد" شمال شرقي سورية، وشدد على الإصغاء لمظالم أهالي دير الزور، فيما أفاد "تلفزيون سوريا" أول من أمس نقلاً عن مصادر بأن التحالف الدولي دعا مسلحي العشائر و"قسد" إلى التفاوض، مشيراً إلى أن شيخ عشيرة العكيدات إبراهيم الهفل الذي يقود مسلحي العشائر، أبدى موافقة أولية، في حين رفضت "قسد" فكرة الحوار، وأصرت على الحسم عسكرياً.

وإذا كان اعتقال "قسد" قائد "مجلس دير الزور العسكري" أحمد الخبيل (أبو خولة)، وعزله لاحقاً من مهامه في قيادة المجلس، وإنهاء مهام أربعة أشخاص آخرين في المجلس بتهم تتعلق بـ"تجاوزات وجرائم منها تجارة المخدرات"، وفقاً لـ"قسد"، هي العوامل التي أطلقت شرارة المواجهات الأولى، إلا أن ما يجري يحمل في طياته رفضاً من قبل قبائل وعشائر، لهيمنة "قسد" التي تشكل "وحدات حماية الشعب" الكردية ثقلها الرئيسي، وتلعب الدور الأبرز في توجيهها في عموم شرقي الفرات.

ويقول مسلحو العشائر إن انتفاضتهم الأخيرة ضد "قسد" لا علاقة لها بمسألة "أبو خولة"، إنما بحقوق يطالبون بها. وكانت "قسد" قد استحوذت على ريف دير الزور الشرقي من تنظيم "داعش" بشكل كامل بدعم من التحالف الدولي مطلع عام 2019 بسيطرتها على بلدة الباغوز في أقصى الشرق السوري، مع انتهاء حرب واسعة النطاق ضد التنظيم في شمال شرقي سورية كانت بدأت في عام 2016.

مناطق انتشار القبائل العربية

وتسيطر "قسد" على أغلب المناطق السورية التي يشكل العرب المنتمون إلى قبائل وعشائر عربية غالبية سكانها، سواء في محافظات الرقة، أو دير الزور، أو الحسكة، أو ريف حلب الشمالي الشرقي، وفي قلبه مدينة منبج الواقعة غربي نهر الفرات.

ويبدأ انتشار العشائر العربية في سورية شرقي الفرات من منطقة جرابلس على الحدود السورية التركية من نهر الفرات غرباً إلى نهر دجلة شرقاً، ومن الحدود السورية التركية شرقي نهر الفرات شمالاً إلى الحدود السورية الأردنية جنوباً. كما تضم أرياف حلب وحمص وحماة عشائر عربية لها ارتباط وثيق بتلك المنتشرة في الجزيرة الفراتية وفي منطقة "الشامية" جنوب نهر الفرات.

وطرأ تبدل عميق على بنية القبائل والعشائر العربية منذ بدء الثورة السورية، في ظل انقسام حاد لمواقف أبنائها ما بين موالٍ لسلطة النظام، أو معارض لها ومنخرط في التشكيلات العسكرية المعارضة التي تقاتل هذه السلطة التي وجّهت شيوخ العشائر المرتبطين بأجهزتها الأمنية لمحاصرة الحراك الثوري شمال شرقي سورية بالقوة.

تسيطر "قسد" على أغلب المناطق السورية التي يشكل العرب المنتمون إلى قبائل وعشائر عربية غالبية سكانها

ووصف المتحدث باسم مجلس القبائل والعشائر السورية مضر حماد الأسعد، في حديث مع "العربي الجديد"، مناطق الجزيرة والفرات ومنبج بأنها "عشائرية بشكل كامل"، موضحاً أن قبائل عربية عريقة تسكن هذه المناطق، في مقدمتها: شمّر، والجبور، وطي، والبقارة، والعقيدات، والعدوان، والبوشعبان، والبوبنّا، والمعامرة، وبني صخر (الخريشة)، وعنزة، والنعيم، وهي أبرز قبائل شمال سورية وشرقها. وتضم كل قبيلة عشرات العشائر الكبيرة والمتوسطة والصغيرة، منها البوخميس، والمشاهدة، والعبيد، وحرب، والمشهور، والبوسرايا، والشرابين، وسواها من العشائر.

وبيّن الأسعد أن هذه القبائل والعشائر تنتشر شمال شرقي سورية، ولا تختص عشيرة أو قبيلة بحيّز جغرافي واحد. ولفت إلى أن "حال العشائر العربية في سورية غير معزول عن المجتمع العربي، وشهدت ما شهده منذ عام 2011"، مضيفاً: "هناك من اصطف من أبناء العشائر مع النظام، ودافع عنه بشتى السبل، ومن انحاز إلى الثورة ضده، وهناك من انضم إلى تنظيمات إرهابية، فضلاً عن الصامتين والخائفين".

وأشار إلى أن "كل قبيلة أو عشيرة انقسمت إلى أربعة أقسام تقريباً، وهناك قسم يذهب وراء مصلحته حتى لو كانت عند إيران أو روسيا". وتابع: "النظام وعلى مدى أكثر من نصف قرن صنع شيوخه بعيداً عن المشيخات التقليدية ليضمن ولاءهم، وهؤلاء اصطفوا بالفعل إلى جانبه ضد إرادة السوريين، وسعيهم للحصول على حريتهم وكرامتهم، من خلال القضاء على الاستبداد".

الأسعد: النظام وعلى مدى أكثر من نصف قرن صنع شيوخه بعيداً عن المشيخات التقليدية ليضمن ولاءهم

وأعرب عن اعتقاده بأن الهجوم الذي قامت به "قسد" على العشائر العربية في ريف دير الزور، "أوضح التلاحم والاتحاد بين عشائر سورية، فكلها تضامنت مع أهالي ريف دير الزور"، مشيراً إلى أن "كل أطراف الصراع في سورية حاولت التأثير على العشائر العربية، من خلال صنع شيوخ ومخاتير ووجهاء مرتبطة بهذه الأطراف، ليسهل على كل طرف اختراق البنى المتماسكة للقبائل والعشائر العربية". وتابع: "إيران شكّلت مجلس قبائل في القسم الذي تسيطر عليه في محافظة دير الزور على مقاسها، يضم أشخاصاً مرتبطين بها، زاروا طهران أكثر من مرة، وكذا أقامت قسد توليفة من شيوخ معروفين ومن آخرين جدد، وقدّمت لهم كل الدعم لتضمن وقوفهم معها".

وفي السياق، أسس الجانب التركي في عام 2019 "المجلس الأعلى للقبائل والعشائر السورية" الذي ضم قبائل عربية وتركمانية وكردية تقطن في شمال وشمال شرقي سورية، في ظل سعي كل الأطراف الفاعلة بالشأن السوري للحصول على تأييد شعبي تجسده هذه العشائر.

تبدلات كبيرة منذ 2011

وتعرضت المناطق التي تقطنها العشائر العربية في سورية، وخصوصاً في ريف حلب والرقة ودير الزور، وجانب من ريف الحسكة، إلى العديد من التبدلات العميقة منذ عام 2011، وانتقلت السيطرة عليها بين أطراف عدة، حيث خرجت عن سيطرة النظام مع استحواذ فصائل معارضة و"جبهة النصرة" عليها في عام 2013، ثم سيطر عليها تنظيم "داعش" في عام 2014 قبل أن يبدأ التراجع في عام 2016.

وتعرضت مناطق العشائر العربية إلى مختلف أنواع القصف على مدى سنوات بحجة محاربة "داعش" من قبل النظام ولاحقاً من الروس والأميركيين، وهو ما أدى إلى مقتل عدد كبير من أبناء العشائر، خصوصاً في الرقة التي كان يُنظر إليها على أنها عاصمة "داعش". واستعاد النظام مناطق العشائر العربية في ريف حلب والرقة ودير الزور جنوب نهر الفرات أو ما تُعرف محلياً بـ"الشامية"، بينما سيطرت قوات "قسد" على مناطق شرقي وشمال نهر الفرات، أو ما تُعرف بـ"الجزيرة"، في حين سيطرت فصائل مرتبطة بتركيا على جانب من ريف حلب الشمالي والشمالي الشرقي، والذي يضم عشائر عربية معروفة.

ومع طول أمد الأزمة السورية، طفا العامل القبلي والعشائري على السطح، في ظل غياب الدولة، فظهرت العديد من التشكيلات العسكرية ذات الطابع القبلي والعشائري، لعل أبرزها "قوات الصناديد" الخاصة بقبيلة شمّر التي تعد من أكبر القبائل في محافظة الحسكة، أقصى الشمال الشرقي من سورية، والتي حافظت مشيختها التقليدية (آل الجربا) على علاقات مع مختلف الأطراف، خصوصاً مع النظام وقوات "قسد".

ويتوزع اليوم مقاتلو العشائر العربية في فصائل المعارضة بالشمال السوري، في تشكيلات ذات طابع عشائري، مثل فصيل "أحرار الشرقية" الذي يضم مقاتلين عشائريين من ريف دير الزور. ولم تظهر أحزاب أو تيارات سياسية فاعلة ذات طابع عربي شمال شرقي سورية يمكن أن يكون لها دور في حماية مصالح هذه العشائر التي تواجه اليوم تحديات كبرى يمكن أن تهدد تماسكها.

وأشار الكاتب قحطان الشرقي (وهو من أبناء منطقة منبج)، في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أن "العشائر العربية قاومت كل محاولات التهجير التي تعرضت لها منذ عام 2011"، مضيفاً أنه "عندما قصف النظام بالطائرات والصواريخ منبج وريفها، رفض عدد كبير من السكان الخروج من بيوتهم ومناطقهم". وتابع: "سيطر تنظيم داعش على المنطقة ثلاث سنوات، ومارس كل أنواع الترهيب بما فيها القتل، ولكن العشائر بقيت ولم تهاجر، كما قاومت كل محاولات قسد لتهجير أبناء هذه العشائر من خلال سياسات متعددة، من بينها التجنيد الإجباري".

الشرقي: العشائر العربية قاومت كل محاولات التهجير التي تعرضت لها منذ عام 2011

وقال الشرقي إنّ "منطقة منبج الخاضعة لسيطرة قسد منذ ست سنوات لم تتوقف فيها حركات الاحتجاج، وأبرزها كان عام 2018 بعد مقتل مدنيين تحت التعذيب"، موضحاً أن العشائر العربية "غير ممثلة سياسياً، وهو ما أفقدها الكثير من حقوقها". وأشار إلى أن "العشائر تبحث عن الاستقرار في مناطقها"، مضيفاً: "ربما هي تقبل التفاوض والحوار مع سلطات الأمر الواقع، ولكنها لا تقبل الإملاءات من أي طرف".

المساهمون