عاد الصراع على أشدّه بين بطريرك الكلدان الكاثوليك في العراق، الكاردينال لويس روفائيل ساكو، وزعيم مليشيا "بابليون" المسيحية ريان الكلداني، المدرج على لائحة العقوبات الأميركية منذ عام 2019 بتهم انتهاكات حقوق الإنسان والفساد، والذي تعتبره واشنطن أحد أسباب تأخر عودة الوجود المسيحي إلى مناطق سهل نينوى، شمالي العراق.
وبعد أشهر عديدة من الهدوء بين الكنيسة التي يمثلها ساكو، وبين المليشيا المنضوية ضمن "الحشد الشعبي" تحت مسمى "اللواء 50"، وأفرادها من العراقيين المسيحيين وأغلبهم من سكان نينوى، تشهد نينوى وأربيل وبغداد بيانات ومواقف تصعيدية من الكنيسة الكلدانية والمليشيا.
مناوشات بين البطريرك و"بابليون"
ومنذ السبت الماضي يتبادل الطرفان التهم والبيانات عبر وسائل الإعلام والمؤتمرات الصحافية، في تدشين لمرحلة جديدة من الصراع على الوضع الديني والسياسي للمكون المسيحي، الذي لم يمر بحالة جيدة منذ الغزو الأميركي للعراق عام 2003، مع اختيار المسيحيين رفض الاحتلال وعدم التعاون معه.
اعتبر البطريرك أن الكلداني لا يمثل المكون المسيحي
ويقود ريان الكلداني، حركة "بابليون"، وعلى الرغم من إدراجه على لائحة العقوبات الأميركية، إلا أنه يسيطر على مناطق المسيحيين، انطلاقاً من مسكنه في بغداد. وفي الانتخابات البرلمانية التي أُجريت في أكتوبر/تشرين الأول 2021، نالت "بابليون" كامل حصة المسيحيين (ضمن الكوتا النيابية)، وهي خمسة مقاعد في مجلس النواب، مما أزعج الأحزاب المسيحية الأخرى مثل حركة الآشوريين وائتلاف الرافدين.
وهاجم ساكو أخيراً الكلداني، معتبراً أنه "لا يمثل المكون المسيحي"، واتهمه بالتورط في سرقة أملاك المسيحيين. وقال في مؤتمر صحافي عُقد السبت الماضي: "لا أسمح لنفسي بمناظرة شخصية مثل ريان الكلداني، الذي سرق أملاك المسيحيين في بغداد ونينوى وسهل نينوى ويحاول شراء رجال الدين المسيحيين بمساعدة امرأة وضعها بمنصب وزيرة"، في إشارة الى وزيرة الهجرة والمهجرين إيفان فائق جابرو التابعة لحركة "بابليون".
وأضاف البطريرك الكلداني أن "السياسة الحالية قسّمت المسيحيين كما قسّمت الشيعة والسنة، ونحن جهة دينية ولا نتدخل بالأمور السياسية"، مشدّداً على أن "ريان الكلداني لا يمثل المكون المسيحي، ولا أهلية له لقيادة المسيحيين ويريد السيطرة عليهم في العراق، بعد استحواذه على حصتهم في الانتخابات".
وأبدى ساكو استغرابه من صمت الحكومة على تجاوزات صدرت بحق الكنيسة من قبل الكلداني، متوعداً باللجوء إلى المجتمع الدولي: "لردع الكلداني في حال لم تتدخل الحكومة العراقية". كما انتقد قيام مليشيا "بابليون" بحمل صور رموز دينية مع الأسلحة في الشوارع، وقال: "لسنا في حرب صليبية".
من جهته، ردّ الكلداني في اليوم نفسه على ساكو في بيان، واتهمه بـ"الكذب"، مضيفاً: "لقد أمضى أعواماً (ساكو) وهو بالأسلوب نفسه ومقولات متكررة ومتشابهة. ساكو يقول إن علينا احترام الثوب الكنسي، ونحن نرد بأن يحترمه هو"، داعياً إياه لـ"مناظرة علنية"، حول المكون المسيحي.
إجماع كنسي ضد "بابليون"
وحول هذه التطورات، أكد مسؤول ديني كنسي في كركوك لـ"العربي الجديد"، أن "جميع رجال الدين المسيحيين في مختلف الطوائف المسيحية في العراق متفقون على أهمية عدم زج العنوان المسيحي تحت أي حسابات سياسية كانت".
وأضاف المسؤول، الذي رفض الإفصاح عن اسمه، أن "تشكيل جماعة مسلحة لحماية المسيحيين في ظرف استثنائي معروف، لا يعني أن تتحول لعمل سياسي واجتماعي وبمصالح معروفة". وتساءل عن "نهاية التحدث باسم المسيحيين في حسابات سياسية وولاءات ضيقة، كما يفعل الكلداني، الذي يستغل المتطوعين المسيحيين سياسياً".
من جانبه، أشار رئيس "ائتلاف الرافدين" المسيحي، يونادم كنا، إلى أن "المسيحيين لا يؤمنون بالسلاح، وأن حركة بابليون تدّعي أنها تحمي المسيحيين وهذا غير صحيح، بل تمارس مصالح اقتصادية وسياسية، كما تستولي على الصوت السياسي للمسيحيين بدعم من الأحزاب الكبيرة المشاركة في السلطة، وتحديداً تحالف قوى الإطار التنسيقي، الذي دعم الكلداني ومشروعه السياسي بالتحايل على قانون الانتخابات".
وأكد كنا في حديثٍ مع "العربي الجديد"، أن "هناك تجاوزاً على المسيحيين في مناطق الحمدانية وقرقوش وغيرهما من البلدات التي يسكن فيها المسيحيون بالموصل، وقد تقدموا بالشكاوى، بعد تعرضهم لمشاكل وضغوط وانتهاكات وسرقة أملاكهم من قبل جماعة ريان الكلداني".
ماهر جوده: المكون المسيحي بالعراق بلا هوية سياسية حقيقية
وأجمع ثلاثة نشطاء في الموصل، في أحاديث مع "العربي الجديد"، على أن الكلداني يسعى للسيطرة الكاملة على القرار المسيحي في العراق. وأوضح أحدهم أن "ساكو يعتبر ريان الكلداني مطرودا من الملة، بالتالي فإن الكلداني قد يسعى إلى تشكيل حالة دينية جديدة لمنافسة ساكو على موقعه المعنوي".
ووصف الباحث السياسي ماهر جوده الوضع بـ"المأساوي"، معتبراً في حديثٍ مع "العربي الجديد"، أنه "إلى جانب الضغوط التي يتعرض لها المكون المسيحي، فإنه بلا هوية سياسية حقيقية، واستمرار هذه الحالة يعني أن العراق قد يخسر المزيد منهم". ورأى أن "الصراع السياسي أدى إلى انشطار في جميع المكونات، وليس فقط المكون المسيحي، لأن الجميع يبحث عن مصالحه الخاصة فقط".
وشهدت السنوات التي أعقبت الغزو الأميركي للعراق حملات هجرة واسعة لمسيحيي العراق إلى دول مختلفة بسبب العمليات العسكرية، وجرائم الاستهداف والتضييق التي شاركت بها مليشيات مسلحة، وتقدر أعداد المسيحيين الذين غادروا البلاد بعد عام 2003 بأكثر من مليون مواطن.