العدوى الفلسطينيّة

27 يونيو 2021
عودة المسيرات الشعبية في قطاع غزة ضد تهويد القدس (مجدي فتحي/Getty)
+ الخط -


فاجأت الانتفاضة الفلسطينيّة الأخيرة المتابعين والمتابعات، إذ لم تكن متوقّعة بسبب الوضع المتردّي الذي وصلت إليه قضيّة الشّعب الفلسطينيّ في السّنوات الأخيرة؛ وضعٌ تمثّل في تمسّك سلطة أوسلو بحلّ الدّولتين رغم سقوطه على أرض الواقع وغياب البدائل في ظلّ انقسام وصراع الفصائل الفلسطينيّة على السّلطة. ذلك بالإضافة إلى تطبيع العلاقات بين المزيد من الأنظمة العربيّة والاحتلال، بما يعنيه من انسحابٍ من الصّراع وترك الفلسطينيّين وحدهم فيه. كما يتمثّل هذا التّردّي في تراجع الاهتمام العالميّ شعبيًّا ورسميًّا بالقضيّة الفلسطينيّة واستمرار الدّعم الغربيّ للاستعمار الصّهيونيّ. صاحب ذلك صعود اليمين الصّهيوني في العقدين الأخيرين وتماديه في الاعتداء على حقوق الفلسطينيّين والفلسطينيّات.

آخر هذه الاعتداءات السّافرة كانت في مدينة القدس وأظهرت أنّ الفلسطينيّين يواجهون مجتمعًا متشرّبًا أيديولوجيا عنصريّة تبرّر السّرقة التي أصبحت عرفًا يتسابق عليه قطعان المستوطنين. يأتي ذلك في ظل عجز النّظام الصّهيونيّ عن تشكيل حكومة مستقرّة، ما دفعه لفتح المجال - أكثر من العادة - أمام المستوطنين لممارسة هذه الاعتداءات، بهدف حلّ أزمته السّياسيّة عبر تقوية موقفه في أوساط اليمين الذي يهيمن على المشهد السّياسيّ في العقدين الأخيرين. صمود المقدسيين والمقدسيات في مواجهة الانتهاكات التي شهدناها في حيّ الشّيخ جرّاح والأماكن المقدّسة ألهمت الشّارع الفلسطينيّ كلّه، فهبّ لمساندتهم بالأدوات الثّقافيّة والسّياسيّة والاقتصاديّة والعسكريّة المتاحة في كلّ أماكن تواجده.

حقّقت المقاومة الشّعبيّة بأشكالها المختلفة العديد من الإنجازات المعنويّة والماديّة، كما حطّمت الكثير من الأوهام السّائدة بين النّخب السّياسيّة، كحلّ الدّولتين والفصل بين القضايا، وهي انتصارات تدعو للبناء عليها. من أهمّها عودة روح وفعل النّضال في مواجهة اليأس واللامبالاة اللذين سادا مؤخّرًا، بالإضافة إلى تأكيد وحدة الشّعب الفلسطينيّ في كفاحه من أجل كرامته في شتّى أماكن تواجده ضدّ التّقسيم والتّهميش لفئاته المختلفة. كما لاحظنا ملامح خطابٍ تقاطعيّ يربط بين قضايا التّحرّر المختلفة اجتماعيًّا وسياسيًّا، وهي قضايا تجاهلتها القوى السّياسيّة سابقًا. أمّا خارجيًّا، فقد استعاد النّضال التّحرّريّ الفلسطينيّ مكانته كقضيّة تستقطب تضامن شعوب العالم، ما فرض على المنظومة الدّوليّة مواجهة مسؤوليّاتها الأخلاقيّة والسّياسيّة في وقف الاعتداءات الصّهيونيّة وإيجاد حلولٍ للقضيّة الفلسطينيّة.

إقليميًّا، أتت الانتفاضة في وضعٍ متغيّرٍ منذ عام 2011، إذ تعاني المنطقة من انهيارٍ اقتصاديٍّ وسياسيّ أدّى إلى ثورة العديد من شعوبها على استبداد وفساد النّظم الحاكمة. ورغم الإنجازات التي حقّقتها، إلّا أنّ الأمل الذي انبثق في بداياتها شهد نكسةً مؤلمةً في سورية واليمن وغيرهما بفعل الثّورة المضادّة التي قادتها أنظمة عربيّة أخذت على عاتقها إجهاض التحوّلات الاجتماعيّة التي تهدّدها، ما أدّى إلى تراجع الحراك الثّوريّ الذي عاد واشتعل في دول جديدة، ويبدو أنّنا على موعدٍ جديد مع موجةٍ ثوريّةٍ جديدة في ظلّ تعاسة الأوضاع المعيشيّة والسّياسيّة في مجمل المنطقة. في هذه الظّروف، شدّت الانتفاضة الفلسطينيّة انتباه شعوب المنطقة وأعادت روح المقاومة إليها ورفعت من معنويّاتها مجدّدًا، وهو ما ظهر جليًّا في تفاعلها مع الأحداث من حيث المتابعة والدّعم والمشاركة.

في هذا السّياق، لا بدّ من ملاحظة الدّور البارز للجيل الشّابّ سواء في فلسطين أو خارجها في التّفاعل غير المسبوق مع الانتفاضة الفلسطينيّة. إنّه الجيل الذي تشرّب في طفولته أجواء ثورات الرّبيع العربيّ، فوظّف ذاكرته ووعيه الجمعيّ - الذي يتطوّر باستمرار بفعل تراكم الخبرة النّضاليّة - ومهاراته في استخدام وسائل التّواصل الاجتماعيّ للمساهمة في إيصال صوت الفلسطينيّين للعالم والتّعبير عن تضامنه معهم. بالإضافة إلى ذلك، نزل إلى شوارع المدن والبلدات للاحتجاج على الاعتداءات الصهيونيّة وللتّضامن مع غزّة التي دفعت ثمنًا غاليًا للدّفاع عن كرامة الفلسطينيّين ودعمًا للمقاومة التي ألهمته بقدراتها وصمودها. كان مشهد آلاف الشّباب والشّابّات في الأردن ولبنان، وهم يندفعون إلى الحدود مع فلسطين خير دليلٍ على روح المقاومة التي اجتاحت كيانهم. كما عاد الحديث بالسّياسة ومراقبة أحداثها ليشغل حيّزًا كبيرًا من اهتمامات الشّباب، رغم الظّروف الصّعبة التي يعيشها معظمهم. لقد حرّكت المقاومة الشّعبيّة في كل فلسطين المياه الرّاكدة، وأعطت دفعة معنويّة لشعوب المنطقة للخروج من حالة الإحباط التي تعيشها، كما أعادت إلى الوعي الجمعيّ حقيقة جوهريّة كانت قد أدركتها في بدايات الرّبيع العربيّ، وهي أنّ النّضال هو طريقنا لتغيير الواقع الرّديء إلى ما هو أفضل، فنحن من يكتب التّاريخ ويقرّر المستقبل.

ساهمت الانتفاضة في توتير أكبر للعلاقة بين الشّعوب العربيّة والأنظمة الحاكمة التي واجهت ضغطًا لاتّخاذ مواقف داعمة للفلسطينيّين تعجز جلّ الأنظمة عن اتخاذها حفاظًا على تحالفاتٍ لا غنى لها عنها مع أميركا وإسرائيل. في الأردن مثلًا، توتّرت الأوضاع مع تصاعد الأصوات التي تطالب النّظام باتّخاذ مواقف فعليّة داعمة للفلسطينيّين واشتدّ انتقاد صفقة الغاز بين الحكومة الأردنيّة والاحتلال وازدادت المطالبات بإلغائها، إذ تنظَّم فعاليّات احتجاجيّة واسعة لتحقيق ذلك. كما أنّ الشّابّين، اللذين تسلّلا إلى فلسطين واعتقلتهما السّلطات الإسرائيليّة قبل أن تسلّمهما للسّلطات الأردنيّة، لا يزالان قيد الاعتقال. وبالرّغم من حرص النّظام على ترك مساحة للنّاس كي يعبّروا عن غضبهم، قامت القوى الأمنيّة بقمع بعض الاحتجاجات الشّعبيّة في محيط السّفارة الصّهيونيّة. هذا الواقع دفع المزيد من الشّباب والشّابّات للانخراط في الاحتجاج

والعمل العام وأظهر المسافة الشّاسعة بينهم وبين الأنظمة فيما يخصّ القضيّة المركزيّة. يعي هذا الجيل العلاقة التّبعيّة للأنظمة العربيّة مع الاحتلال وحلفائه. وقد أصبح واضحًا لنا أنّ استمرار الاحتلال مرهونٌ ببقاء الأنظمة العربيّة التي تقمعنا وتقود ثورةً مضادّة لأحلامنا في الكرامة والحريّة، ما يزيد من نقمتنا عليها ويذكرنا بضرورة تغييرها كشرطٍ أساسيّ لنيل حريّتنا وحقوقنا.

لطالما شكّلت الثّورة الفلسطينيّة عبر تاريخها رمزًا ومصدرًا لإلهام الشّعوب السّاعية للحريّة؛ المقاومة ردُّ فعلٍ طبيعيّ على الاضّطّهاد، والثّورة تنتشر بالعدوى، فهي تُلهِم المضّطّهَدين وتشجّعهم على النّضال من أجل حقوقهم وكرامتهم المنتهَكة. لذلك، روح الثّورة في فلسطين لا تهدّد فقط الاحتلال الصّهيونيّ، بل جميع الأنظمة المستبدّة. لذلك من الطّبيعيّ أن تقلق أنظمة المنطقة وغيرها من تصاعد حدّة النّضال الفلسطينيّ وأن تعمل للالتفاف عليه وامتصاص تأثيره على مواطنيها. وعليه، من مصلحتها إنهاء حالة النّضال بأي طريقة، سواء بالضّغط من أجل التّهدئة أو بالتآمر على قدرة الشّعب الفلسطينيّ على المقاومة. هذه مصلحة يشترك فيها الاستعمار الصّهيونيّ مع الطّبقة السياسيّة الفلسطينيّة والعربيّة ومع النّظام الرّأسماليّ العالميّ.

ساحة النّضال في فلسطين هي من أهمّ ساحات النّضال في المنطقة والعالم ضدّ الاستبداد والمنظومة الرّأسماليّة، إذ إنّ الكيان الصّهيونيّ يقع في قلب هذه المنظومة وهو أحد أعمدتها، والتّعبير الصّادق والمكثّف عن قيمها وطبيعتها. لقد أصبحت المعركة من أجل تجاوز هذه المنظومة وبناء عالمٍ جديدٍ على أنقاضها ضرورة ملحّة لاستمرار الحضارة البشريّة، لذلك من الطّبيعي والضّروري أن يستمرّ تضامن الشّعوب وأن تتحالف قواه من أجل مواجهة المنظومة الفاسدة التي تحكمنا جميعًا. الحدود بين الشّعوب وهم والنّضال من أجل الحريّة كلٌّ لا يتجزّأ، فحريّة فلسطين هي من حريّة شعوب المنطقة والعالم، والعكس صحيح.

المساهمون