العدوان على لبنان يفضح مزيداً من تراجع نفوذ فرنسا

02 أكتوبر 2024
بارو في بيروت، 30 سبتمبر 2024 (أنور عمرو/فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- الدبلوماسية الفرنسية ومحاولات التهدئة: منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزة في أكتوبر 2023، سعت فرنسا لتعزيز القرار الأممي 1701 وتجنب تصعيد الصراع في لبنان، لكن جهودها لم تلقَ تجاوباً من إسرائيل التي تفضل النفوذ الأميركي.

- التحديات أمام النفوذ الفرنسي: فرنسا تواجه تحديات كبيرة في لعب دور فعال بسبب عدم ثقة الأطراف المتصارعة بها، وتراجع نفوذها لصالح الولايات المتحدة التي تدير الملف اللبناني.

- الدعم الفرنسي للبنان: رغم محدودية تأثيرها، تواصل فرنسا تقديم الدعم الإنساني والسياسي للبنان، وتدعو لتطبيق القرار 1701 ووقف الأعمال العدائية، لكنها تواجه صعوبة بسبب الهيمنة الأميركية والإسرائيلية.

لم تهدأ الدبلوماسية الفرنسية، منذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، لتجنيب لبنان عدواناً جديدا على غرار حرب يوليو/تموز 2006، لكنها لم تفلح في تحقيق أي اختراق لأسباب عدة، ليس فقط بما يتعلق بمحدودية نفوذ فرنسا في المنطقة والتأثير الفرنسي تحديداً على إسرائيل، بل لأن قرار العدوان كان متخذاً وتطبيقه ينتظر ساعة الصفر.

ولم تر باريس، كما بدا واضحاً من التصريحات المعلنة لمسؤوليها على الأقل، نافذة لإمكانية تغيير موازين القوى في المنطقة، من خلال الحرب، وذلك على عكس واشنطن. ورغم ذلك، دفعت دوائر القرار في فرنسا، بشدّة، طوال الأشهر القليلة الماضية، لتهدئة في لبنان، تراعي المصالح الإسرائيلية، وسط إمكانية وجدتها باريس سانحة لفرض شروط متعلقة بالقرار الأممي 1701، الصادر إثر عدوان 2006، لا سيما لجهة تعزيز القوات الأممية المؤقتة في لبنان (يونيفيل)، وإبعاد مقاتلي حزب الله عن الحدود مع فلسطين المحتلة، ونشر وتعزيز قوات الجيش اللبناني على الحدود. وذهبت باريس، أبعد من الطرح الأميركي، في مبادرة لها، بالمسافة التي اقترحتها لإبعاد حزب الله عن الحدود، وحتى بحصر مبادرتها بالشق الأمني، فيما ربطته واشنطن بمحفزات اقتصادية.

أثارت فرنسا محادثات مبكرة خلال الحرب، حول تعزيز الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل

دبلوماسية فرنسا غير موثوق فيها

رغم ذلك، بقيت الدبلوماسية الفرنسية المتعلقة بالصراع المستجد بين لبنان وإسرائيل، تدور حول نفسها، في ظلّ استبعاد إسرائيلي متعمد لها، يقوم أساساً على عدم الثقة الإسرائيلية بالمطلق بالفرنسيين، ورفض منحهم أي دور في أي مفاوضات للتسوية مع لبنان. ويأتي ذلك، وسط تصميم تل أبيب، وحكومتها المتطرفة، على استغلال حرب غزة ولبنان، لإعادة رسم خريطة جديدة للنفوذ والهيمنة في المنطقة، تعكس تفوقها العسكري، حيث ترى الأجواء مؤاتية لذلك في ظلّ وجود الرئيس الأميركي جو بايدن في البيت الأبيض. علماً أن الملف اللبناني، الذي حرصت فيه فرنسا على إبقاء قنوات حوار مفتوحة مع حزب الله، رغم عدم قدرتها على التأثير عليه، أصبح في نظر الكثيرين منذ سنوات، ولاسيما بعد الأزمة المالية التي عصفت بلبنان في 2019، ممسوكاً جيداً من قبل الأميركيين.

ولا يسع فرنسا سوى "تقديم الدعم" للبنان، وتحشيد الأوروبيين لتقديم المساعدات، وهو ما كان واضحاً في كلام وزير الخارجية الفرنسي الجديد جان نويل بارو من بيروت، أول من أمس الاثنين، بقوله إن "زيارته للبنان هي لتوجيه الدعم والتضامن للبنانيين، مع تقديم مساعدة إنسانية ملموسة وتوجيه رسالة تضامن مع مواطنينا الذين هم أكبر جالية فرنسية في الشرق الأوسط، ومواصلة جهودنا لوقف العمليات العدائية والتوصل إلى تسوية دبلوماسية"، متحدثاً عن "مبادرة لا تزال على الطاولة من الرئيسين إيمانويل ماكرون وجو بايدن، وانضم إليها عدد من الدول".

واعتبر بارو أن "شروط الحلّ الديبلوماسي الدائم معروفة منذ زمن طويل، وتتمثل بالسعي إلى تطبيق القرار 1701 فورا من خلال وقف الأعمال العدائية على جانبي الحدود ووقف إطلاق النار، وانتشار الجيش اللبناني جنوب الليطاني، وانسحاب المسلحين من جانب الحدود وتعزيز قدرات القوات الدولية والوصول إلى حلّ حول الحدود البرية، وذلك ليس بمستحيل في حال وجدت الارادة السياسية من كلا الجانبين".

وفي السياق، قال مصدرٌ مقرّبٌ من رئيس البرلمان نبيه بري لـ"العربي الجديد"، إنّ "زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو، لم تحمل أي جديد، باستثناء تأكيد استمرار المبادرة الفرنسية الأميركية والمدعومة دولياً وعربياً، وتأكيد أهمية الحلّ الدبلوماسي، وأنه لا يزال ممكناً، كما كان هناك تشديد على دعم فرنسا للبنان، ووقوفها إلى جانب الشعب اللبناني خصوصاً إنسانياً إضافة إلى تعزيز دعم الجيش اللبناني للقيام بمهامه في هذه الظروف الدقيقة".

وأشار المصدر إلى أنّ "كل الحراك سواء الفرنسي أو الأميركي والعربي لن يؤدي إلى أي نتيجة طالما أنّ حكومة الاحتلال ترفض جميع المساعي وتواصل عدوانها على لبنان، وارتكابها مجازر يومية بحق المدنيين، من هنا قلنا ونكرّر دعوتنا إلى فرنسا وشركائها بالحديث مع إسرائيل وليس مع لبنان، لأن الحكومة اللبنانية ورئاسة مجلس النواب وحتى حزب الله كانوا متجاوبين، وأعربوا عن التزامهم بالقرار 1701، ولم يضعوا العراقيل، في حين أن العدو هو من يواصل العرقلة لأن نياته واضحة بالحرب".

ولا تبدو فرنسا قادرة على أكثر من تقديم الدعم الكلامي، في ظلّ ما يواجهه لبنان اليوم من عدوان إسرائيلي جوي وبرّي، بعدما استنفدت كل محاولاتها للتهدئة، واستمر الدور الفرنسي في التراجع على حساب إمساك واشنطن بالملف اللبناني منذ سنوات وتسخير مبعوث أميركي خاص هو عاموس هوكشتاين، الذي كان يدير ملفي ترسيم الحدود البحرية والبرّية بين الاحتلال ولبنان، قبل الحرب، وتمكن من إنجاز اتفاق ترسيم بحري أصبح الإسرائيلي اليوم يراه "مجحفاً" في ظلّ فائض القوة الذي بات يشعر به بعد توجيهه ضربات موجعة لحزب الله، خلال الأشهر الأخيرة، واعتبر أنه توّجها باغتيال الأمين العام للحزب حسن نصرالله بضربة على الضاحية الجنوبية لبيروت، الأسبوع الماضي، فضلاً عما أعيد إحياؤه في دولة الاحتلال، من مطامع تجاه لبنان، وحدوده، في ظلّ الحرب.

اتهمت حكومة نتيناهو باريس بانتهاج سياسة عدائية تجاه إسرائيل بعد 7 أكتوبر

النفوذ الفرنسي يتراجع 

ويعود الفشل الفرنسي في التقدم بمبادرات للحل أو التهدئة، بالأساس، إلى عدم ثقة جميع الأطراف المتصارعة، سواء من اللاعبين الكبار، كالولايات المتحدة وإيران، أو وكلائهما، وعلى رأسهم إسرائيل، بالدور الفرنسي، وإذا ما عاد يمكن لباريس أن تكون لها أي رافعة في المنطقة. كما أن هناك قلّة ثقة تاريخية لدى إسرائيل بسياسة فرنسا في الشرق الأوسط، رغم تقلص نفوذ "المستعربين" في الدبلوماسية الفرنسية، منذ نهاية عهد الرئيس الراحل جاك شيراك، وحلول المدعومين من اللوبي اليهودي مكانهم.

أما اليوم، فإن الحرب الحالية لا تزال بإدارة أميركية إسرائيلية حصراً، رغم ما يظلّلها من محاولات تبادل الأدوار بين الطرفين، ومحاولة واشنطن التلاعب بالمصطلحات وإظهار النأي بالنفس عن عدد من المحطات المتلاحقة للعدوان. وفي لبنان أيضاً، إدراك رسمي وسياسي للدور الفرنسي المتراجع فيه، وتراجع النفوذ الفرنسي في المنطقة، والذي فقد المقدرة على صناعة القرار، من دون الحديث عن أزمة الرئاسة الفرنسية الحالية في الداخل الفرنسي نفسه، فيما كان حلفاء باريس التاريخيون في لبنان، قد أعادوا صياغة تحالفاتهم منذ مدة، ولاسيما بعد اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري (2005)، في الفلك الأميركي الخليجي. كما أن فرنسا، التي تنادي بشكل أساسي بتعزيز دور الجيش اللبناني في الجنوب، لا تستطيع حتى في هذا البند "السيادي" فرض رؤيتها لجهة تسليح هذا الجيش، وهو ملف تتحكم فيه الولايات المتحدة.

وأثارت فرنسا محادثات مبكرة خلال الحرب الحالية، منذ أكتوبر 2023، حول تعزيز الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، رغم إدراكها لأهمية "القرار السياسي" في هذا الشأن، وأبدت استعداداً بحسب تصريحات لمسؤولين فيها، لعقد مؤتمر دولي خاص بالجيش اللبناني. وجاء ذلك بالتزامن مع إجراءاتها اتصالات متعددة المحاور للتهدئة، علماَ أن حزب الله لم يتجاوب مع أي من اتصالاتها، التي حثّته على وقف إطلاق النار "إسناداً لغزة" وفق توصيفه لتبادل النار مع إسرائيل عبر الحدود منذ الثامن من أكتوبر، رغم بقاء قنوات الحوار مفتوحة بين باريس والحزب، وهو مأخذ لخصومه على الإليزيه.

وكان الوضع أشد توتراً بين إسرائيل وفرنسا، لا سيما أن باريس، ورغم التحركات السياسية الداخلية القوية التي قامت بها لقمع ما تسميه "معاداة السامية"، وقطع التمويل لوكالة "أونروا"، لا تعد مبيعاتها العسكرية لإسرائيل السنوية ذات قيمة، مقارنة بالجسر الجوي المفتوح الذي تسيّره الولايات المتحدة لإسرائيل منذ الحرب (تبيع فرنسا سنوياً أسلحة لدولة الاحتلال بحوالي 20 مليون يورو). وبالنسبة لحكومة بنيامين نتنياهو، فإن الموقف الفرنسي، بعد الهجوم الذي نفّذته حركة حماس على مستوطنات غلاف غزة، في السابع من أكتوبر الماضي، كان "عدائياً"، إذ بينما أبدى ماكرون دعماً كاملاً لإسرائيل في الشهر الأول من الحرب، إلا أنه كان حريصاً بعد ذلك، على انتقاد العنف الإسرائيلي المفرط في غزة، وصولاً إلى محادثته التي وصفت بالمتوترة جداً مع نتنياهو الأسبوع الماضي، مع تصاعد الحرب مع لبنان.

وفي يونيو/تموز الماضي، رفض وزير الأمن الإسرائيلي يوآف غالانت، مبادرة فرنسية لتخفيف التوتر على الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة، والتي كانت تقوم على إنشاء مجموعة اتصال مع الولايات المتحدة وباريس، وقال علناً إنه "بينما نقاتل في حرب عادلة، نحمي فيها شعبنا، فإن فرنسا اعتمدت سياسات معادية لإسرائيل، متجاهلة الفظائع التي قامت بها حماس". وجاء حينها الاقتراح الفرنسي بإنشاء مجموعة اتصال ثلاثية (الولايات المتحدة، فرنسا، وإسرائيل)، لمتابعة وضع "خريطة طريق" لتهدئة التوتر مع لبنان، على سكة التنفيذ، بعدما كانت باريس في فبراير/شباط الماضي، قد قدّمت خطة لإنهاء الأعمال العدائية بين حزب الله وجيش الاحتلال، تلحظ تراجع حزب الله 10 كيلومترات عن الحدود، مع وقف إسرائيل لهجماتها على الجنوب اللبناني حينها، والدخول في مفاوضات لترسيم الحدود. ولم تعلن دولة الاحتلال علناً رفضها لخطط تسوية معينة مطروحة، رغم ما هو معروف من صعوبة الشروع في أي مفاوضات لترسيم الحدود مع لبنان، في الداخل الإسرائيلي، لاسيما في ظلّ حكومة يمينية متطرفة واستيطانية بامتياز، تدفع لتوسعة الحرب، لمنع تقديم أي تنازلات. وفي ذلك الوقت، كان التسريب عن المقترح الأميركي للحل، يقضي بتراجع حزب الله سبعة كيلومترات فقط، علماً أن الردود التي قدّمها حزب الله أيضاً للفرنسيين، كانت بدورها حاسمة، لجهة ربط أي مباحثات تهدئة بوقف العدوان على غزة.

ورأى مارك دوبوفيتز، رئيس مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات، البحثية في واشنطن، والتي تعد أبحاثها متماهية مع صقور السياسة الخارجية في واشنطن، وإسرائيل، في تقرير نشر في يونيو/حزيران الماضي، أن "إسرائيل ليس لديها أي سبب للثقة بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حول لبنان، عندما تغيرت مشاعره بشأن حرب غزة سريعاً". وبرأيه، فإن "الاستثمار الفرنسي، والضعف الفرنسي حيال لبنان، يجعلان ماكرون أكثر ميلاً للانصياع لرغبات حزب الله"، من وجهة نظره. أما بن كوهين، كبير المحلّلين في المؤسسة، فاعتبر أنه "بينما فرنسا هي حليف أكثر موثوقية لإسرائيل من دول أوروبية أخرى، فإن منح الثقة لباريس للتفاوض حول حلّ مع لبنان، هو مغامرة لا تستطيع إسرائيل تحملها"، متطرقاً إلى "خطر تأثير اليسار الفرنسي".

من جهته، قال الكاتب السياسي اللبناني جورج علم لـ"العربي الجديد"، إنّ "الحراك الدولي أصبح جزءاً من معادلة دولية عربية ترتكز على تنفيذ مضمون البيان المشترك الصادر عن دول قطر وأستراليا وكندا والاتحاد الأوروبي وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان والسعودية والإمارات العربية المتحدة والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأميركية، والذي يرتكز على وقف إطلاق نار فوري لمدة 21 يوماً افساحاً في المجال للدبلوماسية سعياً للوصول إلى تسوية تتماشى مع القرار 1701، وتفضي إلى التطبيق الفوري لقرار مجلس الأمن رقم 2735 بشأن وقف إطلاق النار في غزة".

ولفت إلى أن رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو بات معروفاً برفض البيان، وهو يريد أن يجري ترتيبات أمنية في الجنوب وفق المصالح الإسرائيلية، لكن يبقى السؤال الكبير، حول مدى قدرة المقاومة على ردع أي اجتياح إسرائيلي للجنوب وموازين القوى الإقليمية ضمن الصراع ما بين إيران من جهة وأميركا وإسرائيل من جهة أخرى.

وتابع: "لذلك نحن ننظر إلى المعارك بأنها بين المقاومة وإسرائيل، لكن الجوهر هو صراع أميركي إيراني إسرائيلي في لبنان والمنطقة، ما يجعل المبادرات إما تفشل أو تعدّل أو تأخذ طريقها إلى التنفيذ وفق لعبة المصالح أو ما يتم التفاهم عليه بتسويات خارج الدعاية الإعلامية".

ورأى علم أنّ "هناك بنك أهداف أميركيا - إسرائيليا، وأميركا هي الداعم الأساسي لإسرائيل والخلافات التي تظهر في وسائل الإعلام بين الرئيس الأميركي وجو بايدن هي غوغائية دعائية، لكن بالعمق هناك استراتيجية واضحة، والدليل أنه عندما استهدفت إسرائيل قيادات بارزة في حزب الله منهم أمينه العام، اعتبرت أميركا أن ما قامت به إسرائيل عدالة دولية ورحبت به، هذا يعني أن ما يقوم به نتنياهو منسَّق مع الإدارة الأميركية، وإذا كانت أميركا لا تريد أن تقدم مبادرة للحل، فإن أي دولة أخرى ستكون عاجزة عن ذلك بالنظر إلى النفوذ الأميركي في المنطقة".

 


 

المساهمون