رأى باحثون أن عملية المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر/تشرين الأول شكلت صدمة للولايات المتحدة، وأوقفت مقارباتها للمنطقة عندما أجبرت واشنطن على العودة لترميم صورة الردع الإسرائيلي، واعتبروا أن الحرب على غزة كشفت عن شرخ في مواقف أوروبا التي توحدت في أوكرانيا وانقسمت تجاه فلسطين، ودفعت كذلك النظام الإقليمي في الشرق الأوسط بصورته السابقة إلى الانهيار لصالح بروز قوى جديدة.
وتناول ثلاثة باحثين، السبت، في الندوة العامة الأولى للمنتدى السنوي لفلسطين الذي ينظمه المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات، في الدوحة، المواقف الأميركية والأوروبية والعربية من الحرب على غزة، وأثرها على النظام الإقليمي والدولي.
وقدم أسامة أبو ارشيد، الباحث غير المتفرغ في المركز العربي، مقاربة لموقف إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، وقال إن الكثير ممن يلومون السياسة الأميركية المنحازة يحيلون ذلك حصراً إلى اللوبي الصهيوني، الأمر الذي يخالفه (الباحث)، مبيناً أن أميركا ليست ضحية اللوبي الصهيوني، بل هناك أجندة مشتركة ونشأة واحدة من منطلق المفهومين، الاستيطاني والإمبريالي، لأن إسرائيل في المحصلة امتداد للمشروع الإمبريالي الغربي، وتحديداً الأميركي، وفق تعبيره.
وعليه، يرى أن حكاية اللوبي لا ينبغي أن تكون سبباً لتبرئة أميركا، "التي بوصفها دولة إمبريالية تملك الأدوات والقوة اللازمتين لكي تقوم بالتدخل في شؤون دول أخرى، منذ مبدأ مونرو (الرئيس الأميركي من 1817 حتى 1825) الذي أعلن أن فضاء الأميركتين الشمالية والجنوبية هو تحديد للولايات المتحدة، لا تدخله القوى الاستعمارية الأوروبية".
وذكر أبو ارشيد أن السابع من أكتوبر/تشرين الأول شكل صدمة لأميركا قبل إسرائيل، "وعلى غير عادتها المواربة حين تطلب من إسرائيل خفض التصعيد والتوتر وتزودها في الوقت نفسه بالسلاح، أخذت هذه المرة تزايد وتدعو مباشرة إلى الحسم واستخدام القوة العسكرية".
تفسير الموقف الأميركي، بحسب الباحث، مرده إلى أن الولايات المتحدة كانت جاهزة للتركيز على المحيطين الهادئ والهندي اللذين يمرّ منهما ثلثا التجارة العالمية، وبالتالي التركيز على خصمها الأول الصين الذي يملك الإمكانات والإرادة لإطاحة عرشها كقوة عظمى.
ورأى أن إدارة بايدن كانت تتبنى مقاربة دونالد ترامب بإقامة تطبيع عربي إسرائيلي ونظام إقليمي تكون إسرائيل حجر زاويته اقتصادياً وأمنياً، حتى تتفرغ الولايات المتحدة للصين، في الوقت الذي تستنزف فيه روسيا في شرق أوروبا.
كل ذلك توقف بشكل صاعق يوم 7 أكتوبر، بحسب الباحث الذي اعتبر أن صورة إسرائيل التي تمثل العامود الفقري الاقتصادي والأمني إقليمياً، أبانت عن درجة كبيرة من الانكشاف والفشل الكارثي، وبالتالي عادت أميركا مضطرة لترميم صورة الردع لدى وكيلها في المنطقة.
قد تكون قضية فلسطين قضية انتخابية في أميركا، هذا الاحتمال بحسب أبو ارشيد يعني احتمالية أن يخسر الديمقراطيون الانتخابات بسبب فلسطين، مشيراً إلى أن بايدن ليس لديه سوى أداء اللعبة ذاتها بتخويف العرب والمسلمين من قدوم ترامب، إلا أنه ليس من السهل مرور الدماء التي سفكت على يده دون حساب، كما قال.
الموقف الأوروبي
أستاذ النزاعات الدولية في معهد الدوحة للدراسات العليا، إبراهيم فريحات، قدم صورتين لأوروبا: الأولى حين دخل الجيش الروسي أوكرانيا، فكانت أوروبا في وحدة قوية ونادرة وصلت إلى المزايدة فيما بينها على دعم "صمود الأوكرانيين ضد الاحتلال الروسي"، والتباهي بالموقف المتراصّ ضد روسيا. أما الصورة الثانية، فظهرت عقب حرب الإبادة على غزة، وشهدت شروخاً أوروبية، تبعاً لمواقف جريئة بعيدة عن التواطؤ مع إسرائيل، اتخذتها دولة عديدة مثل إسبانيا وبلجيكا والنرويج وأيرلندا.
وفي داخل بنى الدول ذاتها، تحدّث فريحات عن إرباكات سياسية أحدثتها الحرب، أبرزها في فرنسا التي كان رئيسها إيمانويل ماكرون يتحدث في البدء عن تحالف دولي لمحاربة الإرهاب من أجل القضاء على حماس، ثم عاد ليتحدث عن تمادي إسرائيل، في انقلاب على نفسه.
وبحسب فريحات، لم تسلم من ذلك حتى بريطانيا التي أطاحت وزيرة داخليتها عقب تصريحاتها العنصرية، مشيراً هنا إلى موقف مغاير لوزير الخارجية المحافظ ديفيد كاميرون في تصريحات تعتبر تقدمية وخروجاً عن الموقف التقليدي في بريطانيا، إذ تحدث عن إمكانية الاعتراف بدولة فلسطينية، حتى قبل الانتهاء من العملية السياسية والمفاوضات.
وتناول فريحات ما رآه أعمق من أزمة المستوى السياسي، متمثلاً بالمشروع الحضاري الأوروبي وأنظمته الديمقراطية الليبرالية التي ترتكز أساساً على حقوق الإنسان وحرية التعبير، والذي تعرض لضربة قوية حين بدا منفصماً بين أوكرانيا وفلسطين، ومنجرفاً نحو اليمين الفاشي المتطرف.
وذهب المحاضر إلى مظهر آخر طاول هذه المرة المؤسسة الكبرى في منظومة الديمقراطية الليبرالية، ألا وهي الاتحاد الأوروبي، حيث انعكست الانشقاقات السياسية في غير مجال، كان أكثرها سطوعاً التصريحات المتضادة بين جوزيف بوريل منسق السياسة الخارجية، وأورسولا فون دير لاين رئيسة المفوضية الأوروبية "ذات المواقف الفاشية العنصرية الداعمة لإسرائيل".
واعتبر فريحات كسر دول أوروبية حالة الإجماع تطوراً مهماً جداً، ومن ذلك الحديث عن مساءلة إسرائيل في ما يخص الإبادة، وسحب الامتيازات إن لم تقبل حلّ الدولتين، مدفوعاً بالإرباك الذي أحدثته قرارات محكمة العدل الدولية.
ولفت أخيراً إلى أن الموقف الشعبي في بلدان أوروبا فاق كل التوقعات، "حتى إن المظاهرات الشعبية كانت لصالح فلسطين بنسبة تفوق التسعين في المئة".
المواقف العربية
تبدو المواقف العربية عند محمد أبو رمان، الأستاذ المشارك في قسم العلوم السياسية في الجامعة الأردنية أشد تعقيداً وتركيباً من مواقف أوروبية وأميركية، "فكل دولة عربية تحتاج إلى جلسات طويلة لمعرفة ماهية مواقفها السياسية"، حسب قوله.
وبالنسبة إليه فإنه لا يوجد نظام رسمي عربي "حتى نعاين موقفاً رسمياً عربياً، بل الحال القائمة يجدر وصفها باللانظام الرسمي العربي".
ورأى أبو رمان أن النظام الإقليمي في الشرق الأوسط بصورته السابقة قد انهار، وأن هناك صراعاً على قواعد اللعبة الإقليمية، وغزة محطة رئيسية في إعادة قواعد اللعبة التي سيتمخض عنها اللاعبون الرئيسيون والثانويون.
وفي حالة الفوضى الإقليمية، قال أبو رمان إن إيران التي لديها قوى موالية في العراق وسورية واليمن ولبنان حريصة على عدم توسيع الصراع، "وهي تتصرف من منظور مصلحي قومي وأولويتها كما يستنتج هي سورية والعراق أكثر من غزة".
وتناول تحت عنوان "أزمة الدول الوطنية العربية" ما قال إنه تراجع وانهيار في القيم الوطنية لدى العديد من الدول العربية التي بدأت تتعرض للصراعات الطائفية والعرقية، مقابل بروز فاعلين جدد دون مستوى الدول.
وقال: "في السابق كانت الشعوب تنتظر خطابات جمال عبد الناصر وصدام حسين وياسر عرفات، أما اليوم فهي تنتظر خطابات الفاعلين الجدد من أمثال حسن نصر الله وقادة الحشد الشعبي والحوثيين".
وفي الإطار، رأى أن الحرب على غزة فاقمت أزمة شرعية النظم العربية التي أصبحت مكشوفة رمزياً وسياسياً.
ومع انجرار إدارة بايدن وراء الرواية الإسرائيلية بإطلاقها صفة "داعش" على حركة حماس، قال إن العداء لأميركا سيزداد عمقاً عند الشباب العربي بوصفها التهديد الرئيسي للعرب، كما ظهرت بوادره في الاستطلاع حول الحرب على غزة الذي أجراه المركز العربي أخيراً.
وتوقع المحاضر بروز موجة جديدة من التطرف، رداً على ما يحدث في غزة ونتيجة انسداد الأفق السياسي، قائلاً إن الموجات الفكرية الأيديولوجية أسست لها أحداث مفصلية، فنكبة الـ48 أسست للانقلابات العسكرية وجاءت بالضباط الأحرار، ونكسة الـ67 جاءت بما يسمى الصحوة الإسلامية، والثمانينيات الجهادية العالمية، وما وقع على غزة سيؤدي إلى موجة كبيرة في العالم العربي، وربما في اتجاهات أخرى، حسب قوله.