"لا أهمّية لفلسطين ولا لتحريرها في الوقت الحالي، طالما لم تقم دولة الخلافة في محيط فلسطين"، هذا لسان حال السلفية الجهادية، وحجتها، ومنهجها، الذي قلما وضع تحت المجهر، ليس في السنوات الأخيرة من تناميها في العالم فقط، ولكن منذ ثلاثينيات القرن الماضي، مع حركة الإخوان المسلمين، حتّى ظهور القاعدة والحركات الجهادية، وصولًا إلى داعش، والجماعات الجهادية في دول الطوق، القريبة من دولة الاحتلال.
يندرج الصراع الدائر بين القوى الفلسطينية المسلّحة في مخيم عين الحلوة؛ للاجئين الفلسطينيين في لبنان، في أغسطس/آب الحالي، تحت ما يسمي سيطرة القوى السلفية على الجغرافية، كخطوةٍ في طريق إقامة دولة الخلافة، إذ لم تكن تلك المحاولة الأولى في مخيمات الشتات الفلسطيني، خاصّةً في سورية ولبنان، كما في مخيم نهر البارد 2007، ومخيم المية ومية، ثم في مخيم اليرموك في عام 2012.
لم يقتصر وجود تلك الجماعات الجهادية على الشتات الفلسطيني، بل توجد أيضًا في الضفّة الغربية، وفي قطاع غزّة، إذ تنامى وجودها إبان فترة تصدر الحركة الإسلامية؛ حماس، المشهد السياسي، لم تسع تلك الجماعات في قطاع غزة إلى مقاتلة اليهود، والجهاد ضدّ العدوّ، بل سعت إلى مواجهة حماس، التي حادت عن العقيدة، وطبعت علاقاتها مع القوى العلمانية الكافرة؛ من وجهة نظرهم. لكن سرعان ما أدركت حماس الخطر على مكانتها السياسية، خاصّةً بعدما اغتالت تلك الجماعة عددًا من رجال كتائب القسام، فقضت على تشكيل أولِ إمارةٍ إسلاميةٍ في رفح، وقتلت قيادات تلك الجماعة في 2014.
خرج بعض الفلسطينيين السلفيين من فلسطين صوب مصر وسورية، وانخرطوا في تشكيلاتٍ جهاديةٍ، بل قاد بعضهم بعضها
كثيرةٌ هي جماعات الإسلام السياسي، التي تتحدث عن القدس، في قلب هذه الجماعات جماعة الإخوان المسلمين، التي تعد أكبر التنظّيمات الإسلامية، وأقدمها في العصر الحديث، ثم تنظيم القاعدة، وتنظيم داعش، والسلفية الجهادية؛ الأكثر راديكالية من جماعة الإخوان، خطاب هذه الجماعات في ما يخص القضية الفلسطينية لا يتعدى الدور الدعائي والإعلامي، الساعي إلى جذب أكبر عددٍ ممكن من المتعاطفين مع القضية، دون تحريك فعلٍ حقيقيٍ في اتجاه حل القضية، أو التدخل في مسرح العمليات لحلها، على المستوى الجهادي الذي يدعون إليه، ويرددونه في خطابهم، فعلى الرغم من المجازر الكثيرة المرتكبة من قبل الاحتلال الإسرائيلي بحقّ شعب فلسطين، لا تحرك هذه الجماعات ساكنًا، سوى الشجب والإدانة للأنظمة العربية، التي تتخذ منهج الشجب والإدانة نفسه، في المحافل الدولية، أما الجهاد من أجل القضية فليس في برامج هذه الجماعات، إلّا على المستوى البعيد، حتّى أشاع بعضهم أنّ هذه الجماعات ربّما تكون ممولةً من قبل جماعاتٍ صهيونيةٍ، للابتعاد عن منطقة الصراع العربي الإسرائيلي.
• "فلسطين- القدس" في قلب القاعدة نظريًا
قرابة أربعة عقود مرت على الإعلان عن تأسيس "تنظيم القاعدة"، حقق خلالها التنظيم كثيرًا من الانتشار والتمدد؛ ما جعله شريكًا فاعلًا في جميع الصراعات والحروب الدائرة في العالم الإسلامي، لكنه غاب تمامًا عن أيّ فعلٍ في قضية القدس، وتحرير المسجد الأقصى، مثيرًا بذلك جدلًا واسعًا طال التيّار الجهادي نفسه.
اعتبر شيخ المجاهدين الفلسطيني؛ عبد الله عزام، أفغانستان مناخًا مناسبًا للتدريب والإعداد، بعدها يعود المجاهدون إلى بلادهم، ليؤسسوا الدولة الإسلامية، بعد إزاحة جميع الأنظمة العربية المرتدة، وفي ما بعد تحين خطوة تحرير القدس، خطوةً تاليةً لتأسيس المشروع الإسلامي". لذا يرى المتخصصون أنّ عزام له أثرٌ واضحٌ في وجود القدس في منهج وخطاب التيّارات المتشددة، ومنها القاعدة، التي كان اسمها الأول "الجبهة العالمية لقتال اليهود والصليبيين". فالجيل الأول من المجاهدين؛ إبان فترة الجهاد الأفغاني ضدّ السوفييت، كانوا يرددون الأناشيد والقصائد الخاصّة بالقدس والأقصى، التي تلهب مشاعرهم في النزال، وظلّت تلك الأناشيد والشعارات تتوارث من جيلٍ لآخر، معتبرةً القدس أرض الملحمة والمواجهة الأخيرة بين المسلمين واليهود.
وجد أغلب الباحثين في الحركات الإسلامية، أنّ الجماعات الإسلامية الجهادية لم تنشغل بقضية فلسطين، ولم تشعر في أيّ وقتٍ بأنّها مطالبةٌ بتقديم تبرير لغياب قضية القدس عن خطابها السياسي، إذ انصب تركيزها على نظرية "العدوّ القريب"؛ نظم الحكم في البلاد العربية والإسلامية، التي لا تحكم بما أنزل الله وبشريعته، ثم تطوّرت الرؤية إلى الاهتمام بالعدوّ البعيد؛ الولايات المتّحدة، خصوصًا بعد حرب الخليج عام 1991، ونشر قواتٍ غربيةٍ على الأراضي السعودية، إذ قامت بهجماتٍ مسلّحةٍ في مناطق متفرقةٍ ضدّ الأجانب، كما في مصر ، وضدّ القوات الأميركية في اليمن حتّى عام 1998، دون أن تواجه القوات الإسرائيلية نفسها. ثم بعد مؤتمر شرم الشيخ المنعقد في 1996، والمعني بالقضاء على الإرهاب، ادعت الجماعات الجهادية أنّ المؤتمر موجهٌ ضدّ المسلمين، ويوفر غطاءً للسياسات الإسرائيلية، إذ عقد المؤتمر بعد سلسلةً من الهجمات الانتحارية في إسرائيل.
بعد الحرب على غزة عام 2009، حدث تحوّل نوعيٌ في خطاب أسامة بن لادن، وخطاب قادة الجهاديين في كلٍّ من العراق والمغرب العربي والصومال، حول الجهاد في فلسطين، حتّى لو كان شكليًا، نظرًا للصمود الذي أظهرته حماس، والشعب الفلسطيني وقت الحرب، فقد أحدث هذا الصمود ما يشبه "الزلزلة" في الفكر الجهادي، إذ كيف تنتهك أرض إسلاميةٌ قريبةٌ، وفي الوقت ذاته يدعو قادة القاعدة إلى أرضٍ جهاديةٍ بعيدةٍ جغرافيًا عن القدس وفلسطين. كان خطاب بن لادن وقتها تصويبًا لمسار القاعدة من جهةٍ، ولتهدئة الجماهير الغاضبة من جهةٍ أخرى.
لم يقتصر وجود تلك الجماعات الجهادية على الشتات الفلسطيني، بل توجد أيضًا في الضفّة الغربية، وفي قطاع غزّة
يعترف الشيخ أبو محمد المقدسي البرقاوي؛ وهو من منظري الجهادية السلفية، بأنّ التيّار الجهادي لم يقدم شيئًا لفلسطين وبيت المقدس، ففي رسالةٍ هي الأولى من نوعها، وجه المقدسي انتقاداتٍ لاذعةً لقادة التيّار السلفي الجهادي حول العالم، بسبب تقصيرهم تجاه قضية فلسطين والقدس، تحت عنوان "بيت المقدس في القلب فهل آن لحقوقها أن تظهر على الجوارح؟"، نشرها على موقع "منبر التوحيد والجهاد" في أبريل/نيسان 2009.
• دولة الخلافة قبل تحرير فلسطين
مع ثورات الربيع العربي، وتولي حركة الإخوان المسلمين حكم مصر وتونس، وما رافقه من مواءماتٍ مع القوى الخارجية والداخلية في كلّا البلدين، كالدستور والبرلمان والاعتراف بكامب ديفيد وغيرها، كانت المفارقة هي ارتقاء أهمّية فلسطين، إذ جعل تحريرها أمرًا وأولويّةً ومركزيًا، في خطب أيمن الظواهري؛ زعيم تنظيم القاعدة في أفغانستان، في حين اختلف عنه خطاب أبو بكر البغدادي؛ زعيم تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، والتي عرفت إعلاميًا باسم داعش، رغم كون فلسطين المحتلة على قيد أنملة من مدى أسلحته ودولته.
غابت فلسطين فعليًا عن أهداف الحركات السلفية الجهادية، منذ تأسيس جماعة الإخوان المسلمين عام 1928 في مصر، وعام 1942 في سورية، ولم ينخرط الفلسطينيون في تلك التشكيلات، إذ توزع المناضلون الفلسطينيون على التيّارات القومية والوطنية والدينية المعتدلة واليسارية، وأسسوا تنظيماتهم الفلسطينية المستقلة، التي تهدف إلى تحرير فلسطين أولًا. في ما اكتفت الحركة الإسلامية الأردنية بموالاة النظام الأردني، أما حزب التحرير الإسلامي في فلسطين فيؤجل "الجهاد" حتّى وجود الخليفة، ويعادي النظام، والحركات القومية واليسارية معًا، حتّى يومنا هذا.
في أوائل سبعينيات القرن الماضي؛ خرج بعض الفلسطينيين السلفيين من فلسطين صوب مصر وسورية، وانخرطوا في تشكيلاتٍ جهاديةٍ، بل قاد بعضهم بعضها فمثلًا تأسس في مصر "تنظيم الفنية العسكرية"، بقيادة صالح سرية، ولعله التجسيد المنظم الأول لـ "السلفية الجهادية" في المنطقة العربية. وفي عام 1974، قام التنظيم بمحاولةٍ مسلّحةٍ بالسكاكين للسيطرة على مقر الكلية الفنية العسكرية، تمهيدًا للاستيلاء على الحكم في مصر، انتهت المحاولة بالفشل، وباعتقال رؤوس التنظيم. وفي عام 1979، وعلى إثر دخول الجيش السوفييتي أفغانستان، أصدر عبد الله عزام؛ الفلسطيني السلفي، بعد خروجه من غزّة، والذي لعب دورًا مهمًا في تشكيل تنظيم القاعدة؛ مع عددٍ من الشيوخ، فتوى ضمنها في كتابه "الدفاع عن أراضي المسلمين أهمّ فروض الأعيان"، وأكد مضمونها في وصية 1986، ومفادها أنّ الجهاد "فرض عينٍ على كلّ مسلمٍ في الأرض..."، وأنّ "الناس كلهم آثمون الآن بسبب ترك القتال، سواء كان القتال في فلسطين، أو في أفغانستان، أو في أيّ بقعةٍ من بقاع الأرض، التي ديست من الكفار، ودنست بأجراسهم."
في أعقاب الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، وانتقال مركز ثقل الحركة الوطنية الفلسطينية إلى الداخل، وبروز تيّار "السلفية الجهادية" عربيًا، خاصّةً في مصر وسورية، ومع ما شهده الفلسطينيون؛ في الوطن وفي المنفى، من مخاضٍ سلفيٍ جهاديٍ خاصٍ بهم، عبر عن نفسه من خلال أفراد ومجموعاتٍ صغيرةٍ، ولد في أواخر الثمانينيات تيّارٌ عريضٌ تجسد في "حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين"، و"حركة المقاومة الإسلامية"(حماس)، اللتين رغم انتمائهما الفكري لتيّار الجهادية، لكن نضالهما الوطني اليومي جعلهما يتخذان مسارًا ونهجًا مختلفًا، يجمع بين الوطني والجهادي.
بحسب إحدى تغريدات تنظيم داعش عام 2014 "إن الله في القرآن الكريم لم يأمرنا بقتال إسرائيل أو اليهود حتّى نقاتل المرتدين والمنافقين، ولن تتحرر القدس حتّى نتخلص من هؤلاء الأصنام.