بات الصراع على أوكرانيا مفتوحاً بين روسيا وحلف شمال الأطلسي، ولم تنجح كل محاولات التوسط والضغوط على موسكو خلال الأسبوعين الماضيين، كي تتراجع خطوة نحو الوراء عن التهديد بالقوة العسكرية، في ظل اتهام باجتياح وشيك لأوكرانيا من أجل تغيير الوضع الراهن. وآخر محطة في المساعي الدبلوماسية، كان اجتماع منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، على مستوى وزراء الخارجية، في الثاني من شهر ديسمبر/كانون الأول الحالي في استوكهولم، الذي انتهى من دون أن يحقق نتائج ملموسة، بصدد تبريد الموقف الساخن في جبهة شرق أوكرانيا.
وعلى الرغم من أن وزيري خارجية الولايات المتحدة وروسيا، أنتوني بلينكن وسيرغي لافروف، عقدا مؤتمراً صحافياً مشتركاً، فإن كلا منهما مارس رمي الكرة في ملعب الآخر، الأمر الذي عبّر عن عمق الهوة بين الموقفين الغربي والروسي. وفي حين حصر بلينكن حديثه بالأزمة الأوكرانية، ذهب لافروف إلى إثارة علاقات روسيا مع الحلف الأطلسي والأمن في أوروبا. ويؤكد كل ذلك من جديد، أن الأزمة الأوكرانية أصبحت في مركز ملفات الخلاف الروسي - الأميركي، الذي عجّل في تحديد موعد قمّة طارئة عبر الفيديو، بين الرئيس الأميركي جو بايدن ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، يوم غدٍ الثلاثاء.
أوكرانيا غير مشمولة بمعاهدة الدفاع الشاملة للناتو، ما يخلق مشاكل لحلف الأطلسي
أدلة على خطط روسيا العدوانية
بدا الأمر معقداً بالنسبة للطرفين، لأن اجتماع استوكهولم جاء بعد يوم من اجتماع آخر لوزراء خارجية حلف شمال الأطلسي (ناتو) في عاصمة لاتفيا، ريغا، على الحدود مع روسيا، والذي خرج بعده بلينكن ليتحدث عن "أدلة على أن روسيا وضعت خططاً لتحركات عدوانية كبيرة ضد أوكرانيا". وقال بلينكن: "لا نعرف ما إذا كان الرئيس بوتين قد اتخذ قرار الغزو، لكننا نعلم أنه يضع القدرة على القيام بذلك في وقت قصير". واعتبر الوزير الأميركي أن "الدبلوماسية هي الطريقة المسؤولة الوحيدة لحلّ هذه الأزمة المحتملة"، محذراً من أنه ستكون هناك "عواقب بعيدة المدى وطويلة الأمد" بالنسبة إلى موسكو إذا مضت قدماً في أي عدوان.
ويبدو أن بلينكن كان يلمح إلى التكتيك الذي سبق أن اتبعته روسيا بنجاح في عام 2008، عندما احتلت إقليم أوسيتيا الجنوبية من جورجيا، حينما استقدمت قوات كبيرة بعشرات الآلاف، أبقتها في حالة مناورات متقدمة من النزاع، واستخدمتها في اللحظة المناسبة. وهو ما يشبه حال الحشود العسكرية الروسية اليوم على الحدود مع أوكرانيا قرب جمهوريتَي دونيتسك ولوغانسك في دونباس (غير معترف بهما) في إطار تدريبات روتينية، مع إمكانية استخدامها العاجل في حال حدوث أي تغيير في الموقف الميداني.
حلف الأطلسي ناقش في اجتماع ريغا وضع خطة طوارئ، في حال قيام روسيا بغزو أوكرانيا، تتضمن تقديم دعم إضافي للجيش الأوكراني، واحتمال تعزيز قواته المنتشرة على الضفة الشرقية. إلا أن أوكرانيا، الطامحة للانضمام إلى الحلف، والتي شارك وزير خارجيتها ديميتري كوليبا في الاجتماع، غير مشمولة بمعاهدة الدفاع الشاملة للحلف، وهذا أمر يخلق مشاكل لـ"الناتو" في حال تطور النزاع إلى حرب.
وهنا العقدة التي لا يمكن للحلف أن يحلّها، فهو غير قادر على ضم أوكرانيا إلى عضويته في الوقت الراهن، وليس في وسعه الدفاع عنها كما لو أنها فرد كامل العضوية، تنطبق عليه المادة الخامسة من ميثاق الحلف، والتي تنص على أن "الهجوم على إحدى دول الحلف سوف يُعامل على أساس أنه هجوم على بقية الأعضاء جميعاً، وأن الحلفاء ملزمون بالرد عليه، وأن استخدام القوة العسكرية يعد أحد الخيارات في هذه الحالة". ومن المعروف أن الأطلسي ساعد أوكرانيا كثيراً، ولكنها ليست المساعدات التي تستطيع أن تقف في وجه تهديدات روسيا، التي تحاصر أوكرانيا من ثلاث جهات بأكثر من مائة ألف جندي.
تعيش كل من بولندا ولاتفيا وليتوانيا، تهديداً من الشرق من طرف بيلاروسيا
تعود جذور التوتر الراهن إلى أكتوبر/تشرين الأول الماضي، عندما اكتشفت الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) أن روسيا كانت تحرك قواتها نحو الحدود الأوكرانية، وأنها بخلاف عمليات الحشد الحدودية السابقة، كانت تضع خططاً سرية حول كيفية استخدامها في أوسع من منطقة الصراع المحتملة في الجزء الشرقي من أوكرانيا، الذي احتله الانفصاليون المدعومون من روسيا، والذي اقتربت منه القوات الروسية في إبريل/نيسان الماضي، ولكن نحو مساحة أكبر بكثير، ولهذا دقت أجراس الإنذار في الوكالة ثم في أنحاء الحكومة الأميركية. ومع تصاعد التوتر، توجه مدير "سي آي إيه" وليام بيرنز إلى موسكو في شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وحمل إلى موسكو رسالة تحذير واضحة من أن الغزو الروسي سوف يواجه بردود فعل قاسية جداً، قد تصل إلى تحطيم الاقتصاد الروسي.
اتجاهان للتحرك الغربي
ومنذ ذلك الحين، يسير التحرك الغربي في اتجاهين: الأول هو منع بوتين من تنفيذ مخططه عن طريق الترهيب والترغيب، وأول خطوة جرى العمل عليها هي إعادة الحوار بين موسكو وكييف، ولكنها لم تنجح. وضغطت واشنطن على الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي للمبادرة إلى ذلك، وقد دعا في الأول من الشهر الحالي إلى "مفاوضات مباشرة" مع موسكو لإنهاء الحرب. وقال زيلينسكي: "لست خائفاً من إجراء محادثة مباشرة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين". إلا أن الممثل الكوميدي السابق، والذي فاز برئاسة أوكرانيا عام 2019، لم يحظ برد إلا من طرف المتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، والذي كالعادة، كرر أنها "حرب أهلية، لا يمكن وقفها إلا من خلال المفاوضات بين الأوكرانيين". وهذا يعني أن موسكو لا تقف عند حدود قضية أوكرانيا، وهي تتجه للتصعيد مع الولايات المتحدة.
أما الاتجاه الثاني فهو أن الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين منشغلون بالبحث في شكل وطبيعة الرد على روسيا، في حال نفذ بوتين مخططه في نهاية يناير/كانون الثاني المقبل، واجتاح مناطق واسعة من أوكرانيا، وهو يستطيع ذلك من الناحية العملياتية.
وغير بعيد عن التهديدات التي تواجه أوكرانيا من روسيا مباشرة، تعيش كل من بولندا ولاتفيا وليتوانيا، الأعضاء في الأطلسي، تهديداً من الشرق من طرف حليف موسكو، الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشنكو، الذي فتح بلاده أمام آلاف المهاجرين وغالبيتهم من الشرق الأوسط، إلى حدودها، في ردّ على عقوبات يفرضها الاتحاد الأوروبي على مينسك.
يعتبر الأميركيون أن الحشد الروسي على حدود أوكرانيا، لا يمكن أن يأتي في وقت أسوأ من ذلك
طموحات بوتين
يطمح بوتين في الحد الأدنى أن يبقي الوضع الراهن على ما هو عليه، أي أن يثبت ضمّ جزيرة القرم إلى روسيا، ويمنع تغيير الموقف القائم في الشرق، بالإضافة إلى بقاء القوات الروسية التي تقدمت إلى مواقع جديدة، في مواقعها الحالية على حدود أوكرانيا من ثلاث جهات. وهدفه باختصار، هو أن يبسط ظلّه الثقيل على أوكرانيا، ويمنعها من أن تتصرف باستقلالية على مستوى خياراتها وعلاقاتها الخارجية، وهذا يحول، في المدى المنظور، دون انضمامها إلى حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، ويبقيها مكبلة، بمثابة حديقة خلفية لروسيا. ويترجم بذلك المقولة التي رددها لافروف في مؤتمره الصحافي مع بلينكن في استوكهولم مرات عدة، بأن "أوكرانيا خط أحمر". وباعتبار أن موسكو تعرف أن الأطلسي ليس في وارد ضمّ أوكرانيا، فهي تطمح إلى ترسيم هذا الخط الأحمر رسمياً، وهو ما استدعى رداً من بايدن يوم السبت الماضي، بأنه لن يقبل "خطوطاً حمراء" من جانب روسيا.
وتعمل موسكو للذهاب أبعد، باتجاه تفاهمات جديدة مع حلف الأطلسي والولايات المتحدة بخصوص مسائل عدة، أهمها إبعاد الأطلسي عن حدود روسيا، وأن يجري تسجيل ذلك في اتفاقات جديدة، بديلة لكل ما جرى التوصل إليه من اتفاقيات بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وتعتبرها روسيا مجحفة بحقها. وهذا ما أعلن عنه لافروف بالاقتراحات الخاصة التي سيقدمها الروس لواشنطن. وهناك قضايا مثار خلاف بين البلدين تتعلق بالأمن السيبراني، والوضع في ليبيا وسورية، والتدخل الروسي في الانتخابات الأميركية، واتفاقات الأسلحة الاستراتيجية، ومعاهدة الصواريخ النووية قصيرة ومتوسطة المدى، التي انسحبت منها الولايات المتحدة في أغسطس/آب 2019.
تحرك بوتين لقلب الطاولة، ولديه شعور بأن القمة التي عقدها مع نظيره الأميركي في يونيو/حزيران الماضي لم تعد عليه بنتائج إيجابية، بل إن أميركا واصلت تعزيز مواقعها، في وقت يعتبر الأميركيون أن الحشد الروسي على حدود أوكرانيا، لا يمكن أن يأتي في وقت أسوأ من ذلك، حيث كان بايدن يسعى إلى تحسين العلاقات مع موسكو بعد لقاء القمة.
ومن هنا تبدو قمّة الرئيسين الأميركي والروسي المرتقبة هي المؤهلة لحسم الملفات، ولكن ليس بالضرورة أن يكون بايدن أكثر حرصاً من الرئيس الأسبق باراك أوباما (بايدن كان نائبه حينذاك) الذي فرّط بالقرم عام 2014، وعلى الرغم من أنه هدد بأن بوتين سيدفع "الثمن" إذا لم يعدل عن ضم شبه الجزيرة إلى روسيا، فإن العقوبات التي فرضها كانت من النمط العادي، واستطاعت روسيا امتصاص آثارها. وبرّر أوباما تقاعسه عن دعم سيادة أوكرانيا، بأن ما قام به بوتين هو في إطار الانتقام لسقوط الاتحاد السوفييتي، وقد يتصرف بايدن على نفس المنوال، حين يرى بوتين يجتاح أوكرانيا، كي يتناول طبق الانتقام لسقوط الاتحاد السوفييتي، بعدما أصبح بارداً. وقال الرئيس الأميركي يوم الجمعة الماضي، إنه يعد "مجموعة من المبادرات" التي تهدف إلى حماية أوكرانيا من هجوم روسي، وهدفها "أن تجعل من الصعب جداً بالنسبة إلى بوتين أن يفعل ما يخشى الناس أن يفعله".