استمع إلى الملخص
- سوريا مارست نفوذًا كبيرًا في لبنان منذ 1976 تحت "قوات الردع العربية"، حيث سيطرت على الشؤون اللبنانية، مما عكس علاقة المستعمر بالمستعمرة.
- بعد سقوط نظام الأسد، شهدت سوريا تحولًا كبيرًا مع عودة النازحين وبداية مرحلة جديدة من الحرية، مع التركيز على الحوار الوطني وإعادة بناء البلاد.
في صبيحة يوم صيفي؛ العاشر من يونيو/حزيران من العام ألفين، سارع أهالي منطقة البقاع على طول خطّ بيروت دمشق، ما يسمى بخطّ الشام، إلى إغلاق محالهم التجارية والاختباء في منازلهم. الصمت تسيّد المكان. مكبّرات الأذان المنثورة على أسطح المنازل صدحت بآيات قرآنية. كان موت حافظ الأسد قد أُعلن حينها من قصر الشعب، مغلقًا حقبة ثمانية وعشرين عامًا من سلطة الرجل الواحد، الذي شقّ طريقه إلى السلطة بالدم والنار من منزل فقير في القرداحة، صعودًا إلى الحكم في سورية، ممتطيًا أحصنة البعث بشعاراته الاشتراكية والعربية، وحرب فلاحي الأرياف الفقراء على ملّاك الأراضي، وأقليّة الأقلّية العلوية، ولو كان قد حاول في بداياته أن يُعلي رايات العروبة والوطنية؛ مُزيحًا الخصوم حتى لو كانوا رفاقًا في المكيدة الأولى، مسوّرًا حكمه برجال أوفياء، رافقوه منذ كان على مقاعد الدراسة في اللاذقية. كان ذاك التاريخ أيضًا بداية حقبة جديدة، مع ابنه الشاب بشار الأسد، وريث حكمٍ ظاهره علماني، باطنه طبقي – عائلي - طائفي؛ استئثار أقلويّ للسلطة تتجسّد فيه كلّ وجوه الاستبداد.
كانت هذه أجواء المناطق البقاعية على طول خطّ الشام في لبنان؛ حيث كان جنود فرقة المدرّعة الأولى في الجيش السوري، يعسكرون في أماكن متفرّقة. ينصبون الحواجز عند مداخل القرى والبلدات، ويقبعون في مقرّات عسكرية كانت بيوتًا للأهالي، احتلّوها عند دخولهم في الأشهر الأولى من العام 1976؛ تاريخ التدخل السوري في البلد، والذي شُرعن عربيًّا بعد أشهر قليلة، في قمّة الرياض تحت إطار "قوّات الردع العربية".
من المنطقة نفسها؛ وفي شهر ديسمبر/كانون الأوّل من العام 2024، كان مئات آلاف النازحين السوريين الذين نزحوا وهُجّروا من مدنهم وبلداتهم وقراهم بعد اندلاع الثورة السورية ضدّ نظام أسرة الأسد من العام 2011، يجرّون أحمالهم الثقيلة، عائدين من نقطة المصنع الحدودية إلى بلادهم، بعد انتصار حرب التحرير على منظومة الأسد. لا تسألهم عن الغد، وهموم بناء البلد، الأهمّ أنّ بشار قد رحل. جبلٌ من القهر والظلم قد أُزيح، وحقبة جديدة من تاريخ سورية تفتح لهم ذراعيها؛ لا تسألهم عن الخوف من المستقبل ودين ودُنيا الحاكم الجديد، لا يهمّ الآن. المهمّ أنّ الطاغية سقط. لا يخشون حربًا طائفية، على عكس ما يُشاع؛ يكاد الجميع يتفق على أنّ الطائفية لم تشقّ طريقها إلى حاراتهم وبيوتهم إلّا مع هذا الأسد، وهو موقف يعكس رغبة جامحة في دفع شبح أيّ تقسيم وحرب يُروّج لهما بعيدًا: "تعبنا، لا نريد حربًا بعد الآن".
أثرٌ للحاكم العسكري بين شتورا وعنجر
غير بعيد من نقطة المصنع، وتحديدًا في عنجر، بناءٌ قديمٌ مهجورٌ من طابق واحد، مسوّر بسياج إسمنتي وبوابة حديدية أشبه بتلك الواقفة عند عتبة المراكز الأمنية السورية، وأمامه كومة تراب قد نبت فيها عشبٌ يعكس حالة الهجران. هذا البيت تملكه عائلة أرمنية لبنانية مهاجرة، وكان يسكنه احتلالًا "الحاكم السوري" في لبنان، ابن القرداحة غازي كنعان، الذي كان يناديه بعض أبناء المنطقة من العائلات المعروفة محاباةً وتزلّفاً بأبو يُعرب. من هذا البناء، كان يدير البلاد على مدى عشرين عامًا قبل أن يُستدعى إلى دمشق بعد تسلّم الأسد الثاني السلطة، ويخلفه رستم غزالة. كان كنعان، الذي يملك رصيدًا أمنيًّا ثقيلًا في تصفية خصوم الأسد خلال صعوده في سورية، الحاكم الفعلي في لبنان، وصلة الوصل بين حافظ والرئاسات اللبنانية الثلاث. كان رضاه شرطًا لا بدّ منه لطالب السلطة مهما صغرت أو كبرت، من رئاسة بلدية إلى رئاسة الجمهورية.
إضافة إلى هذا البناء المهجور حاليًّا، كان كنعان، الذي "انتُحر" بإطلاق ثلاث رصاصات على رأسه بعد الإدلاء بشهادته أمام لجنة التحقيق الدولية في اغتيال رفيق الحريري، يحتلّ عدّة قصور في بلدية عنجر، "قدّمها" له الأهالي عن طيب خاطر، كما يقولون لنا، لرفع البلاء، فيما لم يبخل عليهم بدور الحامي للبلدة التي تحتضن الأقلية الأرمنية: "لم نر منه شرًّا مطلقًا، على عكس غيرنا في القرى والبلدات المجاورة". الأهالي هنا، لا يتردّدون بالحديث عنه أو عن البيوت التي احتلّها، لن يخيفهم من تحت التراب، كما يقول أحدهم، على خلاف من يسكنون حاليًّا قصره ومنزل رستم غزالة في بلدة شتورا. رحل الجيش السوري، وسقط النظام، وفرّ الأسد فرار الهالكين، ولا يزال الرعب في ملامحهم والرجفة تقطع أنفاسهم عند الحديث عنه.
بين منطقتي شتورا وعنجر، حُكم البلد عبر الأوصياء السوريين ونال ما نال سورية من الاستبداد
السيّدة التي تسكن حاليًّا قصر كنعان السابق، وهي زوجة رئيس بلدية عرف كنعان بما يكفي لترئيسه على البلدية؛ تنفي خوفًا من أن يكون القصر سكنًا سابقًا لكنعان، ثمّ تتراجع، مشيرة إلى أنّ عائلتها اشترته من إلهام فريحة التي ورثت المنزل عن أبيها (الصحافي والناشر المعروف) سعيد فريحة. حالُ سكّان قصر كنعان، من حالِ ساكني مقرّ إقامة رستم غزالة اليوم، والذي صار روضة أطفال، ويقع على بُعد كيلومترات قليلة في المنطقة نفسها.
بين منطقتي شتورا وعنجر، حُكم البلد عبر الأوصياء السوريين، ونال ما نال سورية من الاستبداد. حقبة 19 عامًا من القمع والفساد والمحسوبية والاغتيالات، لم تكن بأيّ حال ندّية بلدين؛ بل علاقة مُستعمر مع مستعمراته. وفيما عدّت سورية، لبنان امتدادًا لأمنها القومي، فإنّ التبعية والفوقية تسيّدت العلاقات، وكان الحكم يجري عبر الأوصياء العسكريين، وكان لقاء الرئيس حافظ الأسد في ما يخص المسؤولين اللبنانيين حظوة لا ينالها إلا الأوفياء المقرّبون. الزيارة الوحيدة للأسد الأب إلى لبنان سبقت دخول جيشه، وحينها لم يقطع حتى المسافة إلى العاصمة بيروت، والتقى الرئيس اللبناني سليمان فرنجية في يناير/كانون الثاني 1975 في شتورا القريبة من الحدود. لطالما اعتبرت سورية أنّ لبنان سُلخ عنها بعد تقطيع أوصالها وتقليص مساحتها شمالًا وغربًا وشرقًا من قبل الانتداب الفرنسي (مساحة تقلّصت من 300 ألف كلم مربع إلى 185 ألفاً)؛ ولهذا كان أقرب إلى محافظة سورية، عند النظام، منه إلى بلد سيّد.
أطلال الأمن والمخابرات والتشليح
مشاهد الانتقال التاريخي من حقبة إلى حقبة في سورية تظهر للقادم برًّا من ناحية الغرب السوري، من نقطة المصنع؛ واحدة من الممرّات التي نفذ منها الفارون من رجال النظام الساقط. النقاط العسكرية الممتدة بين نقطتي الجمارك اللبنانية والسورية، فارغة، وصور ورسوم حافظ ونجليه باسل وبشار، مُزقت أو شُوّهت. الخطّ العسكري، الذي كان يمرّ عبره الضباط السوريون و"المدعومون"، بحسب الوصف المحلّي، صار ممرًّا للسيارات المحمّلة بأمتعة العائدين إلى البلاد المحرّرة. هنا حاجز الملايين، حيث كان جنود وضابط النقطة يشلّحون المارّة إتاوات، قد تكون أموالًا أو دخانًا، السلعة الأكثر شهرة في "التشليح"، وهو التعبير المحلّي المستخدم للإتاوة أو النهب بمعنى أدقّ. يقول سائق لبناني إنّه في إحدى المرّات كانت الإتاوة بعضًا من المأكولات التي كان يجلبها لعائلته من السوق السوري الأرخص ثمنًا مقارنة بنظيره اللبناني لأبناء المنطقة، وفي مرّة تقاسم مع ضابط النقطة فساتين للعيد كان قد حملها لابنته الصغيرة. وخلال الثورة، كانت حسبة "التشليح" تعتمد على سنوات الغياب عن البلد. سنة تعادل 5 آلاف ليرة سورية، سنتان 10، وهكذا. تلي حاجز الملايين، نقطة رابعة، والمقصود بها النقطة الأمنية التي تتبع الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد، وليس بعيدًا عنه نقطة أمن الدولة التابعة للجيش؛ الحفرة التي كان يسقط فيها سيئ الحظ ويُعتقل لأتفه الأسباب. وعلى بعد كيلومترات معدودة، تقع المنطقة الحرّة السورية التابعة لرامي مخلوف، والتي نالت ما نال مقرّات النظام السابقة من سرقة مع سقوط النظام. "شباب الهيئة"، كما يطلق الناس على عناصر فصائل "ردع العدوان" على الرغم من وجود فصائل أخرى، يتوزّعون بين نقطتين، بأعداد محدودة، يتلقّون المارّة بترحاب ومعاملة طيبة، مما يُحضر فورًا إلى أذهانهم، تأثير هذا الانتقال.
على طول جانبي الطريق، تتوزّع غالونات المحروقات المعبأة من السوق اللبناني القريب، وإلى جانبها البائعون يلوّحون للسيارات المارّة بيد، وفي اليد الثانية يحملون نصف قنينة من البلاستيك، اقتطعوا جزءها العلوي، لتسهيل تعبئة الوقود في السيارات؛ مشهد محطات الوقود البدائية هذا يرافقك إلى العاصمة السورية، في ظلّ شحّ المحروقات وسوء نوعيتها وارتفاع ثمنها في الوقت نفسه. في الطريق نحو العاصمة السورية، آليات عسكرية تركها جنود النظام، وفرّوا عند السقوط، وبينها آلية عسكرية محروقة كانت هدفًا لقصف إسرائيلي. مشهد الآليات المتروكة هذا أيضًا سيرافقنا في غالبية الطرق السريعة الواصلة بين المحافظات السورية. في طريق العودة بعد أسبوع، سيتقلّص عدد تلك الآليات، بعد استعادتها من قبل "السلطة الجديدة".
أوّل الحريّة في دمشق
لا أمن في سورية بعد، على الرغم من هذا التنقّل الحرّ المنساب الجميل؛ حرٌّ عقلًا وجسدًا، والذي لن يعرف شعوره إلا من جرّب التنقّل في بلد أمني زرع الخوف والرقابة بكلّ تفاصيل حياة أبنائه، إلى حدّ تجنيده مخبراً أمنيّاً لكلّ 240 مواطنًا. صوت الرصاص يُسمع متقطّعًا في الليل كما النهار، والأسلحة تنتشر بين الناس يمينًا ويسارًا، بين الحارات والطرق وحتى داخل الأسواق المكتظة.
في ساحة الأمويين وسط العاصمة، يحتشد الآلاف احتفالًا بانتصار الحريّة التي تلمسها في فرح الناس وأحاديثهم من دون خوف عمّا تعرّضوا له على يد النظام السابق. لكن هذه الفرحة تسكن جبلًا من قهر خمسين عامًا. الشام حرّة اليوم، لكنّها متعبة، مشهد الفقر والقهر عميق. ريفها بقيّة أبنية مهدّمة، بعضها مهجور بالكامل. بعض أبنائها فرحٌ بالتحرّر مع "لكن متوجّسة" من الآتي. آخرون وقد انتقلوا بين ليلة وضحاها إلى الضفة الثانية، يشكون الضلالة: "كنّا مضلّلين"، ويثنون على المحرّرين القادمين إليهم من إدلب فاتحين، على طريقة "مات الملك، عاش الملك". تختلط معها مفردات الانتقال بين مرحلتين من تاريخ البلاد؛ يخلطون بين "الثوّار" والمسلّحين و"داعش". رغم سقوط نظام الأسد بهشاشة وفراره، لكن هناك خوف كامن في بعض آخر لم يسقط بعد. يظنّ أحدهم أنّ ما جرى مسرحية و"الأسد لم يسقط، أنّهم يختبرون ولاءنا". حالة تصوّر حجم رعب كان سائدًا: "كنّا نخشى أن نتحدّث عنه في سرّنا"، يقول أحدهم.
قصر الشعب… للشعب مؤقتًا؟
عند مشارف العاصمة، وتحديدًا على جبل قاسيون، يجلس قصر الشعب، أو القصر الرئاسي الذي شُيّد في بداية ثمانينات القرن الماضي. يصعب الدخول إلى القصر اليوم بأريحية، إلّا ضمن الوفود الدولية، التي تحجّ من كلّ صوب لملاقاة القيادة الجديدة. حالٌ يختلف عن الأيّام الأولى للسقوط، حين اقتحمته فصائل الجنوب، سابقةً موكب إدلب نحو العاصمة. نهب الناس كلّ ما قدروا على حملانه حينها؛ في مشهد عادةً ما يلحق اللحظات الأولى لسقوط الطغاة وانتصار الثورات، تعبيرًا تلقائيًّا عن استعادة الناس لما هو ملكهم. عناصر المعارضة أمام القصر، يؤكّدون أنّهم أعادوا ترتيب وتأثيث القصر للزوّار خلال ثمان وأربعين ساعة، وأنّ بعض الناس قدموا من تلقاء أنفسهم لإعادة مقتنيات استولوا عليها عند الاقتحام. يُقال إنّ القصر الذي شُيّد بأمر من حافظ في عام 1979، قد موّل بناءه السعوديون، وبناه رفيق الحريري؛ في تلك الفترة كانت العلاقة بين نظام حافظ الأسد والسعودية على ما يُرام. في أروقة هذا القصر نفسه، تقول رواية المحقق الأممي (باغتيال الحريري) ديتليف ميليس، التي حُذفت من موقع الأمم المتحدة؛ التقى جزّار درعا ماهر الأسد، مع صهره آصف شوكت، لوضع اللمسات الأخيرة على خطط اغتيال الحريري في عام 2005؛ القرار الذي حسم أمره رجال النظام مباشرة بعد صدور القرار 1559 (عام 2004)، هذا بحسب ما يقول الصحافي البريطاني كون كوفلين في كتاب له حول الأسد، نقلًا عن تقرير ميليس. بعد تنفيذ الاغتيال، اتصل ماهر ببشار ليبلغه أنّ "المهمة نُفّذت".
يعجّ قصر الشعب اليوم بالوافدين الدوليين، للقاء أحمد الشرع، "رجل المرحلة"، بحسب ما يظهر حتى الآن على الأقل. في وقت جولتنا إلى القصر قبل أكثر من أسبوع، كان ابن الزعيم اللبناني كمال جنبلاط، قائد الحركة الوطنية الذي اغتاله نظام حافظ الأسد في عام 1977، وليد جنبلاط يزور الشرع على رأس وفد درزي. في الماضي البعيد، وبعد 40 يومًا بالتمام من اغتيال جنبلاط الأب، حضر الابن للقاء الأسد في دمشق. تحكي الروايات الآتية من فم الأسد، أنّ الأخير نظر إلى ضيفه قائلًا له "كم تشبه أباك!"
يعجّ قصر الشعب اليوم بالوافدين الدوليين، للقاء أحمد الشرع، "رجل المرحلة"
لا يمرّ يوم منذ السقوط الكبير لنظام الأسد، من دون أن يشهد القصر زيارة لوفد دولي. المفارقة حتى الآن أنّه مقابل رسائل الانفتاح دوليًّا الصادرة من سكّان القصر الجدد، لم نشهد بعد انفتاحًا على الداخل، كما يجب أن يكون على الأقلّ، وهذه ملاحظة يتناقلها أهالي الشام في مجالسهم العامة والخاصة.
التسوية ومعضلة سحب السلاح
واحد من أكثر الملفّات سخونة، والتي تخلّلتها اشتباكات وسقوط قتلى أخيرًا خصوصًا في مناطق ما يسمّى بالتماس، هو ملفّ سحب السلاح من جنود النظام السابق، وتسوية أوضاع من "لم تتلطّخ أيديهم في الدماء"، والقبض على عشرات آلاف الضباط من النظام السابق، المتورّطين في الجرائم. يقول أحد المتحدّثين باسم الحكومة المؤقتة، إنّ لديهم لوائح بـ 62 ألف اسم من جنود النظام السابق، جميعهم متورّطون في جرائم ضدّ الشعب السوري. وتتركّز العمليات الأمنية في مناطق ذي نفوذ لمؤيّدي الأسد، مع ما يتخلّلها من مناوشات واستفزازات طائفية في الأحياء المختلطة، وتجاوزات تتقاطع مع أساليب النظام السابق.
أمّا في ما يخص التسوية، فقد افتتحت عشرات المراكز (يقدّرها أحد المتحدّثين باسم فصائل المعارضة بأكثر من 52) في مختلف المحافظات. وهذه العمليات تتماثل إلى حدّ ما مع ما أنشأه النظام السابق قبل أعوام، حين افتتح مراكز مصالحة في المناطق التي انتزع السيطرة عليها وهجّر أهلها، طالبًا من المقاتلين في فصائل المعارضة، تسليم أسلحتهم. أمام مقرّ أمني سابق تحوّل إلى مركز لعمليات التسوية في محافظة القنيطرة، يصطف جنود للنظام السابق من مختلف الرتب بالعشرات. جاء هؤلاء لتسليم أنفسهم وأسلحتهم لقوّات "ردع العدوان"، يقول رقيب بينهم، لعنصر في "هيئة التحرير" يجلس خلف مكتب مدوّنًا بيانات التسليم، إنّ خدمته كانت في الرقّة، وعند سؤاله عن سلاحه بغرض تسليمه، يؤكّد الرقيب أنّه عند سقوط النظام جاءتهم الأوامر من الضباط بتسليم جميع أسلحتهم إلى قوّات "قسد".
المسؤول عن عمليات التسليم في هذا المركز وآخر مماثل في محافظة ثانية، شابٌّ ثلاثيني من درعا، يتنقل بين الغرف مشرفًا على العملية، وموجّهًا أحد الشباب للحديث مع الإعلاميين. يتحدّث باعتدال من دون تكلّف "هؤلاء الجنود فقراء زجّ بهم النظام في حربه ضدّ الشعب، كان يمكن أن أكون أنا بينهم؛ كنت محظوظًا بالفرار من التجنيد، بعضهم لم يملك هذا الحظ". وفي عرض حديثه عن آليات التسوية وتسليم السلاح، يشير إلى حادثة حصلت معه. يقول إنّ الشخص الذي كان مسؤولًا عن مركز "مصالحة" تابع للنظام السابق في درعا، أجرى عملية تسوية أمامه، وسلّم سلاحه قبل أيّام في المركز نفسه الذي كان يديره للمصالحة في زمن النظام الساقط.
وأما ما يخص الآليات، فإنّ المتقدّمين إلى التسوية يحصلون خلال أربعة أيام على بطاقة تسهّل تحرّكاتهم، ثم يجري تحقيق موسّع قد يستمر لثلاثة أشهر للتأكّد من عدم ارتكاب الجندي أو الضابط السابق لجرائم ضدّ الشعب السوري، بحسب ما يشير أحد المسؤولين في المركز من عناصر المعارضة.
أسئلة الحاضر والمستقبل
في مقرّ لحزب البعث سابقًا، يحتشد سوريون، من مختلف الأطياف، حول ندوة يقدّمها خبراء في القانون والدستور عادوا إلى البلد مع سقوط النظام (زيدون الزعبي وإبراهيم الدراجي وفائق حويجة)، وحُضّرت على عجل حال التطوّرات المتسارعة في البلد اليوم. تعكس كثافة الحضور وضجيج الأسئلة التي لا تغيب عنها المخاوف ممّا هو قادم، نيةً مجتمعية في إنقاذ البلد، بغضّ النظر عن توجّهات الحضور السياسية. يطرح النقاش، الذي جرى جزء منه على أضواء الهواتف بعد انقطاع الكهرباء عن القاعة، أسئلة المرحلة؛ دستور سورية ونظام الحكم والمستقبل والحوار الوطني، والآليات. المآخذ على قرارات الإدارة الانتقالية، التي يفضّل دراجي تسميتها بالمؤقتة، لأنّ مرحلة الانتقال تعني أننا عند عتبة الحوار الوطني وإنشاء اللجان التأسيسية لصياغة الدستور وما يتصل بها من إجراءات، وهو ما لم يحصل بعد، داعيًا إلى الصبر وعدم الاستعجال، فالعملية قد تستدعي سنوات من العمل. أمّا زيدون، فيطرح النقاش حول ما لا يجب أن يحصل في مرحلة التأسيس لدستور يحدّد نظام سورية الجديد، وفي مقدّمتها الاستفراد والإقصاء. وفيما يظهر تفهمٌ لموقف الإدارة/السلطة الجديدة في ظلّ أحوال البلاد السيئة، معيشيًّا واقتصاديًّا ومجتمعيًّا وأمنيًّا، فإنّ القرارات الأولى التي صدرت، غير مشجّعة عند البعض، وتشي بنوع من الاستفراد.
الهواجس والأسئلة تشغل السوريين على اختلاف مجالسهم وفئاتهم؛ هي محور حديث سائقي سيارة الأجرة والعمّال، والمقاهي الثقافية وساحات المدارس والجامعات. في إحدى الجامعات وسط دمشق، يقول أحد الطلاب ممازحًا أحد الإداريين، "منسقط المدير"، قبل أن يواصل طريقه إلى سطح المبنى، حيث رفاقه. هؤلاء الرفاق كانوا أوّل من سارع إلى الجامعة لإزالة صور النظام وأعلامه، ورفع علم الثورة على المبنى. الانتصار الأوّل لهم كان التخلّص من التجنيد الإلزامي في جيش النظام؛ بعضهم كان محميًّا من جبهات القتال عبر إتمام أوراق التحصيل الدراسي، أمّا من يفشل، فكان عليه أن يمضي وقته متهرّبًا من نقاط التفتيش، وكان الخيار الأفضل هو تحديد الحركة بين الجامعة والمنزل أو الهرب إلى خارج البلاد، بحسب ما يقول لنا أستاذ في الجامعة. ولهذا، إن سقوط النظام انتصارٌ شخصيّ أوّلًا.
النقاش مفتوح وحادّ في سورية هذه الأيّام، حول مستقبل البلد، وبنائه، ونظامه، ودستوره، وهويته السياسية. لا يخلو السجال من حديث الأضداد، خصوصًا عند التطرّق إلى علمانية النظام الجديد وهويته الإسلامية، غير أنّ الجديد وما يبعث الأمل، هو كسر حاجز الخوف عند الشعب السوري، وفي هذا لا عودة إلى الوراء.