تدخل أطراف سياسية رئيسية في السودان، اليوم الإثنين، مرحلة أخرى من العملية السياسية، للتوصل إلى اتفاق يُنهي الأزمة المستفحلة منذ نحو 14 شهراً (منذ انقلاب قائد الجيش عبد الفتاح البرهان على الحكومة المدنية السابقة في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021)، على اعتبار أن التوصيات التي ستتوصل إليها ورش العمل المنبثقة من الاتفاق الإطاري المبدئي الموقع بين العسكر والمدنيين بقيادة قوى إعلان الحرية والتغيير، ستكون أساس تفاصيل الاتفاق النهائي بين العسكر والمدنيين.
وكانت توّجت محاولات إنهاء الأزمة في 5 ديسمبر/كانون الأول الماضي بالتوقيع على اتفاق إطاري"مبدئي"، وقع عليه نحو 40 حزباً وجسماً نقابياً، إضافة إلى توقيع كل من القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، وقاطعته قوى عدة، أهمها حركتا العدل والمساواة وتحرير السودان، اللتان كوّنتا تحالفاً جديداً باسم "الحرية والتغيير- الكتلة الديمقراطية". وأشرك التحالف الجديد معه قوى سياسية مدنية أخرى، جميعها تتحفظ على الحوار المنفرد بين العسكر وقوى إعلان الحرية والتغيير.
السودان... خرائط طريق لـ5 مواضيع
ولم يحسم الاتفاق الإطاري بصورة تفصيلية 5 قضايا مهمة وتركها للاتفاق النهائي، وهي: العدالة الانتقالية، الإصلاح العسكري والأمني، السلام، تفكيك نظام الثلاثين من يونيو، أي نظام الرئيس المعزول عمر البشير، وقضية شرق السودان المعقدة، وترك أمرها لعقد مؤتمرات وورش عمل ضمن المرحلة النهائية بمشاركة القوى الموقعة على الاتفاق الإطاري وآخرين ممن تسميهم "أصحاب المصلحة".
أطلقت أمس الأحد العملية النهائية في الاتفاق بفعالية افتتاحية
ويحصل كل ذلك تحت رعاية وإشراف اللجنة الرباعية (الولايات المتحدة، الإمارات، السعودية، وبريطانيا)، والآلية الثلاثية (الأممية الأفريقية - بعثة الأمم المتحدة في السودان يونتاميس والاتحاد الأفريقي ومنظمة دول شرق أفريقيا للتنمية "إيغاد")، التي ذكرت في آخر بياناتها، أن نتائج المؤتمرات والورش ستضع خرائط طريق حول كل من القضايا التي سيتم النظر فيها في الاتفاق السياسي النهائي.
وبالفعل، تمّ أمس الأحد إطلاق العملية النهائية بفعالية افتتاح بحضور المدنيين والعسكريين الموقعين على الاتفاق السياسي الإطاري وممثلين عن المجتمع المدني والأكاديميين والقطاع الخاص وزعماء قبائل ورجال دين ومجموعات شبابية وممثلين للمرأة.
وينتظر أن تكون البداية العملية للمرحلة النهائية، اليوم الإثنين، بعقد أولى الورش. ويناقش المشاركون في الورشة الأولى لمدة 4 أيام خريطة طريق لتجديد عملية تفكيك نظام الثلاثين من يونيو، فيما لم يحدد بعد أي موعد لبقية الورش. لكن المؤمل هو نهايتها جميعاً مع نهاية شهر يناير/كانون الثاني الحالي على أن يوقع بعد ذلك اتفاق نهائي يعقبه في مطلع فبراير/شباط المقبل، تكوين الحكومة المدنية بعيداً عن العسكر.
وتعود الأزمة لتاريخ 25 أكتوبر 2021 يوم نفّذ قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان انقلاباً عسكرياً أطاح بحكومة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك وبتحالف قوى إعلان الحرية والتغيير عن السلطة، تحت ذريعة تصحيح مسار الثورة، وبحجة سيطرة 4 من أحزاب التحالف على مقاليد السلطة والتقرير في مصائر البلاد. ووعد البرهان حينها بتشكيل حكومة من الكفاءات المستقلة حتى موعد تنظيم انتخابات عامة فيما أبقى نفسه رئيساً لمجلس السيادة رغم انتهاء مدته بموجب الوثيقة الدستورية لعام 2019 الموقعة بين المكون العسكري وتحالف الحرية والتغيير.
لم يجد الانقلاب أي ترحيب على المستوين الداخلي والخارجي، وواجه عزلة واسعة ولم يتوقف طوال الأشهر الماضية الحراك الثوري المقاوم له، وفيه سقط ما لا يقل عن 122 شهيداً وآلاف الجرحى ومثلهم ممن اعتقلوا ثم أطلق سراحهم في فترات زمنية متفرقة. وحينما شعر الانقلاب وفي أسابيعه الأولى بحجم العزلة، لجأ إلى إبرام اتفاق مع حمدوك بعد أسابيع من الانقلاب، فلم يغير ذلك شيئاً من موجات الرفض. واضطر حمدوك للاستقالة في مطلع يناير/كانون الثاني من العام الماضي لتعيش البلاد منذ ذلك الحين حالة من الفراغ الحكومي وتدهوراً معيشياً وأمنياً واحتقاناً سياسياً يومياً.
في الفترة من يناير 2022 وحتى يوليو/تموز الماضي، فشلت محاولات رعتها الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية للتنمية "إيغاد"، التي تجمعت في مبادرة تحت اسم "الآلية الثلاثية"، في جمع الأطراف حول طاولة واحدة للوصول إلى اتفاق يُنهي الأزمة.
يناقش المشاركون في الورشة الأولى خريطة طريق لتجديد عملية تفكيك نظام البشير
وفي 4 يوليو الماضي، أعلن البرهان وبشكل مفاجئ عن انسحاب المؤسسة العسكرية من العمل السياسي وترك القرار للقوى المدنية للاتفاق على وضع دستوري جديد وتشكيل حكومة مدنية لإدارة الفترة الانتقالية. وهنا تدخلت لجنة رباعية مكونة من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والسعودية والإمارات وأدارت مفاوضات سرّية ومباشرة بين المكون العسكري وقوى إعلان الحرية والتغيير، حرّكت الكثير من المياه الراكدة في وقت بادرت فيه نقابة المحامين السودانيين بإعداد مشروع دستور انتقالي شكّل أساساً لتلك المفاوضات التي تُوجت بالتوقيع على اتفاق إطاري"مبدئي".
اتفاق السودان: المعارضة تتمسك بموقفها
ويقول المتحدث الرسمي باسم تحالف قوى الحرية والتغيير، شهاب إبراهيم، لـ"العربي الجديد"، إن المرحلة النهائية واحدة من أهم مراحل العملية السياسية التي تبناها التحالف من بين عدد من الخيارات لإنهاء الانقلاب العسكري واستعادة التحول الديمقراطي المدني في السودان. ويشير إبراهيم إلى أن التوصيات التي ستتوصل إليها الورش ستكون أساس تفاصيل الاتفاق النهائي.
ويوضح إبراهيم أن المشاركين في الورش، هم في الأساس القوى السياسية والتيارات والأجسام النقابية الموقعة على الاتفاق الإطاري ومعهم أصحاب المصلحة، كل في موضوعه. ويقدم إبراهيم مثالاً، أنه في مؤتمر العدالة الانتقالية، ستكون أسر شهداء الثورة بمختلف مراحلها وأسر ضحايا الحرب في دارفور وضحايا البجا 2005 وكجبار وغيرهم جزءاً أساسياً منه، كما سيشارك الخبراء والمختصون في الورش كل حسب اختصاصه.
وتعود قضية ضحايا البجا إلى قمع نظام البشير في عام 2005 بالقوة لاحتجاجات مطلبية في مدينة بورتسودان، ما أدى إلى مقتل 22 شخصاً. أما كجبار فمنطقة في شمال السودان قمع فيها نظام البشير في 2007 تظاهرات سلمية ضد إنشاء أحد السدود على مجرى النيل فسقط 4 ضحايا.
أما في موضوع شرق السودان، فستوجه بحسب إبراهيم، الدعوة إلى زعماء القبائل والمجلس الأعلى لنظارات البجا وأحزاب سياسية، لافتاً إلى أن المكون العسكري لن يشارك في أي من الورش باستثناء تلك الخاصة بالإصلاح العسكري والأمني. كما يلفت إلى أن آلية اتخاذ القرار داخل المرحلة النهائية ستحددها اللجان الفنية المكونة للغرض.
في الضفة الأخرى، تجد المرحلة النهائية ممانعة ورفضاً ومقاطعة من عدد لا يستهان به من القوى السياسية. ففي أقصى اليمين، يبرز تحالف نداء السودان ومن خلفه تيارات إسلامية، وفي أقصى اليسار يتصدر تحالف التغيير الجذري، في مقدمته الحزب الشيوعي السوداني وتجمع المهنيين السودانيين بواحد من فصيليه. وهناك أيضاً حزب البعث العربي الاشتراكي الذي انسحب من العملية في اللحظات الأخيرة رغم عضويته في "الحرية والتغيير"، هذا غير تحالف الكتلة الديمقراطية وأبرز من فيها حركة العدل والمساواة وحركة تحرير السودان والحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل - فصيل جعفر الميرغني. وتجد الكتلة، بحسب ما يتردد دعماً خفياً من مصر، ذات التأثير المباشر وغير المباشر في المشهد السوداني.
ويقول المتحدث الرسمي باسم تجمع المهنيين السودانيين، الوليد علي، لـ"العربي الجديد"، إن موقف التجمع وكل تحالف التغيير الجذري ثابت تجاه العملية السياسية الحالية مهما كان النادي السياسي الذي يقف خلفها، سواء من فلول النظام السابق أو ما سماها "قوى الهبوط الناعم" أو العسكر أو المجتمع الدولي، مبيناً أنهم لن يؤيدوا حلاً لا يقود في النهاية إلى محاكمة الانقلابيين ويحقق العدالة للشهداء والجرحى. ويعتبر علي، أن الاتفاق الإطاري والمرحلة النهائية ما هما إلا مخرج آمن للانقلابيين من المحاكمة، وإتاحة مزيد من الفرص لهم للدفاع عن مصالح الطبقات الطفيلية التي تشكلت أثناء نظام البشير وتهيمن على المفاتيح الاقتصادية بعيداً عن سلطة المال والمراجعة الرسمية في الدولة.
التوصيات التي ستتوصل إليها الورش ستكون أساس تفاصيل الاتفاق النهائي
وبحسب علي، فإن مخرجات المرحلة النهائية كما هو واضح لن تلبي طموحات تجمع المهنيين ولا طموحات الشارع، ولن تحقق شعارات الثورة والأجسام الثورية وعلى رأسها العدالة "وصحة وتعليما مجاني"، موضحاً أنهم يسعون إلى إكمال العملية الثورية لإسقاط الانقلاب وحلفائه وإزالتهم بالكامل "فلا مكان لهم في المشهد بعد ذلك"، على حدّ قوله.
أما محمد أبو زيد كروم، رئيس "منبر السلام العادل"، وهو من الأحزاب الداعمة لتحالف نداء السودان، فيؤكد استعداد نداء السودان وكل التيارات الإسلامية والوطنية لمقاومة الخطوات الحالية بكل الوسائل السلمية المعروفة، لأنها تُعيد الأوضاع إلى ما قبل 25 أكتوبر 2021 ولأنها تُجرى بمعزل عن القوى السياسية الحقيقية والقوى الاجتماعية وحركات مسلحة مهمة موقعة على اتفاق السلام ولأنها منزوعة الإرادة الوطنية وتسندها وتمليها قوى خارجية.
ويرى كروم في حديث لـ"العربي الجديد"، أن المكون العسكري نفسه وتحديداً البرهان غير متحمس لأي اتفاق بصورته الراهنة، وأن نائبه الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) هو وحده المصّر على الاتفاق وطريقة إعداده حماية منه لمصالحه.
ويضيف كروم، أن كتلة نداء السودان سبق لها أن تقدمت بمقترحات حلول مماثلة لما تقدمه الحرية والتغيير، لكن تجاهلها البرهان تماماً وركن إلى وثيقة مشروع دستور من نقابة المحامين، لكنها وثيقة مُعدة وجاهزة من الخارج، برأيه. ويتوقع كروم حدوث المزيد من الأزمات والصراعات والتخبط في الدولة والتردي المعيشي والأمني وتعدد الجيوش والمؤامرات الخارجية، إذا مضت الأمور بشكلها الحالي نحو اتفاق نهائي ضعيف في نصوصه ومن حيث المشاركين فيه.
إلى ذلك، يقول الأستاذ الجامعي في العلوم السياسية البروفسير صلاح الدومة، إن الاتفاق النهائي ومخرجات الورش الأخيرة ستنتج اتفاقاً نهائياً لن يكون مثالياً على أي حال من الأحوال، لكن ليس بالإمكان أفضل مما كان نسبة إلى الظروف الداخلية والخارجية والإقليمية، بحسب رأيه. ويعتبر الدومة أن ذلك يفرض على السودانيين وقواهم السياسية قبول الاتفاق النهائي على علّاته وعلى مبدأ "مجبر أخاك لا بطل"، مبيناً أن الاتفاق سيحقق وضعاً أفضل مما أنتجته حكومة حمدوك وقبلها نظام البشير، وفي نفس الوقت فإن لا مقارنة مع وضع ما بعد انقلاب البرهان الذي دمّر كل شيء، بحسب قوله.
ويقلّل الدومة في حديث لـ"العربي الجديد"، من تأثير القوى السياسية الرافضة للعملية السياسية الحالية سواء على المستوى الراهن أو في مرحلة تنفيذ الاتفاق النهائي، مشيراً إلى أن حزبي الشيوعي والبعث العربي الاشتراكي ولجان المقاومة سيعارضون ما يجري من باب تثبيت المواقف، لكن لن يعملوا في اتجاه تعطيل مسيرة الاتفاق برمتها.
ولا يستبعد الدومة أن تشارك كوادر من الحزبين تحديداً في العمل الحكومي المقبل ولو بصورة فردية، مضيفاً أن الكتلة الديمقراطية وتحالف نداء السودان هما مجرد واجهتين للنظام القديم تُداران من غرفة تحكم واحدة وليس في مقدورهما فعل شيء، خصوصاً إذا تعاملت الحكومة الجديدة بالحسم المطلوب معهما ومع موضوع تفكيك وجودهما في مؤسسات الدولة، والاستفادة كلياً من أخطاء حكومة حمدوك في هذا المضمار.