يتزايد التوتر في علاقة بولندا بعاصمة دول الاتحاد الأوروبي، بروكسل، على خلفية إجراءات وارسو أخيراً على المستوى القضائي، التي يرى الأوروبيون أنها تقوض القيم والدستور الأوروبيين. ولم تعد قضية "بوليكست"، على نسق الخروج البريطاني "بريكست"، مجرد تكهنات، في أعقاب سنوات من توتر العلاقة المتصاعد منذ انضمام البلد في 2004 إلى النادي الأوروبي.
وخلال الأيام القليلة الماضية، وصل الخلاف بين القوميين المحافظين الذين يحكمون وارسو منذ 2015، وبروكسل، إلى ذروته، بعد أن دفع حزب "القانون والعدالة" نحو تبني قرار من المحكمة الدستورية، بأغلبية 12 مقابل صوتين، يجعل الامتثال للقوانين الأوروبية هامشياً، ويضع القوانين والدستور البولنديين في مرتبة أعلى حال تعارضهما.
وبشكل عملي، فإن المحكمة الدستورية الوطنية، أعلى سلطة قضائية في البلد، عبّدت الطريق أمام حكومة القوميين المحافظين، لتتذرع بدستورها وقوانينها لرفض ما يصدر عن بروكسل ومؤسساتها ومحاكمها، وهو ما يعقد مسألة تعهد الدول الأعضاء بالقانون الأوروبي الأساسي، ما يدفع بالصبر الأوروبي إلى النفاد، وتتعالى الأصوات المطالبة بمعاقبة وارسو، وأخرى تلوّح بتجميد عضويتها في النادي الأوروبي، خشية انتقال العدوى البولندية إلى دول أخرى.
استغلال المشاعر المحافظة في الشارع
وشكلت حكومة "القانون والعدالة" في وارسو صداعاً أوروبياً خلال الأعوام الماضية، إلى جانب التحدي الذي يشكله نهج رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، لناحية تفضيل القوانين المحلية على الأوروبية. القادة الأوروبيون من ناحيتهم يشعرون بأن البلدين، بولندا والمجر، وسعي جمهورية التشيك لتقليدهما، يذهبان نحو ضرب أحد أهم أسس الاتحاد الأوروبي وتركيبته، وبالتحديد في مسألة الفصل بين السلطات، كشرط رئيس للامتثال للقيم الأوروبية الديمقراطية في عضوية الدول. وتجد وارسو في قضيتي "الإجهاض" و"المثلية" مدخلاً مهماً لرفض فرض الأوروبيين قوانينهم على بلادهم، فالشارع البولندي، وفقاً لاستطلاعات محلية، يؤيد توجهات حكومة بلده لناحية حظر الإجهاض ورفض ما يسمى "حقوق المثليين والمتحولين جنسياً". فبالنسبة إلى حكومة قومية محافظة، بزعامة "القانون والعدالة"، تشكل المسألتان مادتين خصبتين لخلق اصطفاف قومي لتسويق تفوق القوانين المحلية على الأوروبية. وتستند في ذلك إلى اختلاط المشاعر القومية والدينية الكاثوليكية في الشارع، وشعارات الحكومة لرفض انتقاد أوروبا لما تسميه "تقويض مبادئ فصل السلطات".
ويعني قرار المحكمة الدستورية الخميس الماضي في التطبيق، أن بولندا ليست ملزمة دائماً بقوانين الاتحاد الأوروبي، إذا لم تتوافق مع الدستور الوطني. واعتبر القرار أن جهود المحكمة الأوروبية في ستراسبورغ للتدخل في النظام القضائي البولندي "تنتهك سيادة القانون ومبدأ أولوية الدستور الوطني، ومبدأ الحفاظ على السيادة في عملية التكامل الأوروبي"، بحسب ما بررت وارسو مساء الخميس وأمس الجمعة، بعد اندلاع السجال بين الجانبين.
المفوضية الأوروبية أدانت من جهتها القرار، مؤكدة "ضرورة امتثال الدول الأعضاء للقواعد المشتركة". وتثير بروكسل "أسبقية قوانين الاتحاد الأوروبي على القوانين الوطنية"، للتعبير عن "مخاوف جدية" من تحلل سلطات الدول الأعضاء من قرارات محكمة العدل الأوروبية. وبالنسبة إلى المفوضية، فإن "قرارات المحكمة الأوروبية ملزمة للدول ومحاكمها الوطنية". ويخلق هذا التعارض الواضح، بعد أن راكمت أوروبا ملاحظاتها على "هيمنة السياسيين على السلطات المختلفة"، بما في ذلك القضاء والصحافة، فجوة كبيرة بين الجانبين، وصلت إلى حدّ تراشق ووصف خطوات وارسو باعتبارها تعكس "فقدان الحكومة البولندية لمصداقيتها"، وأن القرار بمثابة "هجوم على الاتحاد الأوروبي من قبل محكمة شكلتها السلطات البولندية، وهو أمر خطير للغاية. والخطير أن ذلك يعني انسحاباً فعلياً من الاتحاد"، كما ذهب وزير شؤون أوروبا في فرنسا، كليمنت بون.
وذات الموقف ألمح إليه وزير خارجية كوبنهاغن ييبا كوفود، الذي شبّه التصرف بالخروج من الاتحاد الأوروبي. الخلافات الأوروبية حول ما يجب اتخاذه من خطوات يعبّر عنها موقف رئيس وزراء سلوفينيا يانيس جانسا، الذي تتولى بلاده حالياً الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي، الذي اعتبر أن السجال الحالي حول القيم الأوروبية مسيّس، وبأنه مسألة "تقترب من انتهاك سيادة قوانين الدول"، وهو موقف أقرب لبولندا والمجر، بعد خلافه مع المفوضية الأوروبية بسبب مزاعم فساد تطاوله شخصياً.
وذهب برلمانيون أوروبيون إلى ضرورة معاقبة بولندا، معتبرين أن "الاتحاد الأوروبي مجتمع قيم وسيادة القانون"، بحسب ما ذهب الهولندي عن مجموعة الأحزاب المحافظة، جيورين لينيرس، معيداً التذكير بأن "المعاهدة (الأوروبية) تنصّ على أنه يجب حماية الحقوق المكفولة للأوروبيين أينما كانوا يعيشون في الاتحاد الأوروبي". واعتبر لينيرس أن الخطة البولندية تقرب البلد من الحالة البريطانية التي خرجت بموجبها بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، مشدداً على أن القول إن معاهدات الاتحاد الأوروبي لا تتوافق مع القانون البولندي، يعني أن المحكمة الدستورية في وارسو بقرارها غير القانوني، تضع البلد على مسار خروج "بوليكست".
ووصلت إلى وارسو، اليوم السبت، لجنة برلمانية أوروبية برئاسة مسؤولة مجموعة الأحزاب الديمقراطية فيه إيراتكسي غارسيا، لمحاورة القضاة البولنديين. واعتبرت غارسيا أنه "لا يجب أن تكون دولة عضو قادرة على تجاوز التشريعات المشتركة للاتحاد الأوروبي وفي ذات الوقت التمتع بالمزايا"، مؤكدة في الوقت نفسه أنه "حان الوقت لاتخاذ إجراءات وليس فقط تصريحات".
وكان المتحدث باسم رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، إريك مامر، أكد أن المفوضية تنظر بجدية إلى اتخاذ خطوات مستقبلية لمواجهة وارسو. ومن بين تلك الخطوات السريعة التي يناقشها الأوروبيون اليوم السبت، وقف صرف نحو 34 مليار يورو خصصها الاتحاد لوارسو في سياق "حزمة التعافي" من جائحة كورونا.
في كل الأحوال، إن حالة الإحباط من تفلت وارسو من القوانين الأوروبية، باتت اليوم تنعكس على مجموع الاتحاد الأوروبي، الباحث عن استراتيجيات موحدة لمواجهة مجموعة تحديات إقليمية وعالمية، ومن بينها المساعي لتعزيز السياسات الدفاعية المشتركة، ومواجهة أزمات طاقة ومال تلوح في الأفق الملبد، مع سياسة أميركية تبدو ضبابية للقارة، (وخصوصاً مع الانسحاب الأميركي الأخير من أفغانستان)، على تلك الصورة التي يصفها الأوروبيون باعتبارها تعكس انزياحاً في أولويات الحليف الأميركي، بتركيزه أكثر على تحالفات مع بريطانيا وعدد من دول أخرى في آسيا، ومحاولة باريس الظهور بمظهر القيادي الأوروبي، وسط حالة انتقال سلطة في برلين بعد الانتخابات الأخيرة.