الخسارة غير الهزيمة

07 اغسطس 2024
خلال تظاهرة في مدريد، 3 أغسطس الحالي (Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- استدعى اغتيال إسماعيل هنية ذاكرة الجزائريين لفترة اغتيالات قادة الثورة الجزائرية بين 1957 و1959، حيث اعتقد الاستعمار الفرنسي أن هذه الاغتيالات ستنهي الثورة، لكن الواقع أثبت العكس.
- التجربة الجزائرية والفلسطينية تؤكد أن المقاومة المتصلة بالحاضنة الشعبية تتيح استخلاف القيادات، مما يعزز استمرار النضال ويحرر طاقات قيادية جديدة.
- رغم سلسلة الاغتيالات، تطورت المقاومة الفلسطينية عسكرياً وسياسياً، مما جعلها تفرض شروطها التفاوضية وتبتكر أشكال نضالية جديدة، مؤكدة أن الخسارة ليست هزيمة.

لسبب ما، تاريخي بالأساس، استدعى اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، إلى ذاكرة الجزائريين بشكل خاص، فترة عصيبة من فترات ثورة التحرير بين عامي 1957 و1959، ركز فيها الاستعمار الفرنسي على اغتيال وتحييد قيادات كاريزمية، لها حضور طاغٍ على المشهد والقرار الثوري في تلك الفترة، يُعرفون خاصة "بشهداء مارس"، العربي بن مهيدي ومصطفى بن بولعيد والعقيد لطفي وسي الحواس والعقيد عميروش وغيرهم.
من الصعب اليوم تخيل الظروف التي كان يتلقى فيها صف الثورة الأخبار بشأن هذه الاغتيالات، ومدى تأثيرها المادي والمعنوي على الثوار، لكن من السهل تخيل الاعتقاد الذي سرى بين قيادات الاحتلال الفرنسي بأن هذه الاغتيالات تعني نهاية الثورة، عندما استشهد مصطفى بن بولعيد شرقي الجزائر، وعند اغتيال الشهيد العربي بن مهيدي الذي كان يقود معركة العاصمة. كان قادة الاحتلال يعتقدون، وهذا مدون في الصحف الفرنسية والمذكرات، أن ثورة الجزائر على مشارف أن تنتهي، لكن الواقع الثوري كذّب ذلك الاعتقاد وقال بغير ذلك تماماً، لأن الحالة الثورية كانت قد بلغت مرحلة أكثر صلابة.

أثبتت التجربة الثورية في الجزائر، أن كل مقاومة متصلة بالحاضنة الشعبية، كما المقاومة الفلسطينية القائمة، تتوفر على ديناميكية خلّاقة تتيح الاستخلاف الميداني والقيادي، وأن هذا الاستخلاف لا يضمن استمرار الحالة الكفاحية والقضية فحسب، بل إنه يتيح فرصة لتحرير طاقات قيادية كان وضعها التنظيمي أو الميداني يحد ربما من إشعاعها القيادي. بل إن الاحتلال، قد يندم ندماً ما بعده ندم، ليس لأنه نفذ جريمة اغتيال كادر ثوري مقاوم، في حالة إسماعيل هنية، ولكن لأن من يخلف هنية على رأس الحركة المقاومة، قد يكون أشد في مقارعة الاحتلال ميدانياً، وأكثر حدّة في التفاوض وإدارة المعركة السياسية، وأكثر قدرة من حيث تنويع وإبداع الأدوات النضالية.

في الواقع هذا الأمر لا يحتاج إلى استدلال في الحالة الفلسطينية، والإسرائيلي وحلفاؤه في المنطقة أو من خارجها يدركون تماماً أن استخلاف الجندية والقيادات ليست معضلة بالنسبة للمقاومة ولم تكن، لكنها كانت تتحوّل دائماً إلى معضلة جدية بالنسبة للمشروع الصهيوني نفسه، ذلك أن استقراءً بسيطاً لتحوّلات المقاومة الفلسطينية في خطها السياسي والعسكري، رغم سلسلة طويلة من الاغتيالات، يؤكد أن مستوى المواجهة المسلحة كان يتطور دائماً لصالح المقاومة التي انتقلت من حجارة ومقلاع، إلى قنبلة ومفخخة، فصاروخ ومسيّرة واقتحام جريء للمستوطنات، وأن مستوى المواجهة السياسية كان يتقدّم لجهة المقاومة التي فرضت شروطها التفاوضية في أكثر من مرة، وابتدعت أشكالاً نضالية واتخذت أبعاداً مختلفة، حازت مساحات مهمة استدرج إليها المشروع الصهيوني وإلى لحظة انكشاف سياسي وأخلاقي غير مسبوق أمام كل شعوب العالم.

الخسارة غير الهزيمة، وفقدان المقاومة لقيادات مهمة ووازنة من الصف الأول، كإسماعيل هنية وصلاح العاروري وغيرهما، خسارة بالتأكيد ومؤلمة أيضاً، وهي جزء طبيعي من سيرورة نضالية، لكنها ليست هزيمة بأي معنى كان، بقدر ما هي ازدهار لفكرة المقاومة التي تتكرس أكثر فأكثر كخيار حتمي. ولو وضع الاحتلال عملية اغتيال هنية على جدول حسابات الربح والخسارة، فسينتبه أنه ينهزم.

المساهمون