بغض النظر عن الدوافع/الحسابات الداخلية التي تقف خلف قرار جماعة أنصار الله (الحوثيين) مهاجمة السفن التي ترتبط بإسرائيل وداعميها، احتجاجًا على العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة، فإنّ هذا القرار يكتسب "أهمّيةً استثنائيةً"، في ظلّ حالة "العجز الإقليمي الرسمي" عن الرد على مستوى وحشية قوات الاحتلال تجاه المدنيين الفلسطينيين العزل، وإحجام أغلب الدول الإقليمية عن استخدام أدوات ضغطٍ حقيقيةٍ (أبعد من خطابات الإدانة والتصعيد اللفظي)، بغية ردع إسرائيل، أو "إجبارها" على وقف حربها المجنونة على غزّة.
في الوقت الذي أخفقت فيه القمة العربية الإسلامية في الرياض (2023/11/11)، في كسر الحصار على غزّة، وإجبار دولة الاحتلال على إدخال قوافل الغذاء والدواء والوقود، نجح الحوثيون، في توظيف موقع اليمن المهم، وإشرافه على مضيق باب المندب، وسيطرتهم على ميناء الحديدة على البحر الأحمر، في الضغط والتأثير على التجارة والاقتصاد الإسرائيلييْن، وصولًا إلى التأثير على مصالح الدول الداعمة لإسرائيل، عبر استهداف السفن المتجهة إلى دولة الاحتلال، عبر تحميل الجميع كلفة استمرار حصار غزّة، وتجويع سكانها، وتنفيذ سياسةٍ مبرمجةٍ لتهجيرهم من أرضهم.
على الرغم من إعلان وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن (2023/12/18) تشكيل "المبادرة الأمنية متعددة الجنسيات"، تضم الولايات المتّحدة، وبريطانيا، وكندا، والبحرين، وفرنسا، وإيطاليا، وهولندا، والنرويج، وسيشيل، وإسبانيا، بهدف التصدّي لهجمات الحوثيين في البحر الأحمر، فإن المؤشرات تؤكّد تفضيل واشنطن احتواء هذا التهديد، وليس الدخول في مواجهةٍ عسكريةٍ مع الحوثيين، وضبط الصراع الإقليمي وعدم توسعته، ومنع القوى الدولية والإقليمية، لا سيّما روسيا والصين وإيران، من توظيف تداعيات حرب غزّة في توسيع نفوذها الإقليمي.
يبدو أنّ الحوثيين (ومن ورائهم إيران) قد نجحوا في إرباك خطوات تشكيل النظام الإقليمي الجديد، وتأكيد فشل مقاربة "الحلّ الإقليمي"
على التوازي مع تحوّل البحر الأحمر إلى ساحةٍ إضافيةٍ للتوتر بين الطرفين الأميركي والإيراني، وحلفائهما، واستمرار جهود واشنطن في العودة إلى الانخراط في الخليج والشرق الأوسط، عبر الدعم الكامل للعدوان الإسرائيلي، تبدو علامات زيادة تعقيد مستويات الصراع الإقليمي والدولي واضحةً في المنطقة عمومًا، وممرات الملاحة خصوصًا؛ إذ تضع سيطرة الحوثيين على باب المندب؛ ثاني أهمّ مضيقٍ بحريٍ في العالم تحت سيطرة "محور المقاومة"، إلى جانب مضيق هرمز، الذي تشرف عليه إيران.
اللافت في سياق الرد الإيراني على السياسة الأميركية، سرعة إعلان قائد القوّة البحرية في الحرس الثوري الأدميرال، علي رضا تنغسيري (2023/12/19)، تنظيم قوات "باسيج بحرية" للمحيطات، قوامها 55 ألف عنصرٍ تقريبًا، و33 ألف قطعةٍ بحريةٍ موجودة في المياه الخليجية، مع توفير سفنٍ وقطعٍ بحريةٍ قادرة على الإبحار حتّى تنزانيا.
على الرغم من تداعيات الهجمات الحوثية على السفن المتجهة إلى إسرائيل، على الصعيدين الاقتصادي والتجاري، نتيجة تقييد حركة الصادرات والواردات بين إسرائيل والدول الآسيوية، لا سيّما كوريا الجنوبية واليابان والصين، وقرار رئيس وزراء ماليزيا أنور إبراهيم منع شركة الشحن الإسرائيلية "زيم" من الرسو في موانئها، ومنع السفن المتجهة إلى إسرائيل من تحميل البضائع من أيّ ميناءٍ في ماليزيا، فإن التداعيات الاستراتيجية والسياسية تبقى أكثر أهمّيةً؛ قد أكّدت صعوبة، لكيلا أقول استحالة، ترميم الردع الأميركي/الإسرائيلي في إقليم الشرق الأوسط، بعد نجاح المقاومة الفلسطينية وحزب الله والحوثيين في إبراز وزن الفاعلين من غير الدول (Non State Actors) في الترتيبات الإقليمية، سواء في ما خص قضية فلسطين، أم أمن البحر الأحمر، أم إمكانية "وحدة الساحات" وتداخلها، وتصاعد التوتر فيها وانفجارها، نتيجة السياسات والضغوط الأميركية/الإسرائيلية.
وبالتوازي مع انكشاف هشاشة إسرائيل، وتآكل مكانتها الإقليمية، على الرغم من كثافة الدعم الذي قدّمته إدارة بايدن لإسرائيل بعد عملية "طوفان الأقصى"، يبدو أنّ الحوثيين (ومن ورائهم إيران) قد نجحوا في إرباك خطوات تشكيل النظام الإقليمي الجديد، وتأكيد فشل مقاربة "الحلّ الإقليمي"، عبر عرقلة وتيرة التطبيع العربي والإقليمي مع إسرائيل. ما قد يعني أنّ إيران ومحورها، هم الطرف الأكثر استفادةً إقليميًّا من تداعيات حرب غزّة، على عكس تركيا، وأغلب الدول العربية (باستثناء قطر)، التي تبدو جميعها في عداد الخاسرين، سيّما مع وضوح انزياح أنقرة غربًا.