بدأت الأزمة السياسية بين الجزائر وباريس تتخذ أبعادًا أخرى خارج حيز التصريحات والمواقف الدبلوماسية، إذ تتوجه الحكومة الجزائرية نحو استبعاد اللغة الفرنسية من المعاملات الإدارية والمصالح الحكومية، كوجه من أوجه القضاء على مخلفات الفترة الاستعمارية، ولزيادة الضغوط على باريس، وذلك بعد قيامها باستبعاد شركات فرنسية عاملة في مجالات حيوية بالجزائر.
ووجّه عدد من الوزراء في الحكومة تعليمات مشددة إلى كافة المصالح الحكومية والهيئات التي تقع تحت إشرافهم، بضرورة الالتزام باستخدام اللغة العربية حصرًا في المراسلات الرسمية والوثائق التي تصدرها، بعدما كانت تصدر باللغة الفرنسية.
وطالب وزير التكوين والتعليم المهنيين ياسين ميرابي إطارات وزارته ومصالحها في الولايات باستعمال اللغة العربية في ميدان التدريس المضمون على مستوى المؤسسات التكوينية، وذلك عملًا بالمادة الثالثة من الدستور التي تنصّ على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة.
كما أصدر وزير الشباب والرياضة عبد الحق سبقاق تعليمات إلى مجموع إطارات ومصالح الوزارة مركزياً ومحلياً، بتعميم استعمال اللغة الوطنية في القطاع وفي كافة المؤسسات التابعة له، مشددا على أنه لن يسمح بأي تهاون في هذا الموضوع.
وسبق هذا القرار قرار مماثل اتخذته وزارة العمل والضمان الاجتماعي، حيث أصدرت تعليمات تؤكد منع استعمال اللغة الفرنسية في المراسلات والوثائق التي تصدرها الوزارة والمؤسسات التابعة لها، والاقتصار على استخدام اللغة العربية.
وقبل أسبوع، أعلنت وزارة التعليم العالي استخدام اللغة العربية وإلى جانبها الإنكليزية في تدريس المواد العلمية بالمدرسة العليا الجديدة للذكاء الاصطناعي والمدرسة العليا للرياضيات، المخصصتين لاستيعاب النوابغ والمتفوقين، في الوقت الذي تنشط فيه مجموعات من النخب السياسية والمدنية من خلال تنظيم حملات للمطالبة بتعزيز تعليمية اللغة العربية في المدارس، وتقديم اللغة الإنكليزية للتعليم في الصفوف الأولى بدلا من اللغة الفرنسية.
ودعت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين (كبرى المرجعيات الدينية في الجزائر)، إلى إسناد الحكومة في مسعى استبعاد الفرنسية وإحلال اللغة العربية محلها في المعاملات الإدارية والمراسلات.
ودعا رئيس الجمعية عبد الرزاق قسوم، في تصريح صحافي اليوم الجمعة، السلطات إلى "تسليط عقوبات ضد كل من يتمادى في استخدام اللغة الأجنبية على حساب اللغة الوطنية في الوزارات والهيئات الرسمية"، معتبراً أن المسألة تتعلق بالسيادة.
وكانت أحزاب سياسية قد طالبت الحكومة في خضم الأزمة السياسية مع باريس، بتعميم استعمال اللغة العربية في الإدارات والمؤسسات الحكومية وفي الوثائق المراسلات الرسمية، إذ طالب "التجمع الوطني الديمقراطي" الحكومة الجزائرية بإنهاء ما وصفه بـ"الوصاية اللغوية الفرنسية في الإدارات والهيئات العمومية"، داعيا إلى رفع التجميد عن قانون التعريب وتفعيله.
كما اعتبر رئيس كتلة "حركة مجتمع السلم" أحمد صادوق، خلال مناقشة برنامج الحكومة في البرلمان، أن هذه الخطوة تعد أكبر رد اعتبار للسيادة الوطنية.
وعلى مر عقود أخذت مسألة اللغة أبعادًا سياسية في الجزائر، إذ تظهر مع كل أزمة سياسية بين الجزائر وباريس، خاصة أن الأخيرة ظلت تعتبر استمرار همينة "الفرنسية" على الإدارات الجزائرية مكسباً سياسياً يضمن استمرار مصالحها الحيوية، فيما سعت النخب الوطنية في الجزائر في مناسبات محدودة إلى استبعاد اللغة الفرنسية وتعريب الإدارات الحكومية، لكن محاولاتها كانت تواجه صدًا من اللوبي الفرانكفوني المدعوم من باريس.
وأصدر البرلمان الجزائري في عهد رئيسه المقرب من الإسلاميين عبد العزيز بلخادم في ديسمبر/ كانون الأول 1990 قانون تعميم استعمال اللغة العربية، حيث وقعه حينها الرئيس السابق الشاذلي بن جديد في 16 يناير/ كانون الثاني 1991، لكن اللوبي الفرانكفوني نجح في الرابع من يوليو/ تموز 1992 في إصدار مرسوم يقضي بتجميد استخدام هذا القانون، بعد توقيف المسار الانتخابي في يناير/كانون الثاني من العام نفسه.
واندلعت أزمة سياسية بين الجزائر وباريس نتجت عن رفض الرئيس الجزائري ليامين زروال مقابلة الرئيس الفرنسي جاك شيراك في نيويورك على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة، وقد دفعت زروال إلى إصدار قرار بإلغاء التجميد وإعادة تفعيل قانون تعميم اللغة العربية في 21 ديسمبر/ كانون الأول 1996، فيما أسس الرئيس المجلس الأعلى للغة العربية وكلفه بتطبيق القانون، لكن زروال استقال من الحكم في أغسطس/ آب 1998 وسلم الرئاسة إلى عبد العزيز بوتفليقة في إبريل/ نيسان 1999، حيث قام الأخير بإعادة تجميد قانون تعميم اللغة العربية.
لكن الخطوات الحكومية الأخيرة، وإن كانت تبدو جادة ومتأخرة أصلاً في اتجاه استبعاد اللغة الفرنسية لصالح اللغة الوطنية، فإن بعض القراءات السياسية تبدو مرتابة بعض الشيء من إمكانية أن تكون هذه الخطوة عبارة عن رد فعل ظرفي على المواقف والتصريحات الفرنسية المسيئة للجزائر أكثر منها تكريساً لمبدأ السيادة الوطنية، فيما يتخوف البعض من إمكانية التراجع عنها على غرار حالات سابقة، أما آخرون فذهبوا في قراءتهم إلى أبعد من ذلك، معتبرين أن هذه الخطوة هي محاولة لاستقطاب كتلة من الرأي العام المحلي للتغطية على الإخفاقات الاقتصادية والاجتماعية في الداخل.