كيف سيكون موقف اللبنانيين إذا طلبت منهم إسرائيل العفو عن أنطوان لحد وضباط جيشه العميل الذي ساعد الاحتلال، وهو من صلب لبناني، في قهر الجنوبيين وظلّ لسنوات خنجراً مسموماً في الظهر اللبناني؟ وهل يمكن أن يكون لحد قصة عفو؟
لم يُطرح هذا الموقف بعد على اللبنانيين، لكنه يُطرح على الجزائريين بإلحاح في السنوات الأخيرة بشأن الحركي (عملاء الجيش الفرنسي زمن الاستعمار)، من قِبل فرنسا التي تريد معالجات سريعة لمخلفات الذاكرة الاستعمارية. وتسعى إلى جر النقاشات بشأنها مع الجزائر نحو إضفاء أبعاد انسانية ليست بريئة بالضرورة، لأنها ستتيح فتح ملف الأقدام السوداء (المعمّرين الذين ولدوا في الجزائر) وأملاكهم، ثم باقي الملفات الأخرى وأملاك اليهود الفرنسيين.
الغريب أن الفرنسيين ما زالوا يُدَرّسون أطفالهم قصة نابليون بونابرت مع العميل النمساوي الذي تعاون مع جيش نابليون لاحتلال النمسا، وبعد أن سلّمه الفرنسي أموالاً مقابل خيانته، رفض مصافحته قائلاً: "خذ أجرك، لكني لا أصافح خائناً لبلاده". والفرنسيون أنفسهم أعدموا، من دون محاكمات في الغالب، أكثر من عشرة آلاف مما يسمونهم "المتعاونين" الذين عملوا مع الجيش النازي الألماني خلال احتلاله باريس عام 1940. ومع ذلك تريد باريس للجزائريين إجراء مصالحة، تدّعي أنها بدوافع إنسانية، مع عملاء اختاروا لأنفسهم مصيراً خاصاً، أو ما يسوقها الرئيس إيمانويل ماكرون تحت عنوان "الصفح واعتراف كل طرف بالحقيقة".
النقاشات السياسية في الجزائر حول قضية الحركي نجحت في صياغة محدد رئيسي لهذه القضية، وخلصت إلى أن الحركي قضية فرنسية بحتة تخص الفرنسيين والدولة الفرنسية، وهؤلاء فرنسيون وقد صاروا كذلك بخيارهم، ولا علاقة للجزائر بهذه القضية. أما إثارتها في الظرف الراهن، فهي ليست سوى جزء من سياق فرنسي يتعمّد، لدوافع سياسية، استفزاز الشعور العام في الجزائر، ضمن حرب الذاكرة، وبعضها ضمن سياق الانتخابات الفرنسية، لرغبة ماكرون في استمالة مزيداً من اليمينيين الذين يحنون إلى الزمن الكولونيالي.
يجدر التذكير بأن الجزائر لم تكن لها عقدة إزاء الفرنسيين واليهود، من الذين اختاروا موقف الإنصاف بدعم الثورة والقضية الجزائرية، واعترفت لهم بحقهم التاريخي. ففي قلب العاصمة الجزائرية نصب تذكاري لموريس أودان، والممثل الفرنسي، اليهودي الدين، روجيه حنين، الذي نُقل جثمانه من فرنسا إلى الجزائر ليدفن في المقبرة اليهودية في جنازة رسمية أقيمت له نظير خدمته للقضية الجزائرية.
باريس تعتذر لعملاء اختاروا أن يكونوا ضد وطنهم في لحظة تاريخية فارقة، وتقر بسوء التعامل معهم وإساءة تقدير عطائهم لفرنسا، لكنها ترفض في المقابل تقديم الاعتذار لملايين الجزائريين الذين نكّلت بهم لقرن ونيف وفي أبشع استعمار استيطاني شهدته أفريقيا والعالم. يكفي هذا المشهد ليفضح الإنسانية الفرنسية وكيف تقيس القضايا بمقياس غير عادل تماماً، وذلك عهدها في كل القضايا.