معركتان حصلتا الأسبوع الماضي بعيداً عن ساحة الحرب على غزة الطرف الأساسي فيهما إيران، والطرفان الآخران هما إقليم كردستان العراق وباكستان. ولم يتأخر الوقت حتى تكشّف أن هناك طرفاً آخر هو إسرائيل.
طهران هي التي أعلنت أن سبب قيامها بقصف مواقع في مدينة أربيل العراقية، وإقليم بلوشستان، جنوب غربي باكستان، هو على صلة بما تقوم به إسرائيل من عمليات تجسس وتخريب واستهداف شخصيات سياسية وعسكرية ومنشآت حيوية داخل إيران وخارجها.
وكما هو معروف فإن عملية القصف الإيراني داخل إقليم كردستان العراق ليست الأولى، وسبقتها عدة عمليات خلال العامين الماضيين، كما أن انفجار النزاع مع باكستان ليس وليد اللحظة، بل حصيلة تراكمات كثيرة، وكانت الحرب على غزة بمثابة الصاعق.
لم تقم طهران بربط التطورات بعضها ببعض، وإنما من قام بذلك هي واشنطن. وقد وضع الرئيس الأميركي جو بايدن جملة التطورات ضمن ما سمّاه "تصرفات إيران غير مقبولة في المنطقة". وقال إن الاشتباكات بين إيران وباكستان تُظهر أن "طهران لا تحظى بقبول أحد في المنطقة". ولم يقف بايدن عند ذلك، بل أعلن أن واشنطن تعمل الآن لتحديد مآل كل هذا، "لا أعلم إلى أين سيؤول الأمر". وقد قرأ مراقبون هذا التصريح على أنه يتجاوز مجرد القلق وإبداء الاهتمام إلى الانخراط المباشر، ودعم موقف باكستان وإقليم كردستان العراق.
ويرى خبراء غربيون أن إسلام أباد تلقت مساندة أميركية للقيام برد على هجمات إيران، وقامت بقصف مواقع مسلحين انفصاليين داخل إيران، وذلك في ضربة انتقامية بعد إعلان طهران أنها هاجمت قواعد مجموعة أخرى داخل الأراضي الباكستانية.
إيران تعودت الرد على اغتيال مسؤوليها، ويبدو أن القصف على أربيل هو رد مباشر على اغتيال القيادي في الحرس الثوري رضا موسوي قرب دمشق، الشهر الماضي، كما أن تصعيد العمليات في البحر لا ينفصل عن ذلك.
لم تقف إيران عند مهاجمة أهداف في باكستان، بل هاجمت أيضاً أهدافاً في العراق وسورية
وجاء القصف الإيراني على باكستان كرد على مقتل وجرح العشرات في انفجار مزدوج بمدينة كرمان في 3 يناير/ كانون الثاني الحالي، وقع قرب قبر قائد "فيلق القدس" في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني أثناء تجمّع الحشود لإحياء الذكرى السنوية الرابعة لاغتياله بضربة أميركية.
ولم تقف إيران عند مهاجمة أهداف في باكستان، بل هاجمت أيضاً أهدافاً في العراق وسورية، وقالت إنها ضربت "تنظيم الدولة الإسلامية" ومقراً لـ"الموساد" الإسرائيلي، متهمة كلاً منهما بالتورط في هجوم مدينة كرمان. لكن رد إسلام أباد بتنفيذ ضربات داخل إيران استدعى محاولة طهران لاحتواء الموقف.
وأعلنت وزارة الخارجية الباكستانية، أمس الاثنين، أن وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان سيزور إسلام أباد في الأسبوع المقبل، في إشارة إلى الجهود المبذولة لتحسين العلاقات. وذكرت أن البلدين سيتبادلان السفراء مرة أخرى يوم 26 يناير/ كانون الثاني. واستدعت باكستان سفيرها في طهران ولم تسمح لنظيره بالعودة إلى إسلام أباد، كما ألغت جميع الارتباطات الدبلوماسية والتجارية المهمة.
تأثيرات الحرب على غزة
تتأثر هذه العمليات بالحرب على غزة وتؤثر فيها، ومن جانب واشنطن هناك إدراك بأن الدور الإيراني في الحرب على غزة يتعاظم، والدليل على ذلك التصعيد في البحر الأحمر. ويرى خبراء غربيون أن هناك تصميماً إيرانياً على توريط الولايات المتحدة أكثر فأكثر بالنزاع.
شيئاً فشيئاً ترفع إيران درجة تدخلها في الحرب، وتلعب حتى الآن ضمن تكتيك يقوم على استثمار الوضع حتى أقصى قدر ممكن، حتى تحصد ثمار النصر كطرف وحيد في هذه الحرب، بعد أن تتكبّد كل الأطراف خسائر فادحة. وتستعيد إيران بذلك التكتيك الذي اتّبعته في حرب روسيا على أوكرانيا، فهي حتى الآن لاعب رئيسي فيها من دون أن تطلق طلقة واحدة، ولكنها غذّت روسيا بالسلاح.
تنظر واشنطن إلى هذا التكتيك بعين الخطورة، وتتخوف من أن يحقق النتائج المرجوة في الحرب على غزة. وأولها تحويل الحرب، كما هو الأمر في أوكرانيا، إلى حرب استنزاف طويلة الأمد، تتكبّد فيها إسرائيل وأميركا خسائر كبيرة. ويبدو من ردود الفعل الأميركية تجاه الحرب الإسرائيلية على غزة، أن هناك خلافاً مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على استمرار الحرب وفق الصيغة الحالية، وضرورة الانتقال إلى مرحلة تمنع الغرق في المستنقع.
والأمر ذاته تحاول واشنطن تطبيقه على الجبهات الأخرى في جنوب لبنان واليمن والعراق وسورية، وذلك عملاً بقاعدة عدم توسيع رقعة النزاع الذي تستفيد منه طهران على المدى الطويل.
تكتيك إشعال الحرائق في أكثر من منطقة هو الذي يفرض نفسه على الأطراف جميعاً، وهو على صلة مباشرة بالحرب على غزة ويتغذى منها، وصار واضحاً أن الاحتمالات باتت مفتوحة على أكثر من سيناريو، وتعد باشتعال نزاعات لم تكن في الحسبان حتى وقت قريب جداً.
وعلى هذا الأساس يمكن قراءة حدثي الهجمات بين إيران وباكستان، والضربات التي وجّهتها إيران داخل العراق وسورية. مثلما تستفيد إيران من ذلك يمكن لها أن تتضرر، والمثال على ذلك الضربات التي تتلقاها من إسرائيل في سورية، وآخرها اغتيال مجموعة من قيادات الصف الأول للحرس الثوري في دمشق في العشرين من الشهر الحالي.
تفاصيل غير معلنة في النزاع الإيراني الباكستاني
وفي ما يخص النزاع مع باكستان، يقول المنطق الإيراني إن الأمن موضوع أساسي لطهران، وهي مضطرة لضرب من يهدد أمنها في منطقة حدودية جبلية تضاريسها صعبة، ربما يتم استخدامها للقيام بعمليات ضدها، ولذا جاءت الحاجة إلى عملية عسكرية.
لكن العديد من القراءات الأمنية والسياسية تؤكد أن الأزمة بين البلدين تخفي وراءها الكثير من التفاصيل غير المعلنة، وهي غير منفصلة عن التطورات الدولية والأزمات الدولية والإقليمية. ويرى محللون أن الهجمات الإيرانية على عدة جبهات كانت مدفوعة بالديناميكيات "المضطربة" الحالية في الشرق الأوسط.
المفترض أن العلاقات بين إيران وباكستان لا تسمح بتطور الأزمة أكثر من الحدود التي عرفتها
المفترض أن العلاقات بين إيران وباكستان لا تسمح بتطور الأزمة أكثر من الحدود التي عرفتها، ذلك أن التصريحات الصادرة عن الطرفين تتحدث عما يجمعهما أكثر مما يفرقهما، ولذا تبرز روحية باتجاه تجاوز التصعيد والعودة للتهدئة، ولكن هناك عوامل إقليمية ودولية قد تأخذ العلاقات خارج الحسابات.
وما صدر عن طهران من تصريحات يرى أن الانتقام الباكستاني يزيد خطر التصعيد، لكنه في نظر المراقبين يوفر فرصة للتراجع عن حافة الهاوية. وفي الواقع، فإن الجانبين متعادلان الآن.
وتبدو طهران منزعجة من أن لدى إسلام أباد حافزاً قوياً لمحاولة استعادة الردع، لا سيما مع قيام إيران بالهجوم في جميع أنحاء المنطقة الأوسع، حيث تشن ضربات مباشرة وتنشر وكلاء لضرب التهديدات والمنافسين. في الواقع، لو أن باكستان تراجعت، لواجهت خطر التعرض لضربات إضافية.
وليس من فراغ إعلان الإدارة الأميركية أنها لا تريد أن تشهد تصعيداً في جنوب ووسط آسيا، وهي على اتصال "بنظرائنا الباكستانيين". وهذه رسالة مساندة لباكستان، التي قد تجد الفرصة مناسبة لتسوية عدد من الملفات مع إيران.
وتبادلت باكستان وإيران الاتهامات منذ فترة طويلة بإيواء "جماعات متشددة" تشن هجمات من مناطق على طول حدودهما المشتركة. طهران تدعو إسلام أباد إلى الحيلولة دون تدشين "قواعد وجماعات إرهابية مسلحة" على التراب الباكستاني. وقالت باكستان إن ضرباتها أصابت "ملاذات للإرهابيين" في جنوب شرقي إيران.
وأعلنت باكستان أنها تصرفت في ضوء "معلومات استخباراتية موثوقة عن أنشطة إرهابية وشيكة واسعة النطاق"، وقالت إن عدداً من "الإرهابيين" قُتلوا. بينما أصرت إيران على أن ضرباتها كانت تستهدف فقط حركة "جيش العدل"، وهي جماعة سنّية بلوشية نفذت هجمات داخل إيران، وليس المواطنين الباكستانيين.
وما حرك باكستان بهذه السرعة هو أن إيران كانت تشتبك في السابق مع "جيش العدل" على امتداد المناطق الحدودية، ولذا اعتبرت أن الهجوم الصاروخي وبالطائرات المسيّرة على الأراضي الباكستانية يظهر أن نهج إيران أصبح أكثر عدوانية في التعامل مع هذه الجماعة.
الأمر ذاته ينسحب على التوتر العراقي الإيراني، الذي دفع بغداد إلى رفع شكوى رسمية ضد طهران أمام مجلس الأمن الدولي، تتعلق "بالعدوان الصاروخي الإيراني" الذي استهدف أربيل وأدى إلى سقوط ضحايا من المدنيين الأبرياء وإصابة آخرين وتسبب بأضرار في الممتلكات العامة والخاصة.
وصدرت عن المسؤولين العراقيين تصريحات حادة غير مسبوقة، على غرار ما ورد على لسان رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، الذي قال إن القصف الإيراني على مدينة أربيل يمثل "عملاً عدوانياً وتطوراً خطيراً يقوّض العلاقات القوية بين بغداد وطهران".