بينما يُفترض أن يكون المشهد مغايراً، أقلّه لناحية انكفائه وتراجعه عن الترشح للرئاسة مجدداً، لا يزال الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب مصمماً على خوض السباق إلى البيت الأبيض المقرّر خريف العام المقبل، حتى النهاية، ويتصدر استطلاعات الرأي حول نوايا الناخبين الجمهوريين، ويعوّل حتى ربما على عفو رئاسي إذا ما أُدين بقضية الوثائق السرّية، وفاز جمهوري غيره بالسباق العام المقبل.
وفيما تتعدد السيناريوهات لنهاية أزمة ترامب مع القضاء الأميركي، وهي مفتوحة على كل الاحتمالات، يتزايد التعبير لدى الجمهوريين عن قلّة الثقة بالمؤسسات الفيدرالية ووزارة العدل، وترتفع أصواتهم داخل مجلس النواب لوقف تمويل مكتب التحقيقات الفيدرالي "أف بي آي"، الذي لاحق ترامب بقضية الوثائق.
وبغض النظر عن ترشح ترامب للرئاسة وموقف المنظومة الجمهورية منه، أو موقف المنافسين الجمهوريين منه، فإن إدانته بقضايا عدة وتوجيه تهم إليه بأخرى، وقبلها محاولة عزله مرتين في الكونغرس خلال ولايته، كان من الممكن في أوقات مختلفة أن تقضي في الولايات المتحدة على المسار السياسي لأي شخصية عامة.
ثقل جمهوري للدفاع عن ترامب
اليوم، يضع الجمهوريون ثقلهم للدفاع عن ترامب، ولاعتبار ما يحصل معه في خانة القضايا "المسّيسة"، وتؤمن أغلبيتهم بأن ملاحقة ترامب مفتعلة من الديمقراطيين والإدارة الديمقراطية، ما يفاقم حدّة الانقسام في الولايات المتحدة ويزيد من التوقعات بأن استمرار ترشح ترامب لن يحدث جلبة داخل الحزب، وسيبقى أقوى المرشحين، وأكثرهم قدرة على منافسة الرئيس الحالي جو بايدن العام المقبل.
يرى 81% من الجمهوريين أن قضية الوثائق السرّية مسيّسة
ولا يزال مبكراً التنبؤ بالمسار الذي ستسلكه انتخابات الرئاسة الأميركية لعام 2024، وحتى ببقاء ترامب متصدراً لاستطلاعات الرأي الجمهورية، وذلك فيما كانت تتفاعل قضية الوثائق السرّية التي احتفظ بها في مقر إقامته (بغرفة الحمّام حتى) بمارآلاغو في ولاية فلوريدا، بعد مغادرته البيت الأبيض عام 2021.
وكانت هيئة محلفين في نيويورك قد أدانت في مايو/ أيار الماضي الرئيس السابق بالتحرش الجنسي بحق الكاتبة إي جين كارول، إذ غرّم بدفع حوالي 5 ملايين دولار كتعويض. ورفعت كارول دعوى أخرى بحق ترامب متهمة إياه بالتشهير بها، وحدّد قاضٍ فيدرالي جلسة المحاكمة بهذه القضية في يناير/ كانون الثاني المقبل (تطالب الكاتبة بـ10 ملايين دولار إضافية كتعويض).
كذلك وجهّت اتهامات إلى ترامب بقضية دفع أموال للممثلة الإباحية ستورمي دانيالز، واتهامات فيدرالية أخيراً، في سابقة لرئيس أميركي سابق، وتتعلق بقضية الوثائق، ومنها التآمر لعرقلة سير العدالة والاحتفاظ دون وجه حق بوثائق سرّية، وقد مثل ترامب أمام القضاء فيها للمرة الأولى الثلاثاء الماضي في ميامي. كما يواجه ترامب قضيتين تتعلقان بمحاولة التأثير لتغيير نتائج انتخابات الرئاسة 2020، والتحريض لاقتحام أنصاره الكونغرس في يناير 2021.
رغم ذلك، فإن ترامب لا يزال متصدراً نوايا التصويت الجمهورية. وأظهر استطلاع للرأي أجرته جامعة "كوينيبياك" بين 8 و12 يونيو/ حزيران الحالي (تزامناً مع خروج الأنباء حول توجيه الاتهامات بقضية الوثائق) أن 53 في المائة من الناخبين الجمهوريين أو الذين يميلون للتصويت لهذا الحزب يدعمون ترامب، فيما حلّ حاكم ولاية فلوريدا رون ديسانتيس خلفه بـ23 في المائة.
وأظهر استطلاع آخر أجرته وكالة "رويترز" وشركة "إيبسوس"، ونشرت نتائجه الأربعاء الماضي، أن 81 في المائة من الجمهوريين يعتقدون أن قضية الوثائق مسيّسة، أما الذين يعتقدون بأن ترامب مستهدف بطريقة غير عادلة، فيتخطون الـ35 في المائة، وهي النسبة التي تعتبر أنها تشكل قاعدة ترامب الشعبية الأساسية. وفي الاستطلاع ذاته، قال 43 في المائة من الجمهوريين إن ترامب هو مرشحهم الرئاسي المفضل، فيما فضّل 22 في المائة ديسانتيس. وبحسب الاستطلاع فقط ارتفعت نسبة التأييد لديسانتيس من 19 في المائة في مايو الماضي، وذلك بعد إعلانه ترشحه رسمياً.
يتردد منافسو ترامب الجمهوريون للرئاسة في الإدلاء بتصريحات تدين الرئيس السابق
ويفسّر هذا التأييد تردد منافسي ترامب الجمهوريين للرئاسة في الإدلاء بتصريحات تدين الرئيس السابق أو تعتبر هجومية ضّده، أو حتى مؤيدة للعدالة، فيما شكّل الجمهوريون في مجلس النواب بالكونغرس جبهة موحدة للدفاع عن ترامب. ربما وحده مايك بنس، نائب ترامب السابق والمرشح الرئاسي، كان واضحاً في التعبير عن موقفه الداعم لأن "تأخذ العدالة مجراها"، وخلفه المرشحة نيكي هايلي، السفيرة السابقة في الأمم المتحدة، التي تردد أخيراً بأنه إذا كان ترامب قد أخفى وثائق سرّية، فإنه أمر سيئ. وجعل كل ذلك الإعلام الأميركي يضع الموقف الجمهوري في خانة "إما مع ترامب، أو مع النظام والقانون"، أو في الإعلام المحافظ "إما ترامب أو وزارة عدل بايدن".
تحشيد لجمع التبرعات
ويعتبر الجمهوريون الداعمون لترامب أن القضية "المدفوعة بالسياسة" لم تطاول الرئيس جو بايدن، حين وجدت في منزله في ديلاوير وبمركز أبحاث "بن بايدن" في واشنطن وثائق سرّية أيضاً، في يناير الماضي، احتفظ بها وتعود إلى فترة توليه منصب نائب الرئيس في عهد باراك أوباما. كما عثر في منزل بنس على وثائق رسمية مصنفة سرّية، لكن كلاً من بايدن وبنس أبديا تعاوناً مع المفتشين، ما جعل القضية توضع في خانة الإهمال. كذلك يركز داعمو ترامب على قضية احتفاظ وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون برسائل رسمية على بريدها الإلكتروني الخاص.
وبحسب تقرير لشبكة "سي أن أن"، نشر أمس الجمعة، فإن ترامب يراهن على ردّ فعل قوي من الجناح اليميني على التهم الفيدرالية خصوصاً، التي أكد براءته منها في ميامي. كما أنه أعلن عن جمعه 7 ملايين دولار من المساهمات لحملته بعد إبلاغه بالتهم بقضية الوثائق، وأظهرت قوته بين الجمهوريين بعد الاتهامات الدرجة التي وصل إليها تصديق قاعدته لسرديته بأنه ضحية محاولة إلغائه سياسياً، وبأن التهم هي "تدخل انتخابي" من قبل وزارة العدل في إدارة بايدن. من جهة أخرى، رأى التقرير أن ارتفاع عدد المرشحين للرئاسة من الحزب الجمهوري يزيد من فرص ترامب للفوز بتسمية الحزب. وكان عمدة ميامي فرانسيس سواريز (من أصول كوبية) آخر من دخل السباق الخميس الماضي، وهو المرشح الثالث من فلوريدا بعد ترامب وديسانتيس.
ويقف معظم الجمهوريين في الكونغرس خلف ترامب، منذ اتهامه بقضية الوثائق، بحسب تقرير لوكالة "أسوشييتد برس"، نشر أول من أمس الخميس. وخطّ رئيس مجلس النواب كيفن ماكارثي رسالة إلى مانحي الحزب، دان فيها "مطاردة الساحرات" (العبارة التي يستخدمها ترامب لوصف الملاحقات بحقّه)، وحثّ فيها المانحين على التبرع و"الوقوف إلى جانب ترامب".
من جهته، تجنب زعيم الأقلية الجمهورية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل انتقاد ترامب، وقال "لن أبدأ التعليق على المرشحين العديدين من الحزب للرئاسة". وقارنت النائبة مارجوري تايلور غرين (داعمة لترامب وتلقى آراؤها صدى إيجابياً لدى اليمين المتطرف الأميركي)، بين محاكمة ترامب بقضية الوثائق والمحاكمات التي يواجهها أنصاره من مقتحمي الكونغرس، معتبرة أنه في الحالتين فإن وزارة العدل يجب أن تكون تحت المجهر وليس المتهمين. وغردت النائبة الجمهورية إلبز ستيفانيك: "قفوا مع ترامب". ووصف النائب بريان دونالدز (جمهوري) التحقيق بـ"الزائف".
ويتبنى كل هؤلاء "عتب" ترامب على النظام القضائي الفيدرالي، علماً أن بعضهم أكد أنه لم يقرأ لائحة الاتهام بالكامل، بحسب الوكالة، التي اعتبرت أنه مثال عن مدى تمكن ترامب من تبديل حزب لطالما احتضن نظرية "القانون والنظام".
سرّ "العقل الجميل"
في غضون ذلك، كشفت صحيفة "نيويورك تايمز" في تقرير نشرته أول من أمس الخميس، سرّ تعلق الرئيس الأميركي السابق بالوثائق السرّية، وطريقته في وضعها بعلب كرتون حين كان في البيت الأبيض، وهو ما كان يصفه معاونوه بـ"العقل الجميل".
وكتبت الصحيفة أنه خلال سنوات ترامب في البيت الأبيض، أصبح مساعدون يستخدمون هذا الوصف للإشارة إلى الصناديق المليئة بالأوراق وأشياء أخرى قد يكون بعضها عديم القيمة، والتي كان ترامب يحيط نفسه بها تقريباً في كل مكان، في إشارة إلى "الفوضى المنظمة" التي كان يظهرها ترامب في طريقة تعامله مع الأوراق، وجمعها ونقله لصحف ووثائق رسمية أبقاها قريبة منه ويبدو أنها كانت تمنحه "شعوراً بالأمان".
وقال مسؤول سابق في البيت الأبيض، لـ"نيويورك تايمز"، إنه بينما كانت هذه المواد غير مرتبة، كان ترامب يلاحظ سريعاً إذا ما عبث أحدهم بها أو بدّل أماكن ما بداخل الصناديق، معتبراً أنه "بهذه الطريقة، كان عقله يعمل". وأوضحت الصحيفة أن محتويات هذه الصناديق، والتي تمسك بها ترامب، هي اليوم في قلب قضية الوثائق السرّية الملاحق بها مع مساعده والت نوتا، لاحتفاظه بمحتويات الصناديق ومنها وثائق سرّية مصنفة رسمية، في مقر إقامته الخاص بعد مغادرته البيت الأبيض.
"نيويورك تايمز": منذ أشهر رئاسته الأولى، بدأ ترامب استخدام صندوق كرتوني لنقل الأوراق والوثائق فيه من الجناح الغربي إلى مقر إقامته في البيت الأبيض
ونقلت الصحيفة عن شهادات عدة أن تعلق ترامب بمحتوى صناديقه يجعله اليوم في مأزق، لكن يبدو أن ذلك عادة قديمة. وأكد 6 أشخاص عملوا مع ترامب لسنوات، ومنها قبل رئاسته، أن الرئيس السابق يتمسك عادةً بالوثائق وبقصاصات الجرائد والتذكارات. وأكد هؤلاء أن مكتبه في برجه بنيويورك يغرق بالأوراق، ومنها ما يحتفظ به منذ عقود، كمجموعة رسائل تلقاها منذ 30 سنة أو أكثر من مشاهير، ونشرها لاحقاً في كتاب باع بـ100 دولار النسخة منه.
ومنذ أشهر رئاسته الأولى، بدأ ترامب استخدام صندوق كرتوني لنقل الأوراق والوثائق فيه من الجناح الغربي إلى مقر إقامته في البيت الأبيض مساء كل يوم. وبحسب شخصين مطلعين، فإن ترامب كان باستطاعته سريعاً معرفة محتوى كل صندوق، وكان دقيقاً جداً بوضع أشياء في علب وصناديق محددة، بحسب أحد المصدرين.
إلى ذلك، وفي تقرير آخر نشر أول من أمس وقال إنه "حصري"، تحدث موقع "ذا ميسينجر" عن حالة ترامب خلال الجلسة الأولى من محاكمته بقضية الوثائق السرّية في محكمة بولاية فلوريدا الثلاثاء الماضي، وحيث حضر أيضاً مساعده والت نوتا المتهم أيضاً بالقضية، أولى جلسات محاكمته هو الآخر. وقال شخص للموقع، مقرب من ترامب، إن الرئيس السابق مرّ ببعض الأوقات خلال الجلسة كان فيها "محبطاً، لكنه ما إن دخل قاعة المحاكمة حتى ارتفعت معنوياته". وأضاف أنه في نظر الرئيس السابق، فإن "رؤية كل هؤلاء العملاء الفيدراليين حوله داخل القاعة دليل على ضعفهم". وأكد مصدر آخر أن مزاج الرئيس السابق سيكون متحدياً.