ثمة قصة شعبية شائعة في الجزائر، عن رجل كان يسأل عن مكان تواجد قصر العدالة (المحكمة)، فدلّه أحدهم عليه قائلاً: "ذاك هو القصر، لكن العدالة لا أعلم". تختصر القصة بعمق انعدام ثقة الجزائريين بالعدالة والقضاء، بسبب عقود من التوظيف السياسي للقضاء منذ الاستقلال. فالدستور الأول للبلاد عام 1963 وصف القضاء بـ"الجهاز"، الذي عاد وتحول إلى جهاز بيد السلطة الحاكمة في كل مرحلة، لملاحقة المعارضين، وللتصفية السياسية للخصوم داخل النظام نفسه، ولإدانة أو تبرئة أي مسؤول حسب الحاجة والظرف. وعلى سبيل المثال لا الحصر، انتقلت مآلات قضية "التآمر على الجيش والدولة" المثيرة للجدل، من النقيض إلى النقيض، من إدانة مشفعة بالأدلة وبأقسى العقوبات (15 سنة سجناً لقادة جهاز المخابرات وشقيق الرئيس السابق السعيد بوتفليقة)، إلى البراءة وإخلاء سبيل المتهمين، في غضون عام واحد. بالتأكيد لم يكن هذا الانتقال نتيجة معالجة قانونية للقضية، لكنه كان نتاج متغيرات سياسية أحاطت بظروف المحاكمة الأولى صنعت الإدانة والسجن، غير أن ظروفاً سياسية مغايرة للمحاكمة الثانية صنعت البراءة التامة وإخلاء السبيل.
بهذا الشكل يصبح القضاء نفسه قيد المحاكمة. ويعيد ذلك طرح سؤال عميق في الجزائر عن تبعية القضاء للسلطة السياسية. الضحية الأولى في هذه القضية كما في كثير من القضايا، هو "القضاء" نفسه، والذي ذُبح مرتين ووُظف مرتين، وأثبت بذلك أنه، فعلاً، "جهاز" بمعنى الكلمة، وليس "سلطة" قائمة بذاتها. لا أحد في الجزائر لديه القدرة على إقناع الرأي العام بحياد القضاء أو استقلاليته، مدنياً كان أو عسكرياً، وهو ما يشرع الباب واسعاً للشك أيضاً في عشرات الأحكام القضائية في حق ناشطين وسياسيين.
الضحية الثانية في المشهد هو "الإعلام". جهاز آخر تم توظيفه بشكل قبيح وجُرّد من الأدبيات المهنية والأخلاقية، وفرضت عليه العسكريتارية الحاكمة أدبيات وروايات من دون أن يطرح الأسئلة المهنية، بل كان جاهزاً دائماً لتقبل أي رواية رسمية تطرح عليه دون نقاش. وُظّف الإعلام في التشويه والدعاية وفي توفير مناخ مناسب للإدانة، ثم وُظف ثانياً في توفير ظروف التبرئة وتبريرها.
راهنت السلطة في الجزائر منذ تشكلها كنظام سياسي، على توظيف القضاء والإعلام لصالح خياراتها، فالإمساك بهما بالنسبة لها هو إمساك بعصب القوة والهيمنة والتحكم في المصير والمصائر. وغالباً ما يتواطأ القضاء والإعلام في الجزائر، لتغييب الحقيقة في القضايا السياسية وكتابة تاريخ أعرج يحتاج سنوات أخرى لتصحيحه. وهو عطب بالغ وعقبة في طريق المطلب الديمقراطي المستمر للجزائريين، طالما أن القضاء ما زال رهن الحسابات والتسويات السياسية، والقطاع الغالب من الإعلام في حالة استسلام للسردية الرسمية.
لم تنجح العدالة في الجزائر في أن تنتقل من قضاء السلطة إلى سلطة قضاء مستقلة حتى الآن، كل المقاومات التي قام بها سياسيون وقضاة نزهاء وإعلاميون شرفاء، لم تكن كافية لتحرير القضاء والإعلام من قبضة السلطة، ما زال الأمر يحتاج إلى مقاومة أكبر ونضال أوسع، فتحرير القضاء والإعلام ليس مطلباً ديمقراطياً فحسب، لكنه أساس الديمقراطية.