لم يصل الجزائريون إلى القاع بعد، إذ إنّ ثمة جبلاً من فضائح الفساد لم يظهر إلا قليل منه، وما زالت وقائع صادمة عن سنوات من النهب بانتظار الكشف عنها في الأيام والأشهر المقبلة. تصريحات رئيس الحكومة السابق، أحمد أويحيى، عن تلقيه 60 سبيكة ذهب من أمراء وقادة خليجيين مقابل السماح بالصيد في الصحراء ليست سوى جزء يسير من جبل الفساد، ذلك الذي حط بثقله على البلد، ومنعه من الإقلاع والتنمية، وجعل الجزائر على الرغم من كل ثرواتها، تتذيل الترتيب الدولي في كثير من مناحي الحياة والحكامة.
لم يقل أويحيى الحقيقة كلها، وهو رجل منخرط في دوائر الحكم والقرار في الجزائر منذ ما يقارب 30 عاماً، وفي جعبته الكثير من الأخبار، وقد كان يستعد منذ أمد، لأن يكون خليفة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة. لكن الرجل على الأقل، زاد في يقين الجزائريين وغير الجزائريين بأنّ البلد كان محكوماً من قبل تشكيل عصابي ومنظومة حكم جشعة، لا شكّ في أنها كانت على استعداد لبيع البلاد ومقدراتها، ووظفت الفساد كآلية حكم، بحيث أصبح للفساد شبكة معقدة ومتداخلة ومنتظمة توفر الخدمة بيسر، وخارج أي إطار قانوني.
يمكن فهم تصريحات أويحيى، قبل أيام في المحكمة، وقوله إنّ "الجميع كان يأخذ سبائك الذهب والهدايا"، بأنها إشارة تحذير إلى أنه لم يعد ذلك الرجل المنضبط، وأنه وصل إلى مرحلة لم يعد هناك ما يخسره. كما أنه يمكن اعتبار تصريحاته تهديداً مبطّناً لشركائه في الفساد، من أولئك الذين تحولوا إلى مذهب "الجزائر الجديدة". تهديد بإمكانية أن يقدم على "تفجير انتحاري"، ويهدم المعبد على رؤوس الجميع، ويكشف خبايا أكثر إثارة، لدفع هؤلاء الشركاء المتنفذين إلى بذل مجهود باتجاه تخفيف محاكمته أو تحسين شروطها ومخرجاتها، وربما إفادته بإفراج صحي (يعالج من السرطان)، وهو أمر ليس مستحيلاً، مقارنة مع إخلاء سبيل قادة جهاز المخابرات وشقيق الرئيس السابق، السعيد بوتفليقة، في "قضية التآمر".
الفساد عميل للاستعمار وحليفه الأساس داخل كل بلد، والتهديد الوحيد للجزائر كان يأتي دائماً من داخل النظام ومن دوائر السلطة نفسها. تصريحات أويحيى تفسّر ذلك بوضوح، وتعطي صورة مثلى عن مستوى الكادر المسؤول الذي أنتجته مدرسة النظام، وتبرز منظراً كئيباً لرجل الدولة الذي يبيع البلد بسبيكة ذهب، وتظهر الطريقة العبثية التي كانت تدار بها البلاد، وتنسف مساراً طويلاً من الأكاذيب السياسية التي ركزتها السلطة في المخيلة، وتهدم صورة الدولة.
لا يمكن القفز في هذا الوضع عن أسئلة مهمة لها صلة بكل هذه الوقائع، وبما تلاها في فترة الحراك الشعبي، عندما قفز بعضهم من سفينة السلطة إلى قارب الحراك وتبناه، وهي: أين كان قادة الجيش وأجهزة الرقابة والمخابرات من كل ما كان يحدث؟ لماذا لم يُدنْ هؤلاء وقائع الفساد في حينها، وهي عمليات تخريب إجرامية كاملة الأوصاف؟ هل يمكن لهؤلاء القادة، وبينهم قائد الجيش الراحل أحمد قايد صالح والرئيس عبد المجيد تبون نفسه، التذرع بواجب التحفظ وبضرورات احترام مؤسسات الدولة حينها، للهروب من المسؤولية الأخلاقية على الأقل، مع أنهم جميعاً، وفقاً للقانون، كانوا في وضع تواطؤ أو شهود على الجريمة على الأقل؟