الجزائر... عن محاربة الفساد

11 يناير 2023
تجمع على هامش محاكمة شخصيات جزائرية بملفات فساد، ديسمبر 2019 (رياض كرامدي/فرانس برس)
+ الخط -

في السياسة، الانطباع أقوى من الحقيقة، وهذه مشكلة كبيرة فيها الكثير من تزييف الوعي والتنكيل بالحقيقة. كل الحكومات الجزائرية وفي كل المراحل السياسية، كانت تعطي الانطباع بأنها تحارب الفساد، تشريعاً وممارسة، وتقاوم كل أشكال نهب المال والمقدرات العامة في المطلق. لكن الحقيقة لم تكن تكمن بالضرورة في هذا الانطباع الذي ساد، ببساطة لأن الجزائريين اكتشفوا أن القائمين على سياسات مكافحة الفساد ومؤسسات الرقابة، هم أنفسهم غارقون في فساد ليس له أول ولا آخر.

الحقيقة أن الحكومات لم تكن تحارب الفساد، بقدر ما كانت - في أحسن الحالات - تلاحق فاسدين، فعلاً أو افتراضاً، في ظروف معينة ولدواع معينة أيضاً، وفي لحظات خوائها السياسي وفراغ جرّتها من المنجزات، بحيث يصبح اللجوء إلى محاربة الفساد عنواناً سياسياً للمرحلة، حتى وإن اقتضى الأمر التضحية ببعض "الرفاق". والتاريخ السياسي يؤكد ذلك بوضوح. بعد وفاة الرئيس هواري بومدين تعرضت شخصيات وعدد من المسؤولين للمحاسبة والملاحقة القضائية بتهمة الفساد (عبد العزيز بوتفليقة ومسعود زقار نموذجاً). وفي عهد الرئيس الشاذلي بن جديد حصل الأمر نفسه مع سياسيين وعسكريين. وفي عهد الرئيس الأسبق ليامين زروال أطلقت حملة "الأيادي البيضاء" التي أدت الى سجن وملاحقة 4700 مسؤول (بعضهم تمت تبرئتهم لاحقاً). وفي عهد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة فتحت ملفات فساد تخص بنك الخليفة وسوناطراك والطريق السريع وغيرها، جرفت عدداً من المسؤولين والموظفين الحكوميين.

في الحالة الجزائرية المصابة بثقب في الذاكرة، من الضروري استرجاع هذا الشريط المتلاحق من أحداث ومحطات ذات صلة بمحاربة الفساد، للإدراك سريعاً أن "محاربة الفساد" هو مسار مختلف تماماً عن "ملاحقة فاسدين"، إذ لم يكن تحيين التشريعات كافياً بالمطلق، لأن عهد بوتفليقة الذي شهد أكبر ثورة تشريعية في قوانين محاربة الفساد، كان هو العهد الأكثر فساداً. كما لا يكفي ضخ مزيد من المؤسسات الهيكلية للحد من الفساد. ففي عهد بوتفليقة كانت هناك خمس مؤسسات مكلفة بمحاربة الفساد، ومع ذلك كانت المرحلة التي شهدت أكبر تعويم وهيكلة وتمركز للفساد.

ثمة مجهود ميداني محمود في الفترة الأخيرة إزاء معالجات قاعدية للفساد، لكن "محاربة الفساد" تقتضي - إضافة إلى الثورة الأخلاقية - اجتثاث السياقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المؤسِسة للفساد في الجزائر. في المقام الأول كان الفقر المعيشي والأزمات الاجتماعية مدخلاً لتعويم الفساد ومجاله الخصب، ودائماً كانت الوظيفة والمجال الاقتصادي في الجزائر مرتبطين بالمواقف والولاءات السياسية أكثر من الكفاءة. وكانت هناك مقاومة مستمرة للرقمنة كعامل أساسي في تركيز الشفافية وتدمير هيكلية الفساد ونقاط ارتكازه الأفقي والعمودي. وثمة أيضاً سياق سياسي من حيث تغول السلطة الحاكمة على البرلمان وتوجسها غير مبرر من استقلالية المؤسسة القضائية، وحذرها المبالغ فيه إزاء تحرير الصحافة من الاعتقال السلطوي، ووضع مؤسسات بعينها خارج مجال النقد.

هذه هي السياقات التي تمثل المجال المؤسس والمنتج للفساد في الجزائر، ويمكن على أساسها قياس ما إذا كانت الجزائر الراهنة بصدد "محاربة الفساد" أم "محاربة الفاسدين". الفساد ليس نهباً للمال العام فحسب، إنه مخبر كبير لصناعة الفقر والتطرف أيضاً.

المساهمون