يحتفل الجزائريون كل عام بذكرى عيد النصر الموافق 19 مارس/آذار من كل عام. في مثل هذا اليوم من عام 1962، وافقت "جبهة التحرير الوطني"، التي كانت تقود الكفاح المسلح من أجل الاستقلال، على توقيع اتفاقيات إيفيان (مدينة سوسرية كانت تحتضن المفاوضات) ووقف إطلاق النار، بعدما حصلت على إقرار فرنسي نهائي باستقلال الجزائر وتنظيم استفتاء تقرير المصير في الثالث من يوليو/تموز من نفس السنة، والاعتراف بكامل الوحدة الترابية للجزائر، بما فيها الصحراء التي كانت فرنسا تريد فصلها عن الجزائر.
لم يكن الطريق إلى 19 مارس 1962، ومنه إلى الخامس من يوليو من نفس العام، سهلا بالنسبة للجزائريين، فقد كان الثمن باهظا لاستعادة الاستقلال وإنهاء الكولونيالية الاستعمارية، بعشرات المقاومات الشعبية والنضال التحرري، وصولا إلى الثورة المظفرة التي بدأت في الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني 1954، بعد خسارة المعركة على الأرض في مواجهة قوات جيش التحرير، التي اكتسبت في خضم سبع سنوات من الثورة قدرة أكبر على المواجهة والإصرار على التحرر.
وحاولت السلطات الفرنسية استخدام آخر أوراقها في المفاوضات، عبر إجبار الجزائريين على وقف إطلاق النار قبل بدء مفاوضات الحل النهائي، لكن الوفد الجزائري المفاوض رفض إسكات البندقية قبل الحصول على إقرار فرنسي بحق الجزائريين في الاستقلال وتقرير المصير، وأن المسارين الثوري والتفاوضي متلازمين بالضرورة.
انتقلت فرنسا بعد ذلك إلى الخطوة التالية، وهي محاولة تقديم عرض استقلال داخلي يحوز بموجبه الفرنسيون في الجزائر حق الجنسية المزدوجة، لكن المفاوضين الجزائريين رفضوا ذلك تماما، وأوعزت "جبهة التحرير الوطني"، التي تقود الثورة، للشعب في الخروج في مظاهرات في الشارع، قبل أن يعود المفاوض الفرنسي بطرح جديد يقضي بفصل الصحراء عن الشمال الذي كان يضم 13 محافظة، وإبقاء السيادة الفرنسية على الصحراء، التي كان النفط قد تم اكتشافه فيها عام 1958.
لكن المفاوضين الجزائريين انسحبوا من المفاوضات، قبل أن تنتهي أخيرا، في 18 مارس آذار 1962، بقرار وقف إطلاق النار بدءا من اليوم الموالي 19 مارس، واعتراف فرنسا أخيرا باستقلال الجزائر وكامل سيادتها على الصحراء، مع بعض الترتيبات التقنية المرتبطة بفترة انسحاب القوات الفرنسية وتفكيك القواعد العسكرية ووضع الشركات الفرنسية العاملة في الصحراء، وتقرر إجراء استفتاء تقرير المصير في الثالث من يوليو 1962، وتحصل الجزائر على استقلالها الكامل في الخامس من نفس الشهر.
عودة الذاكرة إلى المناضل كريم بلقاسم
وفي مثل هذه الذكرى التاريخية، تعود صورة المناضل كريم بلقاسم، أحد قادة ثورة التحرير ورئيس الوفد الجزائري المفاوض في إيفيان، والرجل الذي وقع على اتفاقية الاستقلال.
وتكشف شهادة جديدة قدمها المناضل عمار قرام، الذي كان في تلك الفترة في تونس مكلفا بمهمة نقل السلاح إلى الجزائر وكان السائق الشخصي لكريم بلقاسم لمدة خمس سنوات ونصف في تونس، عن تفاصيل لحظات تاريخية.
تكشف شهادة جديدة قدمها المناضل عمار قرام، السائق الشخصي لكريم بلقاسم لمدة خمس سنوات ونصف في تونس، عن تفاصيل لحظات تاريخية
وقال قرام في الشهادة التي نشرت اليوم الجمعة: "قبل يوم من انطلاق كريم بلقاسم، الذي كان آنذاك وزيرا للحربية في الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، للمشاركة في مفاوضات إيفيان، أحس كريم بلقاسم بألم في بطنه، فقمت بنقله إلى المستشفى"، وأضاف "نقلته إلى مستشفى الصادقية بتونس، وبعد فحصه تبين أن وضعه الصحي يتطلب إجراء عملية جراحية، وهو ما حصل، أجرى له التيجاني هدام آنذاك عملية استئصال الزائدة الدودية".
وقال المناضل عمار قرام: "ذهبت في اليوم الموالي لزيارة كريم بلقاسم في المستشفى للاطمئنان على وضعه الصحي، فأخبره أنه سيسافر لحضور المفاوضات، حيث قمت بنقله مباشرة من المستشفى إلى المطار، مضيفا أنه "لاحظ لدى صعود كريم بلقاسم إلى الطائرة أن جرحه كان ما يزال ينزف جراء إجرائه العملية الجراحية، رأيت الدم يقطر منه بينما هو يصعد سلم الطائرة، فذهبت وأحضرت له القطن والدواء وواصل رحلته".
وأشار إلى أن الرجل، الذي وقع على اتفاقيات إيفيان ووقف إطلاق النار المؤدي إلى الاستقلال، كان "شجاعا وصبورا على محنة المرض، وأتم رحلته رغم ما حل به، لأن الجزائر كانت بالنسبة إليه فوق كل اعتبار وقبل كل شيء"، مضيفا "فرحتنا ونحن بتونس كانت كبيرة، فأقيمت الأفراح وقاسمنا المسؤولون والشعب التونسي الشقيق فرحة الحدث".
مراجعة العلاقات مع فرنسا
وتأتي الاحتفالات بعيد النصر هذا العام في ظل تطورات هامة ذات صلة بالملف التاريخي، وبانبعاث مطالب تحقيق الاستقلال الاقتصادي والثقافي للبلاد بعد ستة عقود من تحقيق الاستقلال السياسي.
وتمثل الإقرارات الأخيرة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بشأن الاستعمار كجريمة في حق الجزائريين، وبمسؤولية فرنسا عن اغتيال عدد من المناضلين من أجل استقلال الجزائر، كموريس أودان والمناضل علي بومنجل، وفتح أرشيف ثورة التحرير الجزائرية أمام الباحثين، وتسليم جثامين ورؤوس المقاومين الجزائريين التي كانت في المتاحف الفرنسية، خطوة جديدة باتجاه مراجعة العلاقات بين البلدين، وتسوية ملف الذاكرة الذي ظل يحدد مسار هذه العلاقات ويؤثر في الكثير من تفاصيلها.
في السياق، يعتقد الباحث في التاريخ سليم العيفة في تصريح لـ"العربي الجديد" أن الحراك الشعبي أعاد طرح جملة من المطالبات السياسية التي تمثل استحقاقات دولة الاستقلال، والمؤجلة منذ عام 1962، إذ كانت مظاهرات الحراك الشعبي قد أعلنت، منذ فبراير/شباط 2019، مطالب "تخص استنهاض الشعور الوطني للحد من سيطرة الثقافة واللغة الفرنسيتين في الإدارات والمؤسسات الرسمية، والحد من التأثيرات الفرنسية في الخيارات الجزائرية عبر مجموعات مصالح تمركزت في وقت سابق في مؤسسات الحكم في الجزائر، ومراجعة العلاقات الاقتصادية مع فرنسا على أساس ندي".
وأضاف العيفة أن" مجموع هذه المطالب يبقى رهنا بإعادة بناء الدولة وتقويم المؤسسات والمسار الديمقراطي في الجزائر، لتحرير القرار والخيارات السياسية من التأثيرات والضغوط التي يفرضها اختلال العلاقات والتوازنات القائمة، لأن هناك شعورا عاما في الجزائر باستمرار وجود ما يسمى بحزب فرنسا في الجزائر"، وهو توصيف يطلق على مجموعات سياسية ومالية وإعلامية ومسؤولين، ويعتقد أن مصالحهم ترتبط بباريس.