لا يبدو الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون مهتماً كثيراً بالحصول على الشعبية ورضا الشارع، وهو يدرك أن الانتخابات لم تكن السلم الأساس للوصول إلى سدة الحكم، إذ هناك معطيات تتحكّم في الحالة الجزائرية على هذا المستوى.
ولذلك تبدو بعض قراراته وخياراته غير شعبية بالمرة، ومزعجة أحياناً، على الرغم من أنها قد تعيد الحد الأدنى من حضور الدولة، خصوصاً التوجهات المتعلقة باستعادة الضبط في الفضاء العام، والحد من الفوضى التي تعم البلاد في مجالات متعددة، والتي لم تعد فقط معطلاً لأي محاولة للإصلاح، بل تتحول تدريجياً إلى تهديد للسلم المجتمعي.
من مخلّفات النظام السياسي الريعي في الجزائر التطبيع مع الفوضى والتعايش مع اللانظام في كل المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وداخل كل المنظومات القائمة، في الدولة والحزب والبرلمان والمؤسسات، في الجامعة وفي الصحافة والقضاء، في الشارع والمدينة كما في التجارة والاقتصاد. وبلغ ذلك مستوى أصبحت فيه الفوضى في حد ذاتها نسقاً منتظماً للعيش، ولإدارة الشأن العمومي وتسيير المجال العام في الجزائر، وبالقطع يتحمّل النظام الذي أدار الدولة وحكم البلاد المسؤولية عن تكريسها.
لا شك في أن المشكلات السياسية المزمنة في الجزائر هي نتاج طبيعي لهذه الفوضى التي تقوم بالأساس على تغييب القانون المكتوب، وتوظيفه إلا في الحالات التي تخدم مخرجاتها السلطة، والاعتماد بدلاً منه على قانون غير مدوّن، ينفذه كل طرف في المجال الذي يحوزه، وتفسره السلطة وحدها بالطريقة التي تريد.
وخلال العقود الماضية كانت السلطة الحاكمة، مهتمة بإدامة السلم السياسي والاجتماعي في البلاد، وهذا الأخير لم يكن ليحدث من دون السماح بهامش كبير من الفوضى والفساد السياسي والمجتمعي، بحيث يتورط فيه الجميع، ويمنع الجميع أيضاً من الاحتجاج ضد الفوضى، لأنهم شركاء في ذلك.
نتج عن ذلك نشوء حالة مرضية من التشابك في المصالح والتداخل في المواقف، والتعاطف السياسي والمجتمعي الذي تحدده اعتبارات متعددة، مع بعض الممارسات الفوضوية بداعي "دعه يعمل"، والمساندة غير المفهومة لسلوكيات غير محمودة بحجة "دعه يمر".
بل إن هذا التعاطف يتطور أحياناً، تحت عناوين سياسية أو اجتماعية، ليشمل الأمني الذي يضع القوة فوق القانون، والنائب الذي تسلق بالتزوير، والوزير الفاسد، والوالي المتغطرس، والصحافي غير المهني، والطبيب المريض في أخلاقياته، ومع المقاول الفوضوي، ومع التاجر الذي يحتل الشارع.
لذلك تبدو المسألة سياسية بالدرجة الأولى، لأنه وبغض النظر عن مسؤولية السلطة في ما آلت اليه الأوضاع والفوضى الكامنة في كل الزوايا والمجالات في البلاد، فإن الحقيقة التي تقال إن المحاولة الجارية من قبل الدولة لضبط الفضاء العام والتطبيق الصارم لقوانين يمكن أن تحد من الفوضى، تواجه بمقاومة مجتمعية، وسياسية أحياناً.
هذه المرة تبدو السلطة أكثر جدية في ذلك، وأكثر حزماً مقارنة مع محاولات سابقة، ما يبقى محل تساؤل يرتبط بما إذا كانت السلطة تملك تصوراً كاملاً لكيفيات الإصلاح وإنفاذ القانون على الجميع من دون المعايير الزبائنية، أم أنها بصدد خيارات ظرفية، وما إذا كان المجتمع مستعداً لتحمل كلفة التغيير والقبول بقواعد ما بعد الفوضى.