تتلاحق التطورات السياسية والميدانية في الشمال السوري، الذي لم يكن منذ أواخر 2019، أقرب إلى تبدّل خرائط السيطرة فيه كما هو عليه اليوم، حيث لم تتراجع وتيرة الوعيد التركي بـ"ردع" "قوات سورية الديمقراطية" (قسد)، التي كما يبدو تتجه أكثر إلى الجانب الروسي، في محاولة للحد من هجوم تركي محتمل.
وتحدثت مصادر تركية دبلوماسية وميدانية، رفيعة المستوى، لـ"العربي الجديد"، عن العمليات الجديدة المتوقعة في سورية، مستبعدة "شن العمليات في وقت قريب جداً". وقالت إن "تركيا تهدد بشكل مستمر بشن العمليات العسكرية ضد الإرهابيين، وحالياً تعمل على التصعيد الإعلامي كمرحلة لحث الأطراف المعنية، وهي روسيا وأميركا، من أجل الضغط عليها لتطبيق التوافقات المتعلقة بسحب عناصر الوحدات الكردية ومقاتلي قسد من المناطق المتفق عليها مع موسكو وواشنطن، خصوصاً القريبة من المناطق الآمنة التي شكلتها تركيا". وأوضحت أن "التعزيزات التي جرت في الفترة الأخيرة لا تعني بالضرورة أنها إيذان ببدء العمليات العسكرية".
مصادر تركية: التعزيزات لا تعني بالضرورة أنها إيذان ببدء العمليات العسكرية
وأضافت المصادر أن "تركيا تفضل أن تواصل حواراتها مع روسيا وأميركا من أجل تطبيق التوافقات، مع مواصلة الضغط الإعلامي في الوقت الحالي. هذا لا يعني أنه لا توجد لدى تركيا خطط لعمل ما يلزم عسكرياً، حيث سيتم وضع الخطط حيز التنفيذ بحسب تطورات الحوارات الجارية مع الدول المعنية". وأشارت المصادر إلى أن "الهدف بالدرجة الأولى استكمال تطهير منطقة تل رفعت والقرى المحيطة بها، استكمالاً لتوافقات سابقة مع روسيا، لتأمين منطقة درع الفرات بشكل كامل". وأوضحت المصادر أن "مناطق شرق الفرات أيضاً شهدت توافقات سابقة لم تطبق لتأمين منطقة نبع السلام، وأن أي عمل عسكري في مناطق أخرى مطروحة، مثل عين العرب، بحاجة لتوافقات من قبل أنقرة وبقية الدول، وهي بحاجة إلى مناخ دولي معين (توافقات تركية أوروبية أميركية)، وحتى الآن لا يمكن القول إن العملية قريبة جداً"، مشبهة الأجواء الحالية بما "حصل سابقاً من ضغط إعلامي حول منطقة عين عيسى من دون تنفيذ عمل عسكري في المنطقة".
وكانت الأوضاع في شمال شرقي سورية، الذي تعتبره أنقرة منبع الخطر على أمنها القومي، حاضرة، أمس الأول، على طاولة التفاوض بين الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان والأميركي جو بايدن في روما. وقال أردوغان، على متن الطائرة خلال عودته من روما، حول العمليات العسكرية المتوقعة في سورية: "عندما تستدعي الضرورة للقيام بعمل عسكري سيتم عمله، لا تراجع في ذلك، ولا يمكن لتركيا أن تصرف النظر عن التنظيمات الإرهابية. وإن كان أمام تركيا حزب العمال الكردستاني أو وحدات الحماية الكردية، فإننا نعمل ما يلزم حيالها من دون أي تنازل، وهذا ما أبلغنا به الجانب الأميركي بشكل دائم". وأضاف: "اتفقنا على العمل المشترك فيما يتعلق بأولويات تركيا الأساسية في سورية، وأميركا لا توجد لديها مقاربة سلبية في هذا الإطار. وقلت إن كنا حلفاء في الناتو فلا يجب على أميركا دعم هذه الجهات".
ويدعم التحالف الدولي ضد الإرهاب، بقيادة الولايات المتحدة، "قوات سورية الديمقراطية"، وهو ما يعد مصدر قلق للأتراك الذين يعتبرون هذه القوات امتداداً سورياً لحزب "العمال الكردستاني". وتشير المعطيات الميدانية إلى أن الجيش التركي أنهى الاستعدادات اللازمة لتنفيذ توغل جديد في الأراضي السورية، لملاحقة "قسد" ودفعها مرة أخرى بعيداً عن الحدود الجنوبية التركية. وأكد مصدر مطلع في فصائل المعارضة السورية، فضّل عدم ذكر اسمه، لـ"العربي الجديد"، أن "الهدف المقبل هو بلدة عين عيسى في ريف الرقة الشمالي وتل تمر في ريف الحسكة الشمالي"، مضيفاً: غايتنا الوصول إلى الطريق الدولي "أم 4". وبيّن أن محافظة إدلب "ستكون مسرح عمليات واسعة في حال تقدم قوات النظام باتجاه جبل الزاوية أو ريف حلب الغربي".
وفي هذا الصدد، كتب مصطفى سيجري، وهو رئيس المكتب السياسي لـ"الجبهة السورية للتحرير" (تشكيل عسكري جديد من فصائل المعارضة السورية مدعوم من تركيا)، في تغريدة منذ يومين: "أنهينا التدريبات والاستعدادات العسكرية اللازمة للعملية العسكرية المرتقبة". وأكد "أن الآلاف من المقاتلين باتوا على أهبة الاستعداد لاستئناف العمليات العسكرية ضد حزب العمال الكردستاني وأذرعه الإرهابية في سورية".
أردوغان: عندما تستدعي الضرورة القيام بعمل عسكري سيتم
وفي مقابل التحركات التركية، يتحرك الروس عسكرياً في شمال شرقي سورية، في رسائل واضحة على أن موسكو تعارض أي تحرك عسكري تركي خارج تفاهمات أبرمت في أكتوبر/تشرين الأول 2019، حددت خرائط السيطرة في منطقة شرقي نهر الفرات، خاصة لجهة انسحاب "قسد" 33 كيلومتراً في العمق السوري. وأجرت قوات روسية، السبت والأحد الماضيين، مناورات عسكرية في بلدة تل تمر في ريف الحسكة الشمالي الغربي مع قوات النظام، التي كُلفت وفق تفاهمات 2019 بحماية الحدود السورية التركية. وذكرت مصادر إعلامية متقاطعة أن طائرات روسية من نوع "سوخوي" شاركت في المناورات، في خطوة غير مسبوقة.
وذكرت صحيفة "الوطن" التابعة للنظام، أمس الاثنين، أن قوات النظام "أجرت مناورات عسكرية بالسلاح الحي في ناحية تل تمر شمال الحسكة، بمشاركة المقاتلات الروسية، وفي منطقة تقع بين جبل عبد العزيز على الطريق الدولي أم 4، ومنطقة العالية في ريف تل تمر شمال الحسكة، قرب خطوط المواجهة مع فصائل المعارضة السورية التابعة للجيش التركي". في المقابل، قلل الناطق باسم "الجيش الوطني" التابع للمعارضة، الرائد يوسف حمود، في حديث مع "العربي الجديد"، من أهمية هذه المناورات، مشيرا إلى أن المشهد "شبيه بما جرى في منطقة عفرين شمال غربي في عام 2018"، مضيفاً: دخلت أرتال من قوات النظام لمساندة "الوحدات" الكردية، وفي النهاية خرجوا جميعهم من المنطقة. وكانت هبطت، الأربعاء الماضي، طائرة "سوخوي" في مطار القامشلي في محافظة الحسكة أقصى الشمال الشرقي من سورية، وهي المرة الأولى التي تهبط فيها طائرة حربية في شرق الفرات منذ التدخل الروسي في سورية أواخر عام 2015. وذكرت مصادر محلية في الحسكة أن الطائرة نفذت، الخميس الماضي، أولى طلعاتها الجوية في شمال شرقي سورية، بالقرب من الشريط الحدودي مع تركيا في ريف الحسكة الشمالي. وأشارت مصادر محلية، لـ"العربي الجديد"، إلى أنه يوجد في داخل مطار القامشلي "6 مروحيات روسية، وطائرة سوخوي".
وتشي هذه الخطوة بأن "قسد" وسّعت دائرة التفاهم العسكري مع موسكو، الذي أبرمته أواخر 2019، لإيقاف التدخل التركي عند حدود معينة في ذاك العام، الذي شهد عملية عسكرية تركية واسعة النطاق في شرقي نهر الفرات. ويبدو أن هذه القوات تبحث عن مساندة روسية في حال نفذ الجيش التركي وعيده مرة أخرى، واجتاح مناطق جديدة، سواء غربي الفرات أو شرقيه. وتعليقاً على التطورات في الشمال السوري، أشار المحلل العسكري العميد مصطفى الفرحات، في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أن المناورات الروسية في شمال شرقي سورية "لها هدفان، عسكري وسياسي"، معتبراً أنها تهدف إلى رفع القدرة القتالية لدى قواتها، من خلال محاكاة معركة حقيقية وتجربة أسلحة جديدة. وأعرب الفرحات عن اعتقاده أن "موسكو توجه من خلال المناورات رسائل للجانب التركي أن سورية ملعب روسي بامتياز ووجودها شرعي". وأشار إلى أن هذه المناورات "ربما تكون وسيلة ضغط على قسد للرضوخ للإملاءات الروسية، أو مواجهة الجيش التركي".
ورأى الفرحات أن "أي عمل عسكري واسع النطاق في الجغرافيا السورية محكوم بتوافق الأطراف الفاعلة" على الأرض، مضيفاً: لا يمكن حدوث عملية عسكرية في منطقة جغرافية مكتظة باللاعبين من دون تنسيق ومعرفة مسرح العمليات. وتابع: "من البديهي أن تُعلم أنقرة جميع الأطراف بأبعاد أي عملية عسكرية لمنع الاحتكاك. الأعمال العسكرية في سورية مضبوطة لمنع انتشار الحريق خارجها، لذا الهوامش ضيقة". وبيّن أن الأوضاع في شمال سورية "معقدة جداً"، مضيفاً: نحن أمام كل الاحتمالات، ولا يمكن الجزم بأي عمل عسكري بدون توافقات.
مصطفى الفرحات: أي عمل عسكري واسع النطاق في الجغرافيا السورية محكوم بتوافق الأطراف الفاعلة
واعتبر الفرحات أن "تركيا أمام معضلة"، موضحاً أنها تهدد بالرد على "قسد" التي استهدفت القوات التركية في شمال سورية، بل طاول القصف مناطق تركية، ما يعني أن هذه القوات تجاوزت خطاً أحمر تركياً، لكن لا ندري ما ستكون طبيعة رد الجيش التركي. وتابع: تركيا تريد إبعاد "قوات سورية الديمقراطية" إلى عمق 33 كيلومتراً في الجغرافيا السورية، ولكن هل سيكون الأمر مقابل انسحاب فصائل المعارضة السورية من منطقة جبل الزاوية في ريف إدلب الجنوبي؟ هذا سؤال يُطرح. حتى الآن أنقرة ترفض تقدم قوات النظام إلى الطريق الدولي "أم 4" في محافظة إدلب. وبيّن أن "سيطرة قوات النظام على هذا الطريق تعني الاستحواذ على جبلي الزاوية والأربعين، ما يعني أن هذه القوات باتت مسيطرة نارياً على كامل محافظة إدلب". وأضاف: أنقرة تعتبر إدلب قضية تخص الأمن القومي التركي. واعتبر أن "الجيش التركي قادر على تنفيذ أي عمل عسكري في سورية بزمن قياسي، لكن التوافقات السياسية هي من تحدد مدى تنفيذ هذا العمل".