تبدو العلاقات المصرية الإسرائيلية في أزهى أوقاتها في الفترة الأخيرة، فبين انتعاش السياحة الإسرائيلية في مصر، وتصدير الغاز الإسرائيلي إلى مصر لإعادة تصديره إلى أوروبا بعد تسييله، واستمرار تطبيق اتفاقية المناطق المؤهلة (الكويز) التي تسمح بأفضلية في الأسواق الأميركية للبضائع المصرية التي تتضمن مكوّناً إسرائيلياً، فضلا عن التنسيق الأمني والعلاقات السياسية والدبلوماسية. شواهد كثيرة تؤكد للوهلة الأولى أن أربعة عقود من تطبيع العلاقات المصرية- الإسرائيلية، قد أنتجت علاقات طبيعية على جانبي الحدود، بين دولتين لم تلتقيا سوى على جبهات القتال كعدوين، قبل أن يبرم السادات اتفاقية السلام مع إسرائيل عام 1979.
ولكن الحقيقة أن أي تقييم لحجم التطبيع بين مصر وإسرائيل يجب أن يضع العلاقات المصرية الإسرائيلية في أكثر من سياق، ويعمل على فهم العوامل المؤثرة فيه. أول تلك السياقات هو السياق التاريخي بالطبع، فحجم العلاقات بينهما في كافة المجالات اليوم، هو نتيجة أكثر من أربعة عقود من الجهد الدؤوب من قبل إسرائيل وأميركا والحكومات المصرية المتعاقبة لتطبيع العلاقات بين البلدين، عقب اتفاقية السلام.
ثاني تلك السياقات؛ وربما أهمها، هو طبيعة العلاقات التطبيعية بين مصر وإسرائيل، وما إذا كانت تلك العلاقات قائمة بين مؤسسات الدولتين الرسمية، أم تطبيعاً على المستوى الشعبي، يعبر عن تحول في علاقة المجتمع المصري بإسرائيل.
لا توجد معلومات كثيرة عن حجم تجارة البضائع بين مصر وإسرائيل وفق المصادر الرسمية المصرية، ولكن يوضّح البنك المركزي الإسرائيلي على موقعه الإلكتروني الرسمي عبر بيانات تبدو دالة عما تحقق من تطبيع في مجال التجارة، إذ بلغت الصادرات الإسرائيلية إلى مصر 127 مليون دولار في عام 2022، والحقيقة أن هذا الرقم يبدو ضخماً بالقياس مع السنوات الماضية حين كان في عام 2021، 31 مليون دولار فقط، و12 مليون دولار في 2020، ولم يتجاوز 4 ملايين دولار في عام 2019، وبالطبع لا تشمل تلك الأرقام صادرات الغاز الإسرائيلي إلى مصر، الذي يسيّل في محطات التسييل المصرية ويعاد تصديره إلى أوروبا.
مثلما فشلت المحاولات الرسمية في خلق علاقات طبيعية بين إسرائيل والمجتمع المصري، فشلت أيضاً المحاولات غير الرسمية
وإذا نظرنا إلى الصادرات المصرية إلى إسرائيل سنجد الأرقام تتحرك نحو الأعلى أيضا، فقد بلغت 180 مليون دولار في عام 2022، ارتفاعاً من 127 مليون دولار لعام 2021، ومن 80 مليون دولار لعام 2020، ومن 76 مليون دولار لعام 2019. يبدو الأمر بالفعل كطفرة في التجارة بين مصر وإسرائيل، ولكن لا يمكن اعتبار ذلك مؤشراً على التقدم في التطبيع في مجال التجارة، لاعتبارات عدة.
فبالنظر إلى الحدود المشتركة بين البلدين، وسهولة تداول البضائع بينهما، تبدو تلك الأرقام هزيلة جداً، وأيضا لأنها نتاج أربعة عقود من التطبيع، فلا يبدو أن العملية كانت ناجحة. ولكن تجدر الإشارة هنا أيضاً إلى أن النسبة الكبرى من الواردات الإسرائيلية لمصر هي عبارة عن مدخلات لصناعة المنسوجات والملابس الجاهزة، وهي التي تستورد بموجب اتفاقية المناطق الصناعية المؤهلة (الكويز)، التي تلزم المصنّعين المصريين بإدخال نسبة من المكون الإسرائيلي في صادراتهم لأميركا، كي تحظى بمعاملة تفضيلية في السوق الأميركي.
الحقيقة أن الحجم الحقيقي لتجارة البضائع بين مصر وإسرائيل؛ عدا التي تمر عبر مؤسسات البلدين الرسمية، مثل تجارة الغاز، يبدو هزيلاً للغاية، إذا ما قورن بحجم تجارة مصر الخارجية مع دول تقع على مسافات شاسعة، ولا تجمعها معها حدود مشتركة، تضيف تكلفة نقل باهظة، يكفي أن نوضح أن حجم مجمل الصادرات المصرية في عام 2022 كان أكثر من 53 مليار دولار، وحجم وارداتها كان أكثر من 94 مليار دولار، هكذا لا تمثل التجارة مع إسرائيل؛ المفروض أغلبها باتفاقيات تحت الرعاية الأميركية، أي نسبة من حجم تجارة مصر الخارجية.
فشل مساعي التطبيع بين مصر وإسرائيل في مجال التجارة يتضح على نحو حاسم عند مقارنته بتجارب تطبيع أخرى؛ لم تستغرق أربعة عقود، ولا حتى أربعة أعوام. إذ ارتفع حجم صادرات الإمارات لإسرائيل من صفر عام 2019 إلى 1.9 مليار دولار عام 2022؛ أما حجم وارداتها من إسرائيل فقد ارتفع من 11 مليون دولار عام 2019 إلى 670 مليون دولار عام 2022.
أما تركيا فقد ارتفعت صادراتها لإسرائيل من 3.2 مليارات دولار عام 2019 إلى 5.7 مليارات دولار عام 2022، هنا يمكن الحديث عن تبادل تجاري فعلي، يمثّل نسبة ما من حجم التجارة الخارجية للبلدين، ويعبر عن مصالح اقتصادية مشتركة. فعلياً؛ يرجع البنك المركزي الإسرائيلي حجم التجارة الضعيف مع مصر والأردن إلى "المشاعر الشعبية السلبية؛ في الدولتين، تجاه التعاون الاقتصادي مع إسرائيل".
على عكس التجارة؛ تبدو حركة السياحة بين مصر وإسرائيل أكثر انتعاشاً، ولكن في اتجاه واحد، فبحسب البيانات الإسرائيلية؛ شهد عام 2022 دخول 735 ألف سائح إسرائيلي إلى مصر، منهم 566 ألفاً عبر معبر طابا البري، و196 جوّاً عبر مطار بن غوريون.
أرقام السياحة الإسرائيلية في مصر مرتفعة بالفعل، يرجع ذلك بالطبع إلى سهولة دخول الإسرائيليين من معبر طابا إلى سيناء، وإلى فارق العملة (الشيكل الإسرائيلي يساوي 8.66 جنيهات مصرية) ما يجعل السياحة في مصر منخفضة التكلفة على نحو يجعلها في أولوية السياح الإسرائيليين، ناهيك عن قرب المسافة الشديد، إذ تعتبر سيناء أقرب إلى الحدود الإسرائيلية من القاهرة، ومن مناطق مصرية كثيرة.
لا توجد معلومات كثيرة عن حجم تجارة البضائع بين مصر وإسرائيل وفق المصادر الرسمية المصرية
ولكن تبدو السياحة بين مصر وإسرائيل من طرف واحد، فسفر المصريين إلى إسرائيل يبدو منعدماً، وتشير بيانات إسرائيلية إلى أن جملة من سافروا إلى إسرائيل من مصر والمغرب عام 2022 يبلغ حوالي 8 آلاف شخص فقط، وتشير مؤشرات مصرية غير رسمية إلى أن عدد المسافرين من مصر إلى إسرائيل يبلغ حوالي خمسة آلاف؛ وهو ما يبدو رقماً متسقاً مع البيانات الإسرائيلية، ولكنهم أيضاً من المسيحيين الذين يذهبون لزيارة الأماكن المقدسة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وذلك بعد أن أصبحت الكنيسة المصرية أكثر مرونة في التعامل مع تلك الزيارات.
أشكال التطبيع التي تشهد تقدماً؛ ولو كان محدوداً، مرتبطة بالمؤسسات الرسمية والمدعومة، مثل تسهيل دخول السياح الإسرائيليين، وإبرام اتفاقيات تجارية ملزمة للجانب المصري، تحت رعاية أكبر دولة في العالم، وإبرام اتفاقيات لتجارة الغاز، وإنشاء خط ملاحي أخيراً بين موانئ إسرائيلية وميناء دمياط، ولكن حتى ما حصل على هذا الصعيد من تقدم، يوضح مدى تهافت عملية التطبيع المستمرة منذ أربعة عقود.
على الصعيد الشعبي يبدو الأمر مختلفاً على نحو قاطع، فالمؤسسات التي تحمل صفة تمثيلية تبدو مواقفها أكثر صلابة في مواجهة أشكال التطبيع كافة. كان الموقف الشعبي من التطبيع مبكراً للغاية، في عام 1980 وفي أعقاب إبرام اتفاقية كامب ديفيد؛ كان الرئيس الإسرائيلي إسحاق نافون في زيارة لمصر، وكان ضمن برنامج الزيارة جولة في شركة الحديد والصلب المصرية جنوب القاهرة، وبمجرد ظهور أخبار عن زيارة نافون لها بدأ عمال الشركة ونقابتها حملة ضد الزيارة، حتى أن النقابة العامة للصناعات الهندسية الموالية للسلطة، واتحاد العمال الذي اصطحب السادات بعض أعضائه في زيارته القدس، وقفوا إلى جانب العمال ضد الزيارة، واستمرت الحملة رغم ملاحقة الدولة للقيادات العمالية، حتى ألغيت جولة نافون في الشركة.
كان الموقف من التطبيع ومنذ اللحظة الأولى واضحاً وحاسماً وجسوراً، بعدها توالت مواقف النقابات العمالية والمهنية مدعومة بقرارات من الجمعيات العمومية، لتحسم موقف المجتمع المصري من التطبيع، الموقف الذي لم يتغير طوال السنوات الأربعين الماضية.
الحقيقة أن موقف النقابات المهنية، مثل نقابات الصحافيين والأطباء والمهندسين والصيادلة والمحامين والتجاريين وغيرها من النقابات، كان يتجاوز كثيرا رفض التطبيع، فقد كانت تلك النقابات؛ منذ اتفاقية كامب ديفيد، مراكز لدعم القضية الفلسطينية، ومساندة كفاح الشعب الفلسطيني، سياسياً وإنسانياً، وأيّاً كانت طبيعة مجالس النقابات، ظل الموقف من التطبيع صلباً على مستوى النقابات المهنية، واللافت أن الأنشطة العامة في نقابة الصحافيين المصرية كانت متوقفة توقفاً شبه كامل، نتيجة قيود السلطة عليها، ورغم ذلك كان من الأنشطة القليلة جداً التي شهدتها النقابة العام الماضي فعالية تأبين الشهيدة شيرين أبو عاقلة، التي أُعيد فيها حرق العلم الإسرائيلي، ورفع العلم الفلسطيني، في تقليد لم ينقطع عن نقابات مصر وجامعاتها طوال السنوات الأربعين الماضية.
ما يصدق على النقابات المهنية يصدق أكثر على الجامعات، فقد ظلت القضية الفلسطينية المحرك الرئيسي للحركة الطلابية في جامعات مصر لعشرات السنين، إذ أيقظت انتفاضات فلسطين انتفاضات أخرى في جامعات القاهرة وعين شمس والإسكندرية، ولا يرجع توقف حركة التضامن مع القضية الفلسطينية في الجامعات اليوم، إلا لتوقف الحركة الطلابية عموماً، نتيجة القيود الأمنية والإدارية، حتى في الجامعات الأجنبية؛ مثل الجامعة الأميركية والبريطانية والألمانية، كانت القضية الفلسطينية عنوان الحركة الطلابية فيها دائماً.
على الصعيد الثقافي؛ دخل الموقف من التطبيع في تحدٍّ مباشر مع الدولة، عندما استضاف معرض القاهرة الدولي للكتاب في 1981 جناحاً إسرائيلياً، فشهد هجوماً من المثقفين المصريين، هوجم خلاله السفير الإسرائيلي في القاهرة؛ إلياهو بن إليسار، أثناء افتتاحه الجناح، ونزع المتظاهرون في المعرض العلم الإسرائيلي من الجناح، وتكررت محاولة إشراك إسرائيل في معرض القاهرة الدولي للكتاب في 1985، وتكررت الحملة ضد المشاركة أيضاً، وفي المرتين اعتُقل مثقفون مصريون قادوا حملة منع مشاركة إسرائيل في المعرض، ومن ثم انقطعت تلك المحاولات.
ولكن في عام 1985 جرت محاولة أخرى لإشراك إسرائيل في معرض القاهرة الصناعي، وهو ما واجهه جمهور المعرض عبر الهجوم على الجناح الإسرائيلي وتحطيمه، وحرق العلم الإسرائيلي المرفوع فيه، وبالطبع أسفر ذلك عن القبض على عدد من المتظاهرين، وهو ما تكرر مرة أخرى في التسعينيات.
على الصعيد الشعبي يبدو الأمر مختلفاً على نحو قاطع، فالمؤسسات التي تحمل صفة تمثيلية تبدو مواقفها أكثر صلابة في مواجهة أشكال التطبيع
مثلما فشلت المحاولات الرسمية في خلق علاقات طبيعية بين إسرائيل والمجتمع المصري، فشلت أيضاً المحاولات غير الرسمية، حتى أن أي محاولة من خارج السلطة للتطبيع كانت تعد وصمة سياسية واجتماعية لصاحبها، مهما كانت مكانته. تبدو مجموعة كوبنهاغن مثالاً جيداً على ذلك، فنخبة من المثقفين المصريين لبّوا دعوة في العاصمة الدنماركية لحوار من أجل السلام مع نظرائهم من إسرائيل، بهدف خلق علاقات تطبيعية على المستوى غير الرسمي، وفضلاً عن الفشل الذريع الذي مُني به المشروع، تحول إعلان كوبنهاغن إلى وصمة لكل من شاركوا فيه.
كان هذا في عام 1997، ولكن الأمر لم تغيره السنوات، فنجمٌ في شعبية الفنان المصري محمد رمضان لم ينجُ من هجوم كاسح عندما التقط صورة مع إسرائيليين في دبي، ولم تمنع شعبيته الكاسحة من إحالته للتحقيق في الاتحاد العام للمهن الفنية، وإصدار قرار بوقف عضويته في نقابة المهن التمثيلية، رغم نشره لصورة العلم الفلسطيني على صفحته، بعد الهجوم عليه كاعتذار.
الحقيقة أن الأمثلة على الموقف الشعبي المصري من التطبيع يصعب حصرها، وفي كافة المجالات، ومؤشرات التطبيع؛ المدعوم رسمياً والمدفوع أميركياً، تكشف حدود ما تحقق في أربعة عقود. ولكن حتى ما أنجز على المستوى الرسمي من تنسيق على مستويات عدة، وخطوط طيران وخطوط ملاحية وحركة بضائع واتفاقيات تجارية، وعلى الرغم من تواضع حجمه، يبدده في لحظة واحدة ذلك "الصبي الذي لم يعدنا بشيء" (من قصيدة للشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي)؛ محمد صلاح، المولود في عام 2000، أي بعد أكثر من عشرين عاماً على بدء محاولات التطبيع، وبعد أكثر من ربع قرن من قرار وقف إطلاق النار على الجبهة، ليعلن أن ناراً أخرى لم تتمكن قرارات القادة من وقفها.