ألقت الأزمة السياسية في تونس والصراع الدائر بين قيادات البلاد، بظلالهما على مجلس النواب، الذي تتخبّط مكوناته بدورها في الصراعات والخلافات، بعدما تحوّلت تداعيات الخصام إلى قطيعة بين مؤيدي رئيس الدولة قيس سعيّد، ومناصري الحكومة التي يرأسها هشام المشيشي، في تصعيد عطّل نشاط المجلس والاستحقاقات التشريعية الكبرى. وتحوّلت أزمة الحكم بين رئيسي الجمهورية والحكومة إلى البرلمان، لتتصاعد وتيرتها يومياً منذ ثلاثة أشهر، بعد رفع سعيّد "فيتو" بوجه التعديل الوزاري الذي صادق عليه البرلمان، وامتناعه عن استقبال الوزراء الجدد لأداء اليمين الدستورية أمامه ومباشرة مهماتهم، بذريعة وجود شبهات فساد تحوم حول عدد منهم، من دون أن يقدم أي دليل على صحة هذه الاتهامات، فضلاً عن عدم وجود أي قضية بحق أي من الوزراء أمام القضاء.
وزادت الخلافات بين رئيسي الجمهورية والحكومة ومن وراء الأخير الحزام البرلماني الداعم له (المكوّن أساساً من حركة النهضة وائتلاف الكرامة وحزب قلب تونس، وعدد من الكتل الأخرى مثل تحيا تونس والإصلاح، ومستقلين)، التشتت والتشنج داخل البرلمان، وانعكس ذلك على أعماله بتعطّل الملفات الكبرى، وفي مقدمتها استكمال انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية وبقية الهيئات الدستورية المستقلة.
يوجد 102 مشروع قانون على رفوف المجلس لم يتم النظر فيها
وتعيب منظمات وجمعيات متابعة لعمل المجلس، على الأخير، عدم تمكنه من مناقشة القوانين ذات الأولوية الاجتماعية والاقتصادية والبيئية والصحية، وغرقه في تمرير عشرات القروض والاتفاقيات المالية، وإن كان ذلك بفعل الضغط المسلّط على الحكومة من الدائنين والبنوك العالمية.
ووصفت منظمة "البوصلة" المختصة في مراقبة عمل البرلمان، في تقرير لها مطلع إبريل/نيسان الماضي حول رصد عمل مجلس الشعب، الأداء التشريعي بالضعيف، مقابل تحسّن الأداء الرقابي. وأشارت إلى أنه خلال النصف الأول من الدورة البرلمانية الثانية (منذ أكتوبر/تشرين الأول 2020)، صادق البرلمان على 16 قانوناً، تتعلّق 5 قوانين منها بالموافقة على قروض واتفاقيات مالية، و5 قوانين أخرى تتعلق بمراسيم أصدرها رئيس الحكومة السابق إلياس الفخفاخ خلال فترة التفويض له من طرف البرلمان لإدارة أزمة كورونا، وقانونين ماليين، وقانونين آخرين يتعلقان بالمصادقة على اتفاقيات تهم العلاقات الخارجية والتعاون الدولي، إضافة إلى قانونين يتعلقان بمجابهة فيروس كورونا مكنا من جلب اللقاحات ضد الفيروس إلى تونس.
في المقابل، أكدت المنظمة أنه يوجد 102 مشروع قانون على رفوف المجلس لم يتم النظر فيها، من بينها 8 مشاريع جاهزة للعرض على الجلسة العامة للتداول فيها، في وقت سجل البرلمان استمرار العمل الرقابي من خلال تنظيم جلسات طرح الأسئلة الشفوية على الحكومة.
ويحاول البرلمان ضمان استمرارية عمله على الرغم من الخلافات الداخلية الحادة التي عطلت أعماله، ولا سيما تشويش كتلة الحزب "الدستوري الحر" واعتصامها أكثر من مرة في قاعة الجلسة العامة وفضاءات العمل بالمجلس. وبينما نجح البرلمان في الإبقاء على نشاطه خلال جائحة كورونا في أكثر من مناسبة، عبر إقرار تدابير استثنائية، غير أنه لم يستطع حسم الاستحقاقات الاجتماعية والاقتصادية والدستورية الكبرى المطلوبة منه.
وعن تداعيات أزمة الحكم والخلافات السياسية على عمل البرلمان ونشاطه التشريعي والانتخابي والرقابي، قال القيادي في حركة "النهضة"، رئيس اللجنة الانتخابية في البرلمان، سمير ديلو، في حديث مع "العربي الجديد"، إنّ "تأثير الأزمة الناتجة عن خلاف رأسي السلطة التنفيذية (سعيّد والمشيشي) انعكس بشكل مباشر على الاصطفاف داخل البرلمان، الذي ازدادت حدته ويتواجه فيه مساندو كل من الطرفين، ممّا زاد من ترذيل صورة المجلس، خاصة مع ابتعاد أي احتمال لاستكمال المحكمة الدستورية". وأضاف: "أما النشاط التشريعي والرقابي للمجلس، فيتواصل بشكل شبه عادي".
جذور أزمة مجلس النواب سابقة للأزمة السياسية الحالية
وحول استهداف البرلمان وتكرار دعوات حله حتى من قبل بعض أعضائه، اعتبر ديلو أنه "لا شكّ في أن البرلمان التونسي مستهدف في تجربته بمحاولات إرباكه والدعوات لحله، ولكن الديمقراطية المنزوعة المخالب هي ديمقراطية عاجزة والمجلس الذي لا يقدر على ضمان استمراريته في كل الظروف، لن يكون قادراً على ممارسة دوره الدستوري". وشدد ديلو على أنّ "حماية التجربة الديمقراطية مسؤولية جماعية، ولكن الأحزاب تبقى ركيزة العملية الديمقراطية ومحورها، والكتل هي الأرضية البرلمانية التي تمنح الثقة للحكومات وتمنعها عنها، وطالما تمّت العملية تحت سقف الدستور ومرجعية الانتخابات، فالاختلاف في تقدير المصلحة أمر مشروع". وتابع: "ولكن إذا عمد البعض إلى استهداف أسس العملية الديمقراطية فالأولوية تصبح حماية الانتقال الديمقراطي وتأجيل التجاذبات".
وأوضح ديلو أنّ "ما يزيد الوضع صعوبة، هو تقاطع الأزمات الصحية والاقتصادية والسياسية"، مشدداً على أنه "لا بدّ من بدء حوار جاد، مسبوق بوقف التراشق الإعلامي والاتفاق على برنامج متكامل تشترك فيه المنظمات الاجتماعية، يكون أفقه انتخابات 2023، ولنسمّه توافق الشجعان، أو اتفاق تغليب المصلحة الوطنية". واعتبر أنّ "الأزمة السياسية خلقت توتراً إضافياً ساهم في تعطيل أعمال البرلمان في مناسبات عديدة، ولكن جذور أزمة مجلس النواب سابقة للأزمة السياسية الحالية، ومرتبطة بتشظّي المشهد البرلماني وهشاشة الأحزاب وظاهرة السياحة البرلمانية (التنقّل بين الكتل وتبدل الولاءات والاصطفافات). وبالطّبع، نحن غير راضين عن أداء البرلمان وخصوصاً الصورة المتردية التي يقدمها مستوى الخطاب والتعامل بين النواب في الجلسات العامة".
زغدود: البرلمان أصبح عاجزاً عن إنجاز مهامه بسبب خلافاته الداخلية والأزمات التي تصدرها له مختلف السلطات الأخرى
في مقابل ذلك، اعتبر النائب المستقل، المكي زغدود، في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ "البلاد تغرق، بينما القيادة السياسية تسرح وتمرح، منشغلةً بحرب الصلاحيات والخلافات حول الاختصاصات، وبتسجيلات وتسريبات أبعد ما تكون عن اهتمامات التونسيين". وأوضح أنّ "أجندة البرلمان لا تتوافق مع تطلعات التونسيين، وخصوصاً في الجهات الداخلية وفي القرى والأرياف في قبلي وتوزر وتطاوين وقفصة، وأعماق البلاد، حيث لا يهتم التونسيون هناك لا بالتعديل الوزاري ولا بالتسريبات والتفاهات".
وأكد زغدود أنّ "التونسيين ينتظرون من مجلس الشعب، معرفة مصيرهم أمام الأزمة الصحية الخانقة، ومصير أبنائهم ومستقبلهم المدرسي، ومساءلة وزير التجارة حول غلاء الأسعار الذي ضرب كل المواد الاستهلاكية وآخرها زيادة سعر الحليب والمحروقات، وتزايد البطالة وارتفاع المديونية التي تجاوزت أكثر من 108% من الناتج الداخلي"، حسب قوله. وأضاف أنّ "البرلمان أصبح عاجزاً عن إنجاز مهامه بسبب خلافاته الداخلية والأزمات التي تصدرها له مختلف السلطات الأخرى"، مشيراً إلى أنّ "الصعوبات التشريعية والانتخابية والتمثيلية تفاقمت، والحل في حوار وطني من أجل إنقاذ البلاد والمؤسسات الدستورية قبل انهيارها".
وفي السياق، دعا القيادي في حزب "الوطنيين الديمقراطيين الموحد"، النائب المعارض منجي الرحوي، إلى حل البرلمان التونسي، وذلك في منشور عبر صفحته بموقع "فيسبوك" قبل أسبوع، تحت عنوان "البرلمان مغارة علي بابا". واتهم الرحوي خصومه في الائتلاف الحاكم بـ"التلاعب بمستقبل التونسيين، واستغلال ثورة الشعب لتحقيق مكاسب شخصية وحزبية".