الانتخابات الرئاسية الروسية: بوتين ينافس نفسه

15 مارس 2024
بوتين في موسكو، 29 فبراير الماضي (ألكساندر زيمليانيشينكو/أسوشييتد برس)
+ الخط -
اظهر الملخص
- فلاديمير بوتين يخوض الانتخابات الرئاسية الروسية للمرة الخامسة كمرشح مستقل، في ظل غياب منافسين جديين، مع تعديلات دستورية تسمح له بالبقاء في السلطة حتى 2036.
- استطلاعات الرأي تظهر دعماً كبيراً لبوتين مع جمعه 1.8 مليون توقيع، فيما يواجه منافسين من الصف الثاني لا يشكلون تهديداً حقيقياً، مما يعكس هيمنته على النظام السياسي.
- بوتين يواجه تحديات خطيرة في ولايته الجديدة، خصوصاً بسبب حرب الاستنزاف في أوكرانيا وتمرد مجموعة "فاغنر"، مع تأثير العقوبات الغربية وضغوطات على استقرار روسيا.

يخوض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بدءاً من اليوم الجمعة وعلى مدى ثلاثة أيام، الانتخابات الرئاسية الروسية للمرة الخامسة، كـ"مرشح مستقل"، بنتيجة مضمونة سلفاً لمصلحته وبأغلبية ساحقة، في ظل عدم وجود أي منافس يتمتع بثقل سياسي أو جماهيري من بين المرشحين الثلاثة الآخرين الذين يترشحون ضده: نيكولاي خاريتونوف وفلاديسلاف دافانكوف وليونيد سلوتسكي، ليكون بوتين عملياً في منافسة مع نفسه.

وبمقتضى إلغاء القيود على الفترات الرئاسية ومدتها في التعديلات الدستورية، التي أقرت باستفتاء في يوليو/تموز 2020، يسمح لبوتين بالترشح لفترتين رئاسيتين إضافيتين، من 6 سنوات لكل منها (بعدما كانت 4 سنوات كل ولاية قبل التعديلات)، تستمران معاً حتى عام 2036، مع ممارسة صلاحيات أوسع تعزز من هيمنته على مفاصل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية.

وضع لم يكن من الممكن الوصول إليه في روسيا لولا سياسة ممنهجة اعتمدها بوتين على مدى السنوات الماضية، أقصت أي منافس حقيقي له من المشهد سواء بالقتل أو النفي، حتى من داخل دائرته الضيقة، وقادت إلى تكريس الحكم الفردي، مما لا يسمح لأي صوت بأن يعلو على صوته، مع حضور شعارات استعادة نفوذ الاتحاد السوفييتي وأمجاد روسيا القيصرية.

وإذا كان تمرد مجموعة "فاغنر" في يونيو/حزيران 2023 شكل المؤشر الأخطر منذ سنوات على ضعف تماسك الجبهة الداخلية الروسية، فإن بوتين سيواجه تحديات كبيرة وخطيرة في ولايته الرئاسية الخامسة، التي تنتهي في عام 2030، ترتبط بالجبهة الداخلية والعلاقة مع الخارج على حد سواء، لا سيما في ظل استمرار حرب الاستنزاف في أوكرانيا، التي دخلت عامها الثالث.

3 أيام من الانتخابات الرئاسية الروسية

ويتوجه الناخبون الروس إلى صناديق الاقتراع اليوم الجمعة، للمشاركة في عملية انتخابية تستمر لثلاثة أيام، هي الخامسة لبوتين منذ توليه السلطة في عام 2000، حين انتُخب للمرة الأولى لولاية من 4 سنوات.

وأُعيد انتخابه ولاية ثانية بين عامي 2004 و2008. وقبل التعديلات الدستورية في عام 2020، كان ممنوعاً على أي رئيس روسي تولي الرئاسة لأكثر من ولايتين متتاليتين، مما دفع بوتين إلى الاتفاق مع رئيس الوزراء في حينه، دميتري ميدفيديف، ليُنتخب الأخير رئيساً للفترة بين عامي 2008 و2012، بينما تولى بوتين رئاسة الوزراء خلال تلك الفترة، لكنه كان عملياً الحاكم الفعلي لروسيا.

وميدفيديف يتولى حالياً منصب نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي. وفي عام 2012، عاد بوتين للرئاسة لولاية ثالثة من 6 سنوات هذه المرة، بموجب تعديلات دستورية أُقرّت في عام 2008، تضمنت جعل مدة الولاية الرئاسية 6 سنوات بدلاً من 4.


دجّن بوتين النخب في موسكو على مدى ربع قرن

وكشف استطلاع للرأي، نظمته مؤسسة عموم روسيا لدراسة الرأي (فيتسوم) الحكومية عبر الهاتف يومي 2 و3 مارس/آذار الحالي، ونشرت نتائجه في 4 مارس الحالي، أن 70 في المائة من الناخبين سيشاركون في الانتخابات الرئاسية الروسية بالإضافة إلى 10 في المائة قالوا إنهم سيصوتون على الأرجح.

وحسب نتائج الاستطلاع، أكد 75 في المائة من المستطلعين أنهم سيصوتون لصالح بوتين، وهي نسبة أقل بـ4 في المائة من استطلاع مماثل للمؤسسة أُجري في 15 فبراير/شباط الماضي. لكن نسبة المشاركة والأصوات الممنوحة لبوتين وفق هذين الاستطلاعين، تتوافق بالكامل مع مخططات الإدارة السياسية في ديوان الكرملين لإظهار مدى "نجاعة الديمقراطية الروسية" و"الشعبية الكبيرة" التي يتمتع بها بوتين.

منافسون من الصف الثاني

وجمع بوتين 1.8 مليون توقيع باعتباره مرشحاً مستقلاً في انتخابات 2024، ويقضي قانون الانتخابات الرئاسية الروسية بأن يجمع كل مرشح من خارج الأحزاب الممثلة في البرلمان (الدوما) 300 ألف توقيع، كشرط لتقديم أوراق ترشحه إلى لجنة الانتخابات المركزية، التي تتمتع بصلاحيات قبول طلبات الترشح أو رفضها.

وأكدت رئيسة اللجنة إيلا بامفيلوفا أنها تلقت 29 طلب ترشح، قبلت منها 4 طلبات فقط بما فيها طلب بوتين. ويشار هنا إلى أن تقديم بوتين لنفسه كمرشح مستقل، على الرغم من تأييد حزب "روسيا الموحدة" الحاكم له، المقصود منه وضع نفسه فوق الأحزاب بقاعدة شعبية عريضة عابرة لكل الأحزاب والتيارات وشرائح المجتمع.

المرشحون الثلاثة الذين قبلت طلباتهم إلى جانب الرئيس بوتين هم من الأحزاب النظامية الممثلة في البرلمان هم، فلاديسلاف دافانكوف وهو نائب رئيس مجلس الدوما ممثلاً عن حزب "أناس جدد"، الذي تمثل للمرة الأولى في البرلمان بالانتخابات التشريعية عام 2021 وحل خامساً في الترتيب.

كما يشارك في التنافس الصوري ليونيد سلوتسكي رئيس الحزب الديمقراطي الليبرالي ثالث أكبر حزب في البرلمان. وتسلم سلوتسكي رئاسة الحزب بعد وفاة مؤسس الحزب فلاديمير جيرينوفسكي في إبريل/نيسان 2022 إلى جانب نيكولاي خاريتونوف مرشحاً عن الحزب الشيوعي، ثاني الأحزاب الممثلة في البرلمان.

وكان خاريتونوف قد ترشح في انتخابات 2004 ضد بوتين وحصل على 13.8 في المائة من الأصوات. وامتنع حزب "روسيا العادلة – من أجل الحقيقة"، رابع أكبر حزب في البرلمان، الدفع بمرشح خاص وأكد دعم بوتين.

ويلاحظ أن المرشحين الثلاثة يعتبرون من الصف الثاني، مما يشكل عامل عدم رضا لدى الكرملين، بعزوف زعيم الحزب الشيوعي غينادي زيوغانوف عن ترشيح نفسه، وكذلك زعيم حزب "أناس جدد" أليكسي نيتشايف.

وبالنسبة لرئيس الحزب الديمقراطي الليبرالي ليونيد سلوتسكي فهو غير معروف على نطاق واسع، ولذلك كان لافتاً أن أحد الشعارات المهمة في حملة انتخابية "قضية جيرينوفسكي ما زالت حية"، لاجتذاب التيار الشعبوي المؤيد لجيرينوفسكي بالإضافة للأصوات الاحتجاجية، التي كان يحصل للحزب الليبرالي عادة في الشرق الأقصى الروسي الفقيرة والمهملة.

وتعكس خيارات الأحزاب في مواجهة بوتين، وخوضها الانتخابات الرئاسية الروسية تحت السقف الذي يحدده، الحال الذي وصل إليه النظام السياسي الروسي خلال ما يقارب من ربع قرن على حكم بوتين، من تدجين للنخب السياسية والحزبية المعارضة، واستبعاد من يغامرون بالتغريد خارج السرب، وسجنهم أو تصفيتهم إذا لزم الأمر.


منافسو بوتين بالرئاسيات يتحاشون توجيه أي نوع من النقد له

وبدا واضحاً أن المرشحين الثلاثة يتحاشون توجيه أي نوع من النقد لبوتين، ويؤيدون الحرب على أوكرانيا، الأمر الذي أفرغ المعركة الانتخابية من أي مضامين سياسية جدية، بعدما استبعدت لجنة الانتخابات المركزية المرشح بوريس ناديجدين والإعلامية التلفزيونية السابقة يكاترينا دونتسوفا، رغم أن فرصهما كانت شبه معدومة في تحقيق نتيجة وازنة.

ووجودهما على قائمة المرشحين، من شأنه أن يثير جدلاً حول الموقف من الحرب على أوكرانيا والتعديلات الدستورية والحريات العامة وقضية والسجناء السياسيين، وهذا ما لا يريده بوتين.

لجنة الانتخابات المركزية عللت رفضها لطلب ترشح ناديجدين بارتكاب مخالفات في جمع المائة ألف توقيع اللازمة لقبول طلبه كمرشح مستقل. وادّعت اللجنة وجود أخطاء في المستندات التي قدمتها دونتسوفا لتسجيل ترشيحها، تحديداً بعدم تذييلها بالتواقيع الصحيحة.

عقود من مسار البوتينية

في مؤشر إلى الحالة التي وصلت روسيا إليها بعد نحو 24 عاماً من تولي بوتين الحكم الفعلي في البلاد، قال المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف في 17 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي: "قلنا مراراً وتكراراً إن الرئيس بوتين هو، بالطبع، السياسي ورجل الدولة رقم واحد في بلدنا. ورأيي الشخصي، على الرغم من أنه ليس لدي الحق في قول ذلك، ولكن، بالخروج عن القواعد، أستطيع أن أقول إنه في الوقت الحالي ليس لديه منافسون ولا يمكن أن يكون له أي منافسين في روسيا الاتحادية".

وبعدها بشهر تماماً، قال بيسكوف رداً على سؤال حول مواصفات الرئيس المقبل لروسيا، إنه يجب أن "يكون مثل بوتين، أو أي شخص آخر لكن مثله". ورغم تأكيده أن بوتين لم يقرر نهائياً الترشح للانتخابات الروسية لعام 2024، أكد بيسكوف في حينه، في حوار مع طلاب معهد موسكو للعلاقات الدولية، أنه "ليس لدي شك في أنه سيفوز في الانتخابات، وليس لدي شك في أنه سيستمر في كونه رئيسنا".

ولتكريس نظام الحكم الفردي، استخدم بوتين عدة أدوات من ضمنها التعديلات الدستورية كوسيلة لتمديد فترات حكمه، وإحكام القبضة على مفاصل السلطة، بدءاً من تمديد الفترة الرئاسية من 4 إلى 6 سنوات بموجب تعديلات 2008، فإن تعديلات 2020 "صفّرت" عدّاد الفترات الرئاسية السابقة، وسمحت لبوتين بالترشح لولايتين متتاليتين، مما يسمح له بالبقاء نظرياً حتى 2036.


أجرى بوتين تعديلات دستورية عدة لإحكام سيطرته

وبدأ بوتين ضابط المخابرات السابق الصعود إلى رئاسة الهرم السياسي في نهاية تسعينيات القرن الماضي بسرعة لافتة. ومعلوم أن روسيا عاشت في تسعينيات القرن الماضي حالة من الفوضى السياسية والأمنية العارمة، والنزعات الانفصالية، إثر صدمة الانتقال بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، في ظل نظام الحكم المتهالك للرئيس بوريس يلتسين، وتدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية لغالبية الروس، وتوحش جماعات الأوليغارشيين الجدد الذين اغتنوا من خلال عمليات الاستيلاء على مؤسسات القطاع العام ونهب الثروات واستشراء الفساد.

حتى وصلت الأوضاع إلى عتبة الانفجار بعد ثماني سنوات من حكم يلتسين، ومع تدهور صحته بدأت عملية البحث عن بديل، فوقع الاختيار على بوتين، الذي دفع به يلتسين والحلقة المقربة منه كرئيس للوزراء، في أغسطس/ آب 1999.

وفي 31 ديسمبر/ كانون الأول من العام ذاته كتب السطر الأخير من سنوات يلتسين في الحكم، باستقالته وتسليم زمام الحكم لبوتين كقائم بأعمال الرئاسة، وبانتخاب بوتين رئيساً جديداً، في مايو/ أيار 2000، عبرت روسيا نحو فصل جديد من تاريخها أسس فيه بوتين لحكم الرجل الواحد، تحت شعارات استعادة نفوذ الاتحاد السوفييتي وأمجاد روسيا القيصرية.

وانصبت جهود بوتين في الولايتين الرئاسيتين الأولى والثانية بين عامي 2000 و2008، على إنهاء ملف التمرد في الشيشان، وإعادة بناء شبكة العلاقات مع بلدان الاتحاد السوفييتي السابق كأرضية جيوسياسية لاستعادة نفوذ السوفييت السابق مع مزيج من النزعة الإمبراطورية الروسية.

كما فرض بالتدريج سطوته على البرلمان وعلى المقاطعات والمناطق الروسية والجمهوريات التي تتمتع بالحكم الذاتي، وقام بتعيين مقربين منه. وألغى الانتخابات الإقليمية لحكام الأقاليم في عام 2004، واستعاض عنها باقتراح قائمة من ثلاثة مرشحين ينتخب من بينهم البرلمانات الإقليمية حاكماً للإقليم.

ولم يدم الوفاق بين بوتين ومراكز القوى (نخبة الكرملين) في عهد يلتسين، من أوليغارشيين وإصلاحيين موالين للغرب، فأطاح بمن رفضوا الرضوخ له الواحد تلو الآخر، على سبيل المثال لا الحصر: إبعاد بوريس بيريزوفسكي في عام 2000، وسجن ميخائيل خودوركوفسكي بتهمة الاحتيال الضريبي 2003، وسيرغي بولونسكي بتهمة اختلاس الأموال في عام 2008، وآخرين.

وبالمقابل تم تطويع العديد من الأولغارشيين الجدد مثل أليشر عثمانوف وأندريه ميلينشينكو ورومان أبراموفيتش ويوري ميلنر وميخائيل فريدمان وغيرهم.


تُشكّل حرب أوكرانيا معياراً لاستمرار البوتينية

ومنذ الأشهر الأولى لتسلمه الحكم، تحرك بوتين ضد وسائل الإعلام الروسية المستقلة التي كانت تنتقد الكرملين، ففي مايو 2000 دهمت شرطة الضرائب مكاتب شبكة "إن تي في" الإخبارية المستقلة، التي كان يشاهدها آنذاك حوالي 100 مليون شخص، وتواصل بعدها استهداف وسائل الإعلام المستقلة الأخرى.

وبوضع يده على وسائل الإعلام المستقلة أصبح الكرملين يفرض رقابة صارمة على ما يتم عرضه على الجمهور الروسي، علماً أن هناك نحو 3 آلاف قناة تلفزيونية في روسيا، بما فيها قنوات على مستوى الأقاليم والمناطق، يتجنب معظمها التعامل مع الشؤون السياسية أو الأخبار الحساسة، خارج القوالب الإعلامية التي يسمح بها الكرملين، مثل تغطية وقائع الحرب على أوكرانيا.

ورغم كل ما سبق كانت وما زالت الأغلبية في روسيا ترى أن بوتين استطاع أن يبني دولة قوية ومستقرة، وأنه لا يوجد بديل عنه يستطيع الدفاع عن مصالح روسيا.

تصفية المعارضين

قتل العديد من المعارضين أو المنتقدين بقوة لنظام حكم بوتين في عمليات أشارت فيها أصابع الاتهام إلى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي "أف أس بي" (المعروف بكونه وريث جهاز كا جي بي السوفييتي)، ومنهم على سبيل المثال: زعيم حزب روسيا الليبرالية سيرغي يوشينكوف، الذي قُتل بإطلاق نار عليه أمام منزله بموسكو، في إبريل 2003.

واغتيل يوشينكوف على خلفية دعمه إجراء تحقيق في احتمال تورط جهاز الأمن الفيدرالي الروسي في سلسلة تفجيرات وقعت في عام 1999 في مناطق سكنية في موسكو وبويناكسك وفولغودونسك، أسفرت عن مقتل 307 أشخاص وجرح أكثر من 1700 آخرين، واتُهمت مجموعات شيشانية بارتكابها، وهي التفجيرات التي استغلها بوتين لشن حرب الشيشان الثانية (دارت المعارك الكبرى بين عامي 1999 و2000، فيما استمرت المناوشات حتى عام 2009)، والبروز بمظهر المدافع عن وحدة البلاد ضد النزعات الانفصالية.

واغتيلت الصحافية الاستقصائية آنا بوليتكوفسكايا، في أكتوبر 2006، على مدخل مبنى شقتها في وسط موسكو، بسبب انتقاداتها للحرب التي شنها بوتين على الشيشان. وفي العام نفسه تم تسميم الجاسوس الروسي السابق ألكسندر ليتفيننكو، بعنصر البولونيوم في كوب من الشاي، في أحد فنادق العاصمة البريطانية لندن.

واغتيل نائب رئيس الوزراء السابق بوريس نيمتسوف في فبراير 2015، بإطلاق الرصاص عليه وعلى صديقته الأوكرانية آنا دوريتسكايا، قرب الكرملين، لكن صديقته نجت. وقبل نحو شهر من الانتخابات الرئاسية الروسية الحالية توفي أليكسي نافالني معارض الكرملين الأشرس في السنوات الأخيرة، وسط اتهامات بتصفية متعمدة للمعارض في سجن قرب القطب الشمالي.

من التودد للغرب إلى الصدام معه

اتبع بوتين في ولايته الرئاسية الأولى سياسة منفتحة على الغرب، وحاول استثمار أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001 التي هزت الولايات المتحدة، في تقديم روسيا كشريك مع الغرب في مكافحة الإرهاب الدولي، في تحول وُصف حينذاك بالتوجه نحو "الاندماج في الفضاء الغربي"، إلا أن استمرار توسع حلف شمال الأطلسي شرقاً، وخيبة أمل بوتين من النتائج الذي تمخضت عن هذا التحول، دفعا الرئيس الروسي إلى إدخال تعديل على سياسته الخارجية، بالجمع بين التوجه الأوراسي مع إبقاء الأبواب مفتوحة على الغرب.

لكن مساحة الانفتاح على الغرب أخذت تضيق بسرعة، وأعلن بوتين في مؤتمر ميونخ للأمن، في فبراير 2007، تخليه عن توطيد العلاقات مع الولايات المتحدة، والعمل على أن تكون لروسيا سياسة خارجية نشطة، واستعادة دورها ومكانتها وحضورها دولياً، في سياق إعادة السعي لتوازنات دولية جديدة، تقوم على التعددية القطبية.


قُتل العديد من المعارضين لبوتين في روسيا وخارجها

في السياق، لجأت روسيا لاستخدام قوتها العسكرية بشن حرب خاطفة على جورجيا، في أغسطس 2008، سلخت بنتيجتها أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا عن جورجيا. وتكرس هذا النهج في السيطرة على شبه جزيرة القرم الأوكرانية في مارس 2014، ودعم الانفصاليين في إقليم دونباس (يضم منطقتي لوغانسك ودونيتسك).

وشكل التدخل العسكري الروسي المباشر في سورية، في سبتمبر/أيلول 2015، سابقة من نوعها في السياسة الروسية، لكنها تندرج في التغيرات السياسة الخارجية للكرملين.

وباندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا، في فبراير 2022، دخلت روسيا في صراع مفتوح مع الغرب، يترتب عليه تعقيد العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة وبلدان الاتحاد الأوروبي، والمشهد الدولي ككل، في وقت تتزايد فيه التحذيرات من احتمال حدوث صدام عسكري مباشر بين روسيا وحلف شمال الأطلسي.

اختبار البوتينية

أرسى بوتين نظام حكم في البلاد يكون فيه الشخصية المركزية، وتصعب إدارة روسيا من دونه، ولا يسمح ببروز منافس له، مما ينعكس على نتائج الاستطلاعات بتفرد بوتين وحيداً بفارق كبير في الصدارة من حيث مؤشرات الثقة أو توقعات التصويت له.

واستطاع كسب دعم كبير في معركته لمنع انهيار روسيا وإنهاء التمرد في القوقاز، وساعدته أسعار النفط والتودد للغرب في تحسين اقتصاد روسيا ورفعه إلى مصاف أكبر خمسة اقتصادات في العالم حتى 2008. وباستغلاله العامل القومي وعودة أمجاد السوفييت والإمبراطورية الروسية، جذب بوتين شرائح شعبية إضافية بعد ضم القرم في 2014.

مما لا شك فيه أن الانتصار في الحرب على أوكرانيا يمثل الهدف الرئيسي لبوتين في المدى المنظور، إلا أن هدفه على المدى البعيد هو تكريس البوتينية في النظام السياسي الروسي لضمان استمراريتها. لكن من الصعب فصل هذا الهدف عن تداعيات الحرب الأوكرانية وما ستؤول إليه في نهاية المطاف.

وليس من المبالغة القول إن مصير بوتين وحكم التاريخ عليه يرتبط بالحرب على أوكرانيا. فإلحاق الهزيمة بروسيا سيصدع الجبهة الداخلية الروسية، حيث مثّل تمرّد "فاغنر" في يونيو 2023 مؤشراً خطيراً على ضعف تماسك الجبهة الداخلية الروسية.

وحتى الآن لم تفلح العقوبات الغربية غير المسبوقة في انهيار الاقتصاد الروسي ولكن استمرار النفقات المرتفعة للحرب، وتخصيص كل الموارد من أجل المعركة سترهق الاقتصاد الروسي على المديين المتوسط والبعيد، وتعيد إلى الأذهان انهيار الاتحاد السوفييتي الذي هيمن على نحو نصف العالم وامتلك أسلحة متقدمة حينها، لكنه انهار لأسباب من ضمنها، الجمود والحرب في أفغانستان وتراجع أسعار النفط. وحالياً قد تغوص روسيا في وحل أوكرانيا، وبروز الاقتصاد كـ "كعب أخيل" بوتين الباحث عن أمجاد السوفييت والأباطرة في عصر تغيرت فيه معايير القوة كثيراً.