الانتخابات البرلمانية المبكرة في الجزائر صارت أمراً واقعاً، مثلها مثل الرئيس والدستور الجديد. وعلى هذا الأساس يصبح النقاش حول مشروعيتها من عدمه مسألة جرى تجاوزها زمنياً، في مقابل النقاش الأخطر حول المآلات. ما تدركه السلطة، وما هو متفق عليه بين جميع المكونات السياسية والمدنية وتحاليل الخبراء الفاحصين للحالة الجزائرية المتراخية سياسياً واقتصادياً، أن هذه الانتخابات، وبما اعتراها من مشكلات ورفض الحراك لها كمسار سلطوي مفروض، تبقى الفرصة الأخيرة للسلطة وللجزائر.
إذا كان دفع البلد إلى خيارات استراتيجية غير مدروسة في العقدين السابقين خاصة، والتلاعب بالمسارات السياسية، وتزوير نتائج الانتخابات والمحاصصة في السابق، قاد البلاد إلى نكبة تتلوها نكبة، ومأزق يتبعه مأزق، وأزمة تلد أخرى، فإن عدم استيعاب هذه الدروس المؤلمة، في هذه المرحلة الدقيقة، وفي ظل متغيرات عميقة حدثت في الشارع وداخل المجتمع السياسي، وفي ظروف بالغة التعقيد من الإكراهات الاجتماعية والاقتصادية المحلية، والتحديات الإقليمية المتحركة، يضيف رصيداً من الهشاشة والفخاخ، ويقضي على ما تبقى من عوامل بقاء الدولة.
ما هو ثابت بالنسبة للجميع، أن الوقت لم يعد مناسباً "للفانتازيا" السياسية، وتجربة حلول غير مدروسة. السلطة نفسها تبدو في الظاهر مستوعبة لذلك وحذرة، إذ إن 29 مليار دولار هو كل ما تبقى في الخزينة العمومية من احتياطي الصرف، وهو مقدار قد يفي بالحد الأدنى من حاجات البلاد حتى نهاية العام المقبل. لكن هذا الأمر لن يوفر أية أريحية مالية واقتصادية للجزائر، ولا يمنح للسلطة أية فرصة لشراء السلم الاجتماعي، كما كان الوضع عليه خلال استفحال الأزمة المالية في 2018، ولا يعطي أي متنفس اجتماعي للجزائريين. بل على العكس من ذلك تماماً، يخنق الطبقة المتوسطة أكثر ويطحن المستويات الفقيرة. ومثل هذا الوضع لا يفكه رئيس، أو حكومة، أو حزب، أو تيار بمفرده.
لذلك، ومن دون حكومة إنقاذ وطني، وبرنامج يحدد الأولويات المستعجلة، ورؤية تشترك في صياغتها الفواعل الوطنية بتجرد تام يستبعد الذات والحسابات، سيكون من الصعب على الجزائر الخروج من المأزق الراهن. كما أن كل محاولة لإعادة إنتاج المقاربات الخاطئة والمضللة، وتحت أي عنوان كان، من قبيل "الرئيس المُنزل"، و"أنا وحدي أضيء البلد"، وباقي المسميات التي كانت السبب الرئيس في دفع الجزائريين إلى الشارع، في فبراير/شباط 2019، ستكون الوبال الذي لا قِبل للبلد به.
بكل المعايير، تُعد انتخابات 12 يونيو/حزيران الحالي فرصة أخيرة للجزائر. للسلطة أولاً لإثبات نيتها بإحداث التغيير، وإن كانت هذه النية مشوشة ومرتبكة في الوقت الحالي، وبإفساح المجال للمؤسسات النيابية للعب دورها كاملاً في الرقابة على الحكومة وتسيير الشأن العام، وتنفيذ التزامها بالقطيعة مع الممارسات السابقة، على ما في تنفيذ هذا الأمر من صعوبة، بسبب المقاومة التي تبديها جيوب ومستويات متعددة من السلطة نفسها، ترى في التغيير نسفاً لمصالحها. والانتخابات، على ما فيها من أعطاب سياسية، فرصة أخيرة، بعدها لن يبقى للجزائر ذخيرة، وللجزائريين رصيد من الصبر.