على غير عادته، نشر جيش الاحتلال الإسرائيلي، مساء الأربعاء، مقاطع مصورة وإحداثيات لمناطق سكنية وخدمية ومساجد في قطاع غزة على أنها تضم أو بالقرب منها معامل لإنتاج الأسلحة والتدريب للجناح العسكري لحركة "حماس"، في خطوة لم يسبق له فعلها على الجانب الفلسطيني.
ويحرص جيش الاحتلال عادة على إبقاء بنك الأهداف غامضاً لمفاجأة الفلسطينيين خلال الحروب والاعتداءات ما بينهما، ولتسجيل أكبر قدر من الخسائر في مقدرات المقاومة وبنيتها التحتية ومصانعها ومعامل إنتاجها.
تحريض على غزة وإبعاد المانحين
وتأتي الخطوة الإسرائيلية في سياق مستمر من التحريض على القطاع، ولمحاولة إبعاد المزيد من المانحين والممولين للمشاريع الخدمية عن تنفيذ أو الاستمرار في تنفيذ مشاريع يمكنها تحسين الظروف المعيشية لأكثر من مليوني فلسطيني، إضافة إلى استغلال الظروف الاقتصادية والمعيشية القاسية في غزة المحاصرة للتحريض على المقاومة، ومحاولة افتعال الأزمات من حولها وتأليب الرأي العام ضدها.
ومنذ انتهاء معركة "سيف القدس" في مايو/أيار من العام الماضي، يحرص الاحتلال الإسرائيلي على تشديد حصار غزة وافتعال الأزمات في القطاع، للتحريض أكثر على المقاومة، ولإبعاد الفصائل عن ترابط الساحات الفلسطينية التي كانت جزءاً من نتائج المعركة التي انطلقت للدفاع عن المسجد الأقصى وحيّ الشيخ جراح، في وجه التهويد والاستيطان والاعتداءات.
برهوم: الإشاعات والأكاذيب لن تفلح في النيل من إرادة الشعب الفلسطيني وأهالي القطاع
وسارعت حركة "حماس" إلى نفي الادعاءات الإسرائيلية، وقالت إنه لا أساس لها من الصحة، وتأتي في إطار الحرب النفسية المتواصلة للإضرار بالمقاومة وحاضنتها الشعبية، وتأليب الرأي العام عليها.
وربط المتحدث باسم الحركة، فوزي برهوم، المقاطع المنشورة بمحاولات تأليب الفلسطينيين على المقاومة، مؤكداً أن "هذه الإشاعات والأكاذيب لن تفلح في النيل من إرادة الشعب الفلسطيني وأهالي القطاع".
ومنذ أيام، يجري الحديث في قطاع غزة عن انزعاج فصائل المقاومة، وخصوصاً حركة "حماس"، من استمرار التباطؤ في الإعمار وتشديد الحصار، على عكس ما اتُفق عليه في مباحثات ما بعد معركة "سيف القدس".
وبات يتضح من هذا الحديث أن المقاومة قد تذهب إلى خطوات تصعيدية تدريجية لوقف المماطلة الإسرائيلية ولدفع الوسطاء إلى تحركات أكثر جدية لإنهاء الأزمات العالقة.
ويسجل هذه الأيام أطول فترة غياب للوسطاء عن قطاع غزة، وباتت إسرائيل مع هذا الغياب تربط كل "التسهيلات" التي تقدّمها لسكان غزة بالأوضاع الأمنية والتوتر، وتبحث عن هدوء مقابل تسهيلات أقل من المطلوب فلسطينياً.
أزمة سياسية عميقة في إسرائيل
ويقول الخبير في الشأن الإسرائيلي، سعيد بشارات لـ"العربي الجديد"، إن دولة الاحتلال تعيش أزمة سياسية عميقة جداً، وأزمة أمن، خصوصاً بعد تقرير مراقب الدولة، الذي صدر أول من أمس الأربعاء وتعاني من ضائقة أمنية داخلية، وأزمة أمنية خارجية مع لبنان وقطاع غزة، وأزمة رئاسة الأركان، وهذه الأزمة الشاملة تحاول ترحيلها إلى الفلسطينيين لإشغالهم.
ويشير بشارات إلى أن الاحتلال يشن حملة ضد الفلسطينيين ككل، ويريد أن يربك الحالة الفلسطينية، لإلهائهم عما يعيشه من حالة عدم استقرار داخلي، موضحاً أن الاحتلال لم يتوقف يوماً عن إطلاق التهديدات ضد الفلسطينيين وفصائل المقاومة والتحريض عليها.
بشارات: الاحتلال يريد إرباك الفلسطينيين، لإلهائهم عما يعيشه من حالة عدم استقرار داخلي
ووفق بشارات، يحاول الاحتلال عبر المقاطع التي نشرها، نزع الحاضنة الشعبية عن المقاومة، وإيهام الفلسطينيين بأنها قلق عليهم، موضحاً أن الاحتلال يسعى لنزع غطاء الشرعية عن كل مؤسسة وحتى عن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين "الأونروا" والدول التي تدعم السلطة الفلسطينية أو غزة أو "حماس" أو الشعب الفلسطيني.
ويشير إلى أن هذا مخطط قديم لرئيس الحكومة السابق بنيامين نتنياهو لإحداث حالة من القلق لدى هذه المؤسسات، ولحرمان الفلسطينيين من هذا الدعم ومقومات الحياة، وإيصالهم للركوع بعد استنفاد كل أدواته وفشله فيها.
ويوضح أن الاحتلال وضع بعد معركة "سيف القدس" توصيات تخصّ الإقليم من إيران حتى المغرب، خصوصاً أن غزة في المعركة خلقت معادلة تخص المنطقة كلها، وتسعى إسرائيل لتقويض مساحة العمل هذه، في ظل رفع القطاع لراية ترابط الساحات "الممنوع إسرائيلياً رفعها".
ويبين بشارات أن هناك خطة إسرائيلية واضحة لقتل وسحق غزة، لكن ما يقلق الاحتلال أن النتيجة للخطط السابقة كانت عكسية، فأراضي الـ48 يتوقع أن تكون ساحة حرب كما يُذكر في تقرير مراقب الدولة، والاحتلال طوال عقدين لم ينجح في الضفة الغربية، وعمل على غزة بوسائل الضغط النفسي والاقتصادي والعسكري وفشل أيضاً في غزة.
من حهته، يعتقد المحلل السياسي حاتم أبو زايدة، في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ ما نشره الاحتلال ربما يكون تمهيداً لضرب هذه المناطق، خصوصاً أن الاحتلال عادة لا يسرب بنك أهدافه، موضحاً أن وزير الأمن الإسرائيلي بني غانتس قام قبل يومين بجولة في "غلاف غزة" وقال إن إسرائيل ستمنع تعاظم القوى العسكرية في غزة.
ويشير أبو زايدة إلى أن ما نشره الاحتلال "تهديد واضح لغزة، إضافة إلى الجانب الإعلامي والسياسي وللتحريض على المقاومة، والضغط على الأونروا والمنظمات الدولية للتحرك"، مبيناً أن "إسرائيل تلجأ إلى مواجهة المقاومة من دون الوصول إلى حالة حرب، من خلال استهداف البنية التحتية ومنع تعاظم قوتها، والضغط على السكان".
ويلفت أبو زايدة إلى سياسة إسرائيلية بعد معركة "سيف القدس"، عبر حصار المقاومة وتشديد الحصار على الفلسطينيين، والحرب منخفضة الوتيرة، وحصارها مالياً وإقليمياً ودولياً، غير أنه ينبه إلى أن "إسرائيل تدرك تماماً أنه إذا حشرت المقاومة في الزاوية فلن يكون أمامها غير التصعيد، وإذا خُيّرت بين الموت جوعاً أو الموت من الحرب، تفضّل الموت في الحرب".