الاحتجاجات التونسية: الحل ليس أمنياً

19 يناير 2021
من الاحتجاجات التي شهدتها ضواحي تونس العاصمة ليل الأحد (فتحي بلعيد/فرانس برس)
+ الخط -

احتجاجات ليلية في أغلب المدن والأحياء المهمشة، مواجهات مع الشرطة وقنابل مسيّلة للدموع، نهب لمحال تجارية، قبل أن يتدخّل الجيش لحماية المنشآت العامة ومقار الدولة ويوقف مئات القصّر والشباب. هذا المشهد الذي عرفته تونس في الأيام الأخيرة، ليس جديداً، بل يتكرر بتفاصيله تقريباً منذ سنوات، ليكشف عن الأزمة التي تعيشها البلاد بوضوح، ويطلق مرة أخرى صفارات إنذار لوضع لم تعد الفئات الضعيفة قادرة على تحمّله، مع استمرار المطالب ذاتها منذ ديسمبر/كانون الأول 2010 ومنها توفير فرص العمل والكرامة.
وبينما يعود الهدوء نهاراً إلى المناطق التي تشهد احتجاجات ليلية، إلا أن أحداً لا يستطيع اليوم التكهن بتطورات الأحداث وما يمكن أن تقود إليه هذه المرة، لأن الأزمة عميقة وتكرارها وشموليتها ينبهان إلى أن استفحالها وتوسعها قد يفرضان واقعاً جديداً، خصوصاً أن وعود تحسين الأحوال الاقتصادية لم تعد تقنع الكثيرين، فيما السلطة لا تقدم جواباً مفيداً للأزمة وتكتفي بالرد الأمني، بينما تلجأ بعض الأحزاب إلى نظرية المؤامرة وتبادل التهم على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي.

مشهد متكرر
قبل الاحتجاجات الدائرة هذه الأيام، كان 26 مارس/آذار 2020، وقبله 10 و11 و12 يناير/كانون الثاني 2018، و26 ديسمبر 2018، والكثير من التواريخ الأخرى التي شهدت خروج الشباب إلى الشوارع ليلاً للاحتجاج بالطريقة نفسها، وكانت ردود الفعل تقريباً نفسها، بما يعني اجترار أوجه الأزمة وتكرار الاستجابة الأمنية نفسها وردود الفعل السياسية والمجتمعية بكل تفاصيلها.

المواطنة خديجة منصور، من حي التضامن في العاصمة الذي شهد مواجهات قوية مع الشرطة ليلة الأحد-الإثنين، قالت لـ"العربي الجديد" إنهم قضوا ليلة صعبة مساء الأحد بسبب رائحة الغاز الذي تسرب إلى بيوتهم والتراشق المستمر بالحجارة، مؤكدة أن الوضع سيئ. وقالت إن منطقتها "تشهد هدوءاً حذراً في النهار ولكن مع انطلاق حظر التجول تتجدد المواجهات بين الشباب الغاضب وقوات الأمن"، مشيرة إلى أن أغلب الشباب في حي التضامن وابن خلدون وحي الانطلاقة مهمشون ويعانون البطالة، وزاد الحجر الصحي الشامل في إحالة حتى من يعمل منهم إلى البطالة. وأضافت أن زوجها يعمل في مصنع إيطالي والعمال مهددون بالبطالة ولم يحصلوا على منحهم (مستحقاتهم المالية)، ويومياً يتم طرد العديد من العمال، أما ابنها فمرة يعمل وأخرى لا، وقريبها وهو رب أسرة وجد نفسه بلا عمل بسبب كورونا. وهذه عينة للعديد من الأسر في حي التضامن، ولذلك هي تتفهم غضب الشباب وتحركاتهم الغاضبة.

من جهته، قال الناشط وعضو التنسيقية الوطنية للحركات الاحتجاجية في سيدي بوزيد، عبد الحليم حمدي، في تصريح لـ"العربي الجديد" إن مدينة منزل بوزيان في سيدي بوزيد (انطلقت منها الاحتجاجات زمن الثورة) نظّمت مسيرة نهارية سلمية أمس الإثنين رداً على تشويه التحركات الليلية والتي تتحمّل مسؤوليتها السلطة. وأوضح أن "الحق في الاحتجاج والتظاهر أصبح يُجرَّم فظهرت هذه التحركات الليلية، خصوصاً بعد قمع العديد من التحركات النهارية في القصبة (أمام مبنى الحكومة) وفي مناطق أخرى، وبالتالي فالاحتجاج لا توقيت له". واعتبر أن الحديث عن أنّ "التحركات الليلية غير مناسبة مردود لأصحابه، لأن سيدي بوزيد ومناطق أخرى عرفت في أواخر فترة المخلوع زين العابدين بن علي تحركات ليلية وحرقاً للإطارات المطاطية، وبالتالي فهذا التحرك هو من شباب غاضب على السياسات الاقتصادية والاجتماعية للسلطة"، مضيفاً أن المطالب معلّقة منذ 17 ديسمبر 2010. وشدد حمدي على أن "السلطة مسؤولة عن أمن الناس، ولا يمكن المقايضة بين الأمن والحقوق الاقتصادية والاجتماعية، والدولة تتحمّل مسؤوليتها، خصوصاً أن هناك عدة احتجاجات حصلت نهاراً وقوبلت بالتجريم"، معتبراً أن "مناخ حرية التعبير أصبح مكبلاً ولهذا كانت التحركات الليلية، ولكن يجب أن تبقى سلمية".

لا أحد يستطيع اليوم التكهن بتطورات الأحداث وما يمكن أن تقود إليه هذه المرة

وفي مشهد آخر يصوّر عمق الأزمة وشموليتها، توجّه الرئيس التونسي قيس سعيّد يوم السبت الماضي، إلى مقر وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في العاصمة، حيث ينفذ عدد من الدكاترة العاطلين عن العمل إضراباً عن الطعام، للمطالبة بحقهم في الانتداب. وجاءت زيارة سعيّد بعد تدهور صحة عدد منهم، ما حتّم نقل بعضهم إلى المستشفى. ويصور هذا المشهد حقيقة الأوضاع المتردية التي طاولت جميع الفئات بلا استثناء، ما ضيّق أفق الأمل لدى كثيرين ودفعهم إلى الحلول القصوى، مثل الإضراب عن الطعام، والهجرة السرية في بحر مضطرب يؤدي غالباً إلى الغرق، واحتجاج عنيف ومحاولة لفرض واقع جديد يُسمع أصوات المتضررين إلى سلطة لا تنصت بما فيه الكفاية وتنشغل بتفاصيل هامشية.

أزمة عميقة
المسؤول عن الإعلام في المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، رمضان بن عمر، قال في تصريح لـ"العربي الجديد"، إن ما يحصل من تحركات هو تعبير عن غضب اتخذ أشكالاً عنيفة في بعض المناطق، ويكشف عمق الأزمة التي تمرّ بها البلاد، وهي ليست أزمة اقتصادية واجتماعية فقط بل سياسية أيضاً، ومنها الهروب الرسمي من إبداء موقف مما يحدث، فبعد ثلاثة أيام من موجة الاحتجاجات لا تصريح سياسياً من الحكومة يبيّن موقفها.

ولفت إلى أن الحكومة دفعت وزارة الداخلية ليلاً لمواجهة موجات الغضب وصدّرت المتحدثين الرسميين لها من أجل وصم المحتجين بالمجرمين والمخربين قبل صدور أحكام القضاء، معتبراً أن هذا يعكس وصم الحراك الاجتماعي وتخويف التونسيين مما يحصل وكأنه يشكل تهديداً للممتلكات، فيتحول النقاش من الفشل الاجتماعي والاقتصادي إلى نقاش هامشي، ما يبيّن ضعف الدولة والقدرة على إدارة الأزمات. وتابع "مثلما تم تداول فيديوهات للتخريب، هناك أيضاً أخرى تكشف استعمال العنف من عناصر الأمن وكأن هناك عقاباً جماعياً للمحتجين واعتقالات عشوائية، وهذه الممارسات هي الخطر في هذه المواجهات".

في المقابل، يعبّر أغلب الرافضين لهذه الاحتجاجات عن انزعاجهم من توقيتها الليلي، ويفسرون بأن حرية التعبير تكفل الاحتجاج بوجوه مكشوفة نهاراً. لكن الباحث في الشأن الاجتماعي محمد الجويلي فسّر "أن زمن الاحتجاج تغيّر في تونس منذ سنوات وتحوّل من الزمن الكلاسيكي نهاراً إلى أزمنة احتجاجية تدور أحداثها في مواقيت متعددة من اليوم ومن بينها الليل الذي تحوّل إلى فضاء يحتوي أيضاً التعبيرات الغاضبة في المدن والشوارع التونسية". وأكد الجويلي في تصريح لـ"العربي الجديد" أن عوامل عديدة تلتقي لتجعل من الليل زمناً احتجاجياً في تونس ومن بينها فقدان العائلات في الأحياء الشعبية والمدن الفقيرة السيطرة على أبنائها، لافتاً إلى أن الشباب في هذه الأحياء يكسرون القيود العائلية ويستغلون تفككها ويجنحون أكثر إلى ثقافة الشارع.

ورأى الجويلي أن الشارع هو الفضاء الحاضن للفئات المهمشة والشباب المحتج ليلاً، مشدداً على أهمية دراسة الظاهرة من جوانبها الاجتماعية والنفسية من دون التوقف عند الأسئلة الأمنية من وراء هذه الاحتجاجات، معتبراً أن "المساكن وظروف العيش في الأحياء الشعبية والفقيرة طاردة بطبعها لسكانها، ولا سيما الشباب منهم، ما يفسّر جنوحهم نحو ثقافة الشارع في حلول اجتماعية وثقافية تساعد على احتوائهم وتخفيف البؤس الذي يعيشون فيه". وطالب الجويلي بضرورة "التعمّق في دراسة ظاهرة الاحتجاج بعد 10 سنوات من الثورة التي نضج فيها جيل كامل أصبح مساهماً بدوره في الحراك الاجتماعي والاحتجاج بما في ذلك الأشكال التخريبية منه".

ما يحصل من تحركات هو تعبير عن غضب اتخذ أشكالاً عنيفة في بعض المناطق

سياسياً، ظلت المواقف على حالها بين متفهم للاحتجاجات ومنكر لها، وبين من يرى فيها تباشير لإسقاط الحكومة ومن يرى أنها مؤامرة لتغيير واقع سياسي أنتجته الانتخابات وتحركه أحزاب فاشلة. وأكد الحزب الجمهوري، في بيان أمس، شرعية التحركات الاحتجاجية التي تهز أغلب المناطق الداخلية والأحياء الشعبية، منبهاً إلى خطورة اندساس عناصر إجرامية فيها، ومندداً باستهداف الأملاك العامة والخاصة. واعتبر الحزب "أن هذه الاحتجاجات تعبّر عن عمق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تعصف بالبلاد وعن حالة اليأس التي بلغها الشباب العاطل عن العمل نتيجة بؤس ظروفه المعيشية مقابل استشراء الفساد وتغلغله في مفاصل الدولة". في المقابل، دان مجلس شورى حركة النهضة "الاعتداءات المجانية التي مثلت خرقاً لكل أشكال الاحتجاج والتعبير السلمية المكفولة بالقانون والدستور"، داعياً "كل التونسيات والتونسيين للوقوف صفاً واحداً أمام كل الأعمال التخريبية التي تستهدف أمن البلاد وطمأنينة المواطنين".

من جهته، طالب رئيس كتلة "قلب تونس" في البرلمان، أسامة الخليفي، بتطبيق القانون وفتح تحقيق جدي في أحداث الشغب الليلية لمعرفة من وراءها. وقال في حديث إذاعي إن "وزارة الداخلية صنفت هذه الأحداث أعمال شغب ومحاولات سرقة ونهب"، مشدداً على ضرورة فتح تحقيق لأن هذه الأحداث تقريباً تتكرر في الوقت نفسه والطريقة ذاتها".

غياب الثقة
أكدت دراسة حول "البُعد الاجتماعي في فهم ظاهرة التطرف العنيف" صدرت في نوفمبر/تشرين الثاني 2020 عن منتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وشملت عيّنة من الشباب (805 مستجوبين من الكبارية وسيدي حسين والمروج والمنازه وهي أحياء في العاصمة تونس) أن 71.3 في المائة منهم يعتبرون أن المجتمع التونسي قائم على أسس غير صحيحة و83.1 في المائة يعتبرون أنّه مجتمع لا مساواة، و69.7 في المائة يعتقدون أنّ الدولة لا تلبّي الحاجيات الأساسية. وأضاف 41.9 في المائة أنّ الدولة لا تلبي الحاجيات الصحية و65.7 في المائة أنّها لا تلبّي الحاجيات التّربوية و76.4 في المائة يعتبرون أنّ الطبقات الميسورة لا تكترث للطبقات المحرومة. ويعتقد 76.2 في المائة أن الدولة لا تعير اهتماماً للمشاكل الحقيقية للنّاس، و70.1 في المائة رأوا أنها تمارس العنف، و80.4 في المائة أن الدولة لا تساعد الفقراء. ويعتقد 82.6 في المائة من الشبان المستجوبين أنّهم يعيشون في مجتمع غير منصف.

من أسباب الوضع الراهن العنف الاقتصادي والتمييز الاجتماعي إلى جانب الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية 

المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية سبق أن نبّه "من خلال دراساته الميدانية، إلى تعمّق ظاهرة الانقطاع عن الدراسة لدى فئة كبيرة من الشباب والأطفال (أكثر من مليون منقطع خلال السنوات العشر الأخيرة)، وإلى تفاقم الشعور باللامساواة وعدم الإنصاف وتخلّي الدولة عن دعم الحقوق الصحيّة والتربوية والاقتصادية لدى الشباب". وفسر في بيان له أمس الإثنين، سبب الاحتجاجات الجديدة، قائلاً إنّ "العنف الاقتصادي والتمييز الاجتماعي، نتيجة للأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وضعف أداء الدولة قبل وأثناء جائحة كورونا وتخليها عن فئات واسعة من الشعب، والأداء المهزوز لنخب سياسية غير مسؤولة، وتوحش لوبيات مالية واقتصادية متنفذة قديمة وجديدة، إضافة إلى التعامل الأمني العنيف مع الاحتجاجات الأخيرة، فاقم الشعور بالخزي والمهانة والتحقير وعدم الإدماج لدى فئات واسعة، ما مهد لمشاعر الغضب والتعبير عنها بأشكال مختلفة".

ودان المنتدى "الصمت المريب للحكومة واكتفائها بالمعالجة الأمنية لهذه الاحتجاجات بما يؤكد ضعفها في إدارة الأزمات وغياب أي رؤية لديها في الإنقاذ"، مبيناً أنه "على "الدولة والمؤسسات والنخب أن تدرك أن الفقر والتهميش والإقصاء يقترن بطلب مزيد من العدالة والإنصاف والكرامة والاعتراف أكثر من الوصم والتجريم".

وفي غياب الإحصائيات والبيانات الرسمية حول نسبة مشاركة الشبان المتسربين من المدارس في الاحتجاجات، لم يستبعد الباحث في الشأن التربوي، منذر عافي، "أن يكون جزءاً من الشبان المشاركين في الاحتجاجات الليلية ممن غادروا مقاعد الدراسة في السنوات العشر الأخيرة". وقال عافي في تصريح لـ"العربي الجديد" إن "المنقطعين عن التعليم في سنّ مبكرة هم من بين الفئات الأكثر هشاشة والأكثر عرضة لاستدراجهم إلى أعمال إرهابية أو تخريبية نتيجة حالة التصحر المعرفي والفكري التي يعانون منها". ووصف المتسربين من التعليم، "بالقنابل الموقوتة التي تهدد المجتمع"، مشدداً على ضرورة تحصين هذه الفئات الهشة ومنع انسياقها إلى الجريمة والمخدرات والعنف والتخريب.

تقارير عربية
التحديثات الحية
المساهمون