ولّى زمن ابتهاج الدول الأوروبية والاتحاد الأوروبي بالربيع العربي. لم يعد هناك أدنى تردد في التعاون مع أكثر الديكتاتوريات وحشية، كالنظام المصري. مرت رحلته إلى مصر من دون أن يلاحظها أحد، في وقتٍ كانت فيه أعين العالم مشدودة إلى أميركا، التي كانت تحبس أنفاسها في خضم الفرز الانتخابي. هكذا قام رئيس المجلس الأوروبي، البلجيكي شارل ميشال، بزيارة لبضع ساعات إلى القاهرة، يوم 5 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، للقاء الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي. يتعلق الأمر، بحسب بروكسل، بطلب الاستشارة من أحد أهم القادة العرب، في وقت تُلقي فيه الأزمة الجديدة التي اندلعت في فرنسا، وهي قضية الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للرسول، بظلالها، وتهدد بتعتيم العلاقات بين الغرب والشّرق. بلغة خشبية، قال ميشال عبر تغريدة من العاصمة المصرية: "استهدفت الهجمات الأخيرة في أوروبا قيمنا الأساسية، وحريتنا في الضمير والدّين. إذا كنا عازمين بشكل مطلق على مكافحة الإرهاب، فإنه يتوجب علينا أيضاً تعزيز الحوار مع شركائنا. أنا اليوم في مصر من أجل توحيد جهودنا".
توضح هذه الزيارة، بشكل جليّ، الغموض الذي يكتنف العلاقات القائمة بين الاتحاد الأوروبي ومصر. اتحاد القوى بين كيان أوروبي يُمجّد حد التباهي "قيمه الأساسية"، ودولة من جنوب البحر الأبيض المتوسط تسعى بنجاح لأكثر من نصف عقد من الزمن لتستحق لقبها كديكتاتورية شرسة، يُثير بالفعل العديد من الأسئلة، إن لم تكن حتى الشكوك. تهيمن "السياسة الواقعية" بشكل ساحق، لتُقوّض بشكل كبير تطبيق القيم التي يدّعي الأوروبيون التمسك بها.
يُبرز التاريخ الحديث تقدماً على مستوى الأولويات بين المصريين والأوروبيين. يرى كورت ديبوف، الباحث في "جامعة بروكسل الحرة" ورئيس تحرير موقع "يو أوبزيرفر" الإلكتروني، وهو الذي قضى الفترة ما بين 2011 و2016 في القاهرة مبعوثاً خاصاً للمجموعة الليبرالية في البرلمان الأوروبي، أن "العلاقات بين الاتحاد الأوروبي ومصر تطورت على مرّ السنين". يشرح ديبوف الأمر قائلاً إن هذه العلاقات "بعدما كانت رسمية لغاية سنة 2011 وتعتمد على مشاريع صغيرة من دون أمل في تحقيق تقدّم كبير، مرت إلى مرحلة من التعاون المكثف بهبوب رياح التغيير الديمقراطي في المنطقة، قبل أن تقتصر خلال السنوات الأخيرة على ما هو مفيد: مكافحة الإرهاب والهجرة غير الشرعية. لقد تحسنت إذاً العلاقات بعد 2011، لكن ليس بشكل كبير. لقد توفّرت على الأقل بعض فرص الاستثمار ليس فقط في الاقتصاد المحلي ولكن أيضاً في المجتمع وحتى في الديمقراطية. بيد أن القيادة المصرية لم ترغب أبداً في التطرّق إلى هذا البعد الأخير".
باحث في منظمة العفو: أزمة حقوق الإنسان في مصر صارخة والتعذيب أصبح منهجياً
"التعذيب أصبح منهجياً"
لكن هناك ما هو أخطر. تحت القيادة الاستبدادية للسيسي، دخل شريك الأوروبيين المصري، منذ انقلاب يوليو/ تموز 2013 الذي أنهى عاماً من حكم "الإخوان المسلمين"، في إدارة البلاد على أساس نزع الحريات، وبالتالي، قمع أي اختلاف. من مكتبه في تونس، يرى المصري حسين فاومي، الباحث في منظمة العفو الدولية لشؤون شمال أفريقيا، أن "أزمة حقوق الإنسان في مصر صارخة". يشرح الوضع قائلاً إنّ "التعذيب أصبح منهجياً، كما أن قوات الأمن تستخدم قوانين مكافحة الإرهاب لقمع المعارضين السياسيين والأصوات المنتقدة أو حتى نشطاء حقوق الإنسان. يتعرض آلاف الأشخاص لهذا القمع، وقد يتعرضون للاحتجاز وأحياناً للتعذيب قبل أن يُحاكموا. يتعلّق الأمر بصحافيين لم يقوموا سوى بعملهم، ومحامين، وأشخاص ذنبهم الوحيد أنهم انتقدوا تدبير وباء كوفيدـ19، إلخ. لقد باتت انتهاكات حرية التعبير هي القاعدة، خاصة على الإنترنت، إذ يجد العديدون أنفسهم رهن الاعتقال بسبب "الأخبار الكاذبة"، على سبيل المثال، لمجرد إبداء الرأي على شبكات التواصل الاجتماعي. كذلك يتعرّض أفراد مجتمع "الميم" (مثليو الجنس ومزدوجو التوجه الجنسي والمتحولون جنسياً) لخطر الاعتقال. ثم هناك أيضاً حالات الاختفاء القسري، وأخيراً وليس آخراً، استمرار إعدام الأشخاص المُدانين (حوالي خمسين شخصاً في خلال شهر أكتوبر/ تشرين الأول 2020، ملاحظة المحرر)".
بفضل دعم كلٍّ من واشنطن والرياض وأبوظبي وتل أبيب، تصاعدت لامبالاة النظام المصري بالانتقادات التي توجّه له في ملف حقوق الإنسان، خصوصاً مع إغماض الاتحاد الأوروبي عينيه أمام ما تتعرض له "قيمه" من هجمات شرسة على ضفاف النيل، والاكتفاء بإبداء بعض الملاحظات والنصائح الشكلية تماماً. وبالتالي، باتت حجة الاستقرار الضروري والمقدس لمصر، التي فرضتها العواصم الأوروبية الأكثر نفوذاً، تشكّل أساس العلاقات الثنائية بين هذا البلد والاتحاد الأوروبي. من جانبه، لا يتردد النظام المصري في تلميع صورته كشريك مفيد: في بروكسل على سبيل المثال، رحّب البعض بأدائه الذي يجعل منه نموذجاً للفعالية ضد الهجرة غير النظامية. وهذا ما يتّضح من خلال تصريح المستشار النمساوي سيباستيان كورتز، في الوقت كانت فيه بلاده تتولى الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي، يوم 20 سبتمبر/ أيلول 2018، والذي يُشيد فيه بمصر "الدولة الوحيدة في شمال أفريقيا التي نجحت، منذ عام 2016، في كبح كل محاولات انطلاق المهاجرين" عن طريق البحر.
مساعدات معطّلة من قبل القاهرة
حفّزت هذه العلاقات المتميزة شعوراً بالتقدير الذاتي بل وادعاءً مزعوماً بالثقة في النفس (لدى النظام المصري). وهكذا، عرفت بعض برامج التعاون التي خططت لها بروكسل تعثراً في بدء تنفيذها منذ عامين، لأن القاهرة كانت تطالب في كل مرة بحذف نفس المادة من الشروط العامة للاتفاقيات والتي تؤطر هذه المساعدات. يتعلق الأمر بالبند رقم 26، الذي ينص على إمكانية تعليق الاتفاقيات في حالات الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. منذ عام 2018، ووزارة الخارجية المصرية تبلغ المفوضية الأوروبية أنها لا تقبل، أو لم تعد تقبل، هذا الشرط 26.
في حيرة من أمرهم، يبحث الأوروبيون عن حلٍّ وسط، لأنهم حريصون على الحفاظ، على الأقل، على بعض برامج الدعم المخصصة للقطاعات الاجتماعية والاقتصادية والمجتمع المدني التي لا تربطها علاقة مباشرة بحقوق الإنسان، كتجديد الأحياء العشوائية على سبيل المثال. لكن صراع الأذرع متواصل، لأن مصر تجعل من القضية مسألة مبدأ. ومع ذلك، يعرف المراقبون المطلعون، في القاهرة، أن الشؤون الخارجية تخضع أيضاً لتأثير الأجهزة الأمنية، وأن الوزارات التقنية هي ضحاياها. باختصار، يجد التعاون (المصري ـ الأوروبي) نفسه رهينة التوترات السياسية.
لا يخاطر النظام المصري كثيراً، إذ إن رصيد الإعانات الحالية يبقى في حدود الـ1.3 مليار يورو، وهي عبارة عن مساعدات للميزانية، ومساعدات قطاعية، ومساهمات في وكالات التنمية، ومساعدات للشركاء العامين أو للمنظمات غير الحكومية. تمثل أداة سياسة الجوار الأوروبية هذه حوالي 115 مليون يورو مخصصة لمصر سنوياً. المبلغ ليس هائلاً لبلد من 100 مليون نسمة، فالمغرب يتلقى 200 مليون، وتونس 300، وفلسطين أيضاً (بما في ذلك وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا"). يصبح مبلغ الـ115 مليون دولار ضئيلاً مقارنة بالمساعدات الأميركية أو ما يُقدّمه صندوق النقد الدولي، على الرغم من أنها تبقى تبرعات وليست قروضاً. سعياً وراء النّجاعة، يركز الاتحاد الأوروبي على عدد قليل من القطاعات كالمياه والطاقة والولوج إلى تمويل للشركات الصغيرة والمتوسطة، بالإضافة إلى برامج تطوير الأحياء العشوائية في القاهرة الكبرى. من دون أن ننسى الدعم الأكثر حذراً لعدد قليل من المنظمات غير الحكومية. وفوق كل هذا، لا يستطيع الاتحاد الأوروبي الالتزام بهذه المبالغ.
بنوك الدول الأوروبية ووكالاتها التنموية لا توقع بنداً خاصاً باحترام حقوق الإنسان عند عقدها اتفاقيات
لا تنزعج كبرى الدول الأوروبية من هذا الوضع، فرهانات التجارة والهجرة ومكافحة الإرهاب أهم بكثير. هكذا، على سبيل المثال، فضّلت فرنسا وألمانيا وإيطاليا توقيع عقود أسلحة تتألف على التوالي من مقاتلات، قاذفة وغواصات وفرقاطات، وهو ما تُقدَّر قيمته بمليارات الدولارات. لذلك، إذا كانت هذه الدول تحتفظ رسمياً بموقف خطابي أخلاقي بشأن حقوق الإنسان داخل المجلس الأوروبي، فإن بنوكها ووكالاتها التنموية لا توقع بنداً خاصاً باحترام حقوق الإنسان عند عقدها اتفاقيات أو قروض مع هذا البلد، كما أن سفاراتها الثنائية في القاهرة لا تُظهر نفس الحزم، لأن كل طرف يدافع عن مصالحه الوطنية.
شريك "لا غنى عنه"
إلى جانب المصالح التجارية للأوروبيين، يُحرك النظام المصري بمهارة الأوراق التي بحوزته. تُوضّح ليزلي بيكيمال، مسؤولة المناصرة الأوروبية في معهد القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، أن "السلطات عرفت، منذ 2015 على الأقل، كيف تلعب لعبة دبلوماسية سياسية رفيعة، وأحياناً أقل دقة لكن بشكل فعال جداً، لتعزيز دور مصر كشريك "لا غنى عنه" ضمن الاستراتيجية الأوروبية في الشرق الأوسط ومنطقة البحر الأبيض المتوسط ، وكذلك في إطار مراقبة الحدود ومكافحة الإرهاب. إن هذا الأمر يخلق رهانات في العلاقات بين الاتحاد الأوروبي ومصر، والتي على أساسها لا يريد الاتحاد الأوروبي والعديد من الدول الأعضاء فقدان التعاون المصري عن طريق الاصطدام مع السلطات المصرية بشأن قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان ودولة القانون".
من موقعها المتميز كمراقبة من بروكسل، تكشف بيكيمال، على الجانب الأوروبي، وجود "تركيبة غير فعالة أو متماسكة بالضرورة: مزيج من الدبلوماسية العامة، التي تتّسم بالخجل فيما يتعلق بالقضايا المزعجة (حقوق الإنسان، مكانة ووزن الجيش المصري، الدعم العسكري لخليفة حفتر في ليبيا...). وتنحصر هذه الدبلوماسية بشكل عام على القنوات الرسمية ذات الوقع الإعلامي الضعيف جداً، مثل المداخلات الشفوية في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، والتي تكون أحياناً غائبة أو غير بارزة أمام الأحداث المقلقة كقمع التظاهرات في سبتمبر/ أيلول 2019 والذي أسفر عن 4400 اعتقال وإخفاء قسري". في الوقت ذاته، "تطفو هذه الدبلوماسية بشكل واضح ومتماسك وبارز نسبياً عندما يتعلق الأمر بالجوانب "الإيجابية" للعلاقة مع مصر (الدعم المالي في المجالات الاجتماعية والاقتصادية، والبنى التحتية، والغاز، أو التعاون حول القضايا الإقليمية مثل فلسطين...)".
أصدر البرلمان الأوروبي ما مجموعه أربعة قرارات طارئة تتعلق بحقوق الإنسان في مصر خلال السنوات الأخيرة
البرلمان الأوروبي لإنقاذ الشرف
لإنقاذ الشرف الأوروبي، إذا جاز التعبير، فإن الوجهة تكون نحو البرلمان الأوروبي. على الرغم من افتقار هذه المؤسسة إلى صلاحيات حقيقية، مع الأسف، إلا أنها أصدرت ما مجموعه أربعة قرارات طارئة تتعلق بحقوق الإنسان في مصر خلال السنوات الأخيرة (أولها عام 2016، بخصوص قضية الباحث الإيطالي جوليو ريجيني، الذي قد تكون "الأجهزة" المصرية وراء وفاته الفظيعة في القاهرة). وأخيراً فقط، في 21 أكتوبر/ تشرين الأول، وجّه 222 نائباً من البرلمان الأوروبي وبرلمانات الدول الأوروبية رسالة مفتوحة إلى السيسي يطالبونه فيها بـ"إطلاق سراح السجناء السياسيين" و"وقف انتهاكات حقوق الإنسان".
ما يبرز أكثر، في المقابل، من العمل الدبلوماسي للهيئات التنفيذية للاتحاد الأوروبي، هو ما تُجسده عبارة "الأعمال مستمرة كالعادة"، وهو ما توضحه أيضاً الزيارة الأخيرة التي قام بها إلى القاهرة، في 3 سبتمبر 2020، الإسباني جوزيب بوريل، ممثل الاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية. تغريدة له تُغني عن أي تعليق، وصف بوريل الرحلة قائلاً: "بدأت زيارة مهمة إلى القاهرة بمحادثة مستفيضة مع الرئيس السيسي. تلعب مصر دوراً رئيسياً في المنطقة ونحن نسعى جاهدين لتعزيز العلاقات ومواصلة التعاون في القضايا ذات الاهتمام المشترك. الاتحاد الأوروبي ومصر شريكان قويان". من لديه شكوكٌ بشأن ذلك؟
يُنشر بالتعاون مع "أوريان 21"
https://orientxxi.info/ar