الإعلام الغربي... من الانحياز للصهيونية إلى الشراكة الفاعلة في جرائم الاحتلال

26 نوفمبر 2023
صحافيون يشيعون صحافيين استشهدا نتيجة قصف الاحتلال مخيم البريج (مجدي فتحي/Getty)
+ الخط -

فور بدء عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، شرعت وسائل الإعلام الغربية في شيطنة المقاومة الفلسطينية، وتصوير "إسرائيل" على أنّها ضحيةٌ "للإرهاب"، تمتلك "حقّ الدفاع عن نفسها". نشرت شبكة "بي بي سي"؛ في الساعات الأولى التي تلت العملية البطولية، تقريرًا بعنوان: "ماذا يحدث في إسرائيل وغزّة، وما هي حماس؟"، ورد فيه أنّ الحركة "خاضت حروبًا عدّة مع إسرائيل منذ استيلائها على السلطة، وأطلقت آلاف الصواريخ على إسرائيل، ونفذت هجماتٍ قاتلةً أخرى.. وردًا على ذلك، شنت إسرائيل هجماتٍ جويةً متكررةً على حماس".

تجاهل التقرير بخباثةٍ حقيقة ما يجري على الأرض، من وجودٍ لاحتلالٍ عنصريٍ توسعيٍ، أفضى بطبيعة الحال إلى اندلاع مقاومةٍ مستمرّةٍ، محاولًا تصوير الواقع على أنّه حروبٌ تبدأها حركة حماس ضدّ "إسرائيل"، "ترغم" الأخيرة على "الرد" عليها، وليس حرب إبادةٍ جماعيةٍ، وتطهيرٍ عرقيٍ ممنهجٍ.

بعد أسبوعٍ من نشر ذلك التقرير، نشرت صحيفة "الغارديان" مقالًا بعنوان: "وجهة نظر المراقب بشأن الرد على هجوم حماس الإرهابي: وسط حزنها، يجب على إسرائيل أن تتصرف بحذرٍ". وقد استهل "المراقب" مقاله بالقول: "إن الأحداث الفظيعة التي وقعت في جنوب إسرائيل نهاية الأسبوع الماضي تستعصي على الفهم...  إن الهجمات الإرهابية التي نفذها شبابٌ فلسطينيون، بتوجيهٍ من حماس في غزّة، بعد تدريبهم وتسليحهم من قبل إيران، كانت عملًا مقيتًا لا يوجد أيّ عذرٍ له. لا توجد قضيةٌ سياسيةٌ، ولا إيمانٌ، ولا مبدأ يبرر مثل هذه المذبحة، وهذه الوحشية. لا توجد كلماتٌ يمكن أن تعبر عن الألم والمعاناة الهائلين اللذين يعاني منهما الشعب اليهودي في إسرائيل وخارجها. حزنهم هو حزننا. نحن نقف معهم".

أكثر من 750 صحفيًا من عشرات المؤسسات الإخبارية وقعوا على رسالةٍ مفتوحةٍ تدين قتل إسرائيل للصحفيين في غزّة، وتنتقد تغطية وسائل الإعلام الغربية للحرب

تحيز وسائل الإعلام الغربي، وتبريرها لجرائم التطهير العرقي والإبادة الجماعية، التي يقترفها الاحتلال الصهيوني على أرض فلسطين، ولا سيّما في قطاع غزّة، وصلا إلى درجةٍ من القبح استفزت حتّى العاملين في تلك المؤسسات، فقد نشرت صحيفة "واشنطن بوست" في عددها الصادر بتاريخ 9 نوفمبر/تشرين الثاني تقريرًا بعنوان: "مئات الصحفيين يوقعون رسالة احتجاجٍ على تغطية الأحداث في إسرائيل".

التقرير الذي أعده كلٌّ من لورا فاغنر وويل سومر، كشف أنّ "أكثر من 750 صحفيًا من عشرات المؤسسات الإخبارية وقعوا على رسالةٍ مفتوحةٍ تدين قتل إسرائيل للصحفيين في غزّة، وتنتقد تغطية وسائل الإعلام الغربية للحرب". ومما ورد في تلك الرسالة، وفقًا للصحيفة، أنّ "غرف الأخبار مسؤولةٌ عن الخطاب اللا إنساني، الذي سخر لتبرير التطهير العرقي للفلسطينيين".

الرسالة التي وقع عليها عاملون في رويترز، ولوس أنجلوس تايمز، وبوسطن غلوب، وحتّى واشنطن بوست أدت إلى طرد صحافيين من بعض غرف الأخبار، واتهامهم بـ "التحيز"، في حين قال الصحافيون أنّ رسالتهم بمثابة "دعوةٍ لإعادة الالتزام بالعدالة، وعدم التخلّي عنها". كما ورد في الرسالة "ينبغي على الصحافيين استخدام كلماتٍ مثل الفصل العنصري، والتطهير العرقي، والإبادة الجماعية لوصف معاملة إسرائيل للفلسطينيين"، وهو ما تحظره وسائل الإعلام الغربية تلك، التي لم تعد متحيزةً للصهيونية فحسب، بل وشريكةً للاحتلال في جرائمه.

صحيفة "واشنطن بوست" نفسها كانت قد نشرت تقريرًا في الثاني عشر من نوفمبر/تشرين الثاني عنوانه: "تصور حماس هو شن هجماتٍ أعمق بهدف إثارة حربٍ إسرائيليةٍ". وقد ورد في ذلك التقرير، الذي أعده كلٌّ من شيرا روبين وجوبي واريك، أنّ خطة حماس من وراء عملية طوفان الأقصى كانت "إجبار إسرائيل على الرد بقوّةٍ". كما أن مسلّحي حماس "اقترفوا مذبحةً جماعيةً" بحقّ الجنود والمدنيين.. ثم استدرجوا "المدافعين" الإسرائيليين إلى معارك استمرت لأكثر من يومٍ.

هذا الإعلام المتحيز، الذي يحظر تسمية الأشياء بمسمياتها، واستخدام مصطلحات "الإبادة الجماعية"، و"التطهير العرقي" لكشف جرائم الاحتلال الصهيوني، متذرّعًا "بالحياد" و"الموضوعية"، يواصل اتهام المقاومة الفلسطينية بـ "الإرهاب"، الذي "يجبر إسرائيل على الدفاع عن نفسها". وفي ظلّ تضاعف أعداد ضحايا الاحتلال في غزّة، تستمر وكالة "رويترز"، مثلًا، في تسليط الضوء بمبالغةٍ على تصريحات سياسيين غربيين يروجون لـ "حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها".

أما "لوس أنجلوس تايمز" فقد لجأت في تحيزها إلى وسائل أكثر خباثةٍ، منها تسليط الضوء على تظاهراتٍ شهدتها فرنسا، ضدّ ما وصفته الصحيفة بـ "تصاعد معاداة السامية خلال حرب حماس وإسرائيل"، وذلك في الوقت الذي تتجاهل فيه معظم وسائل الإعلام كثيرًا من التظاهرات الحاشدة التي اندلعت عبر العالم دعمًا للقضية الفلسطينية، وتنديدًا بجرائم الاحتلال.

تبرير جرائم الاحتلال لم يقتصر على الاكتفاء بحظر استخدام المصطلحات والمرادفات التي تسمي الأشياء بمسمياتها لكشف الحقيقة، أو اللعب على وتر كذبة "معاداة السامية"، ولم يتوقف عند حدود وصف هذه الجرائم بـ "الدفاع عن النفس" ردًا على "الإرهاب" الذي "يجبر إسرائيل على الرد"، بل وصل إلى تزييف الحقائق ونقل أخبارٍ كاذبةٍ. شبكة "سي إن إن" مثلًا نشرت تقريرًا بتاريخ 14 نوفمبر/تشرين الثاني زعمت فيه أنّ جيش الاحتلال عرض على فريقها المرافق له "بنادق ومتفجّراتٍ في إحدى الغرف الواقعة أسفل مستشفى الرنتيسي للأطفال"، مسلطةً الضوء على المزاعم الصهيونية حول استخدام حركة حماس للمستشفيات "مراكز قيادةٍ وسيطرةٍ"، و"مستودعات أسلحةٍ".

صحيح أن "الحياد المطلق" هو أسطورةٌ لا يمكن لأيّة وسيلةٍ إعلاميةٍ ادعاء تحقيقها، لكن التخلّي عن الموضوعية بسفورٍ، وانحيازٍ كاملٍ إلى من يقترف أبشع الجرائم، التي سجلها التاريخ الحديث، لا يمكن وصفه بمجرد تحيزٍ للصهيونية، بل هو شراكةٌ فاعلةٌ في اقتراف تلك الجرائم الهمجية، التي ما تزال مستمرّةً منذ عام 1948.

المساهمون