الإخفاق الكبير والصدمة. هذا هو الاستنتاج الأبرز في كل وسائل الإعلام والتقديرات الإسرائيلية، بعد هجوم حركة حماس المفاجئ، صباح السبت الماضي، على مستوطنات وقواعد الجيش الإسرائيلي على حدود غزة، وبداية معركة "طوفان الأقصى".
ما حدث لم يكن له أي مثيل في تاريخ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وفتّت العقيدة العسكرية الإسرائيلية، القائمة على الردع، والإنذار المبكر، ونقل المعركة إلى أرض "العدو" والحسم السريع. كل هذه القواعد نسفت.
على الرغم من المعطيات والمعلومات التي كانت متوفرة على ما يبدو لدى أجهزة الاستخبارات العسكرية عن تحضيرات وتدريبات "حماس"، كما بدأت وسائل إعلام إسرائيلية بالتلميح له في اليوم الثالث للحرب، وفسرت على أنها مجرد تدريبات روتينية، وأن الحركة لن تجرؤ وغير معنية بمواجهة عسكرية، فإن الجيش الإسرائيلي يقول إن "حماس" نجحت في عملية التمويه التي عملت عليها في الفترة الأخيرة.
يوضح هجوم "حماس" فشل العقيدة السياسية الإسرائيلية تجاه تقسيم الشعب الفلسطيني
وأشار الجيش إلى أن التصور العام الذي رسمته وحدات الاستخبارات هو أن "حماس" لا تسعى إلى صدام، وجل ما تريده هو تحسين الحالة الاقتصادية، وأن الحركة تحت ردع شديد بسبب قدرات الجيش الإسرائيلي. إلا أنه اتضح أن ذلك تصور مشوه ومغلوط، تماماً كما كان قبيل حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973.
لا إنذار مبكر لدى الجيش الإسرائيلي
وبهذا لم يكن هناك أي إنذار مبكر لدى الجيش الإسرائيلي، وكل أجهزة ومعدات الإنذار المبكر على الحدود مع غزة، والجدار الذي كلف قرابة 11 مليار شيكل (الدولار يساوي 3.9 شيكلات)، فشلت في توفير معلومات لما هو قادم ومنع الهجوم، ما يدل على أن نظرية الإنذار المبكر والردع الإسرائيلية فشلت في منع هجوم "حماس".
ولعل الأبرز في ما حدث هو نجاح الحركة في نقل المعركة إلى العمق الإسرائيلي في مستوطنات الجنوب لساعات طويلة. أما العامل الإضافي المتعلق بالسعي إلى حملات عسكرية قصيرة الأمد، لكي لا يتكبد الاقتصاد الإسرائيلي عبء الحروب ولا تتعطل الحياة اليومية في إسرائيل، فهو عامل مجهول لغاية الآن، ويتعلق بقدرة "حماس" على الصمود أمام الهجوم الإسرائيلي المتوقع.
كما أوضح هجوم "حماس" فشل العقيدة السياسية الإسرائيلية تجاه تقسيم الشعب الفلسطيني، وإضعاف السلطة الفلسطينية، والادعاء بأن الحفاظ على الانقسام و"دولة حماس" في غزة، مفيد لإسرائيل، وبأن لدى إسرائيل الحرية بالقيام بما تريد في الضفة الغربية، وتوسيع الاستيطان وفرض الأمر الواقع بضم غير رسمي لمناطق "ج" واستمرار التنكيل والقتل بدون رادع.
تأتي هذه الحرب بسياق مختلف لم تشهد له إسرائيل مثيلا من قبل، خاصة في جانب التصدع داخل المجتمع الإسرائيلي، والخلافات الحادة بين المؤسسة العسكرية والحكومة، وانخفاض كبير في ثقة الشارع الإسرائيلي بالحكومة ورئيسها.
تحذير المؤسسة العسكرية لنتنياهو
فقد حذرت المؤسسة العسكرية والأمنية في بداية أغسطس/ آب الماضي رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو من تداعيات التصدع السياسي على جهوزية الجيش لأي حرب مقبلة. وعبّرت عن قلق بالغ حيال ظاهرة رفض التطوع، وادعت أنها باتت تمس بالعصب الأساسي لقدرات الجيش والتدريبات.
كما عرضت قيادة الأركان على نتنياهو معطيات رفض التطوع، وتراجع الكفاءات، في اجتماع خاص في بداية أغسطس الماضي. ودار الحديث عن تراجع قدرات الردع الإسرائيلية، خاصة أمام "حزب الله". بل إن القناة 12 عرضت في بداية أغسطس الماضي، في أبرز نشراتها الإخبارية الأسبوعية، صورة نتنياهو ووزير الأمن يوآف غالانت وقائد الجيش الإسرائيلي هرتسي هليفي على خلفية صورة نظرائهم في قيادة إسرائيل في العام 1973، للتشبيه بين الأمس واليوم، واتهام نتنياهو بالفشل المقبل.
وقد كتب الخبير في القضايا الأمنية والعسكرية أوري بار يوسف، في مقالة بصحيفة "هآرتس"، في بداية أغسطس الماضي، أنه في حال اندلاع حرب قريباً سنشتاق إلى حرب "يوم الغفران" (التسمية الإسرائيلية لحرب 1973)، بحيث ستكون أكبر حرب تخوضها إسرائيل منذ 1973 وأكثر صعوبة.
تردي جهوزية الجيش بسبب التصدع السياسي
وأوضح أن قدرات وجهوزية الجيش مختلفة عن العام 1973، بالإضافة إلى تردي جهوزية الجيش بسبب التصدع السياسي. والأهم هو التراجع بنوعية وقدرات القيادات السياسية الحالية مقارنة بالعام 1973، والمستوى المتدني لثقة الجمهور بهذه القيادة.
وكانت شعبة المخابرات في الجيش الإسرائيلي (أمان) قد حذرت، في تقديرها السنوي الأخير، من إمكانية حدوث حرب في العام المقبل. كما حذرت نتنياهو، مرات عدة خلال الأشهر الأخيرة، من أن إيران و"حزب الله" بشكل خاص "يرصدان فرصة تاريخية من أجل تغيير الوضع الاستراتيجي في المنطقة، في أعقاب الأزمة الهائلة في إسرائيل والتي لم يشهدوا مثلها من قبل".
سيأتي بعد هدوء غبار المعارك الحساب السياسي، خصوصاً لنتنياهو
وأرسلت "أمان" رسائل إلى نتنياهو على خلفية خطة "الإصلاح القضائي" لتقييد جهاز القضاء، كان آخرها قبيل المصادقة على قانون إلغاء "حجة المعقولية"، وجاء فيها أن الضرر الأمني ليس فورياً وحسب، وإنما ستكون له عواقب بعيدة المدى.
إلا أن كل هذه التحذيرات قوبلت بالرفض والتجاهل من قبل الحكومة ورئيسها، الذين أصروا على الاستمرار في خطة تقييد القضاء. وسادت قناعة جماعية لدى صناع القرار في إسرائيل بأن حركة حماس في حالة ردع عميق، ولن تجرؤ على الإقدام على أي عمل عسكري تجاه إسرائيل.
إسقاطات الإخفاقات والنجاحات العسكرية على المشهد السياسي
تاريخياً، للإخفاقات، أو النجاحات العسكرية، إسقاطات بالغة على المشهد السياسي. هكذا تحولت القيادة الأمنية والعسكرية إلى نجوم سياسية بعد حرب 1967 واحتلال الضفة الغربية وغزة وسيناء والجولان، مقابل بداية نهاية حكم حزب العمل بعد إخفاق إسرائيل في حرب أكتوبر 1973.
وهكذا شكل الفشل العسكري في حرب لبنان الثانية عام 2006 بداية النهاية السياسية لرئيس الوزراء السابق إيهود أولمرت. نتنياهو يعي ذلك تماماً، ويتابع الاتهامات الموجهة إليه شخصياً بعد إخفاق الجيش في الجنوب. فبعد صدمة هجوم "حماس" والنتائج الكارثية من منظار إسرائيلي، لم تتأخر الاتهامات الواضحة والمباشرة لتحميل نتنياهو شخصياً وحكومته مسؤولية الإخفاق الكبير، وربط ذلك مع نتائج الخطة الحكومية لتقييد القضاء على المجتمع والجيش.
كجزء من محاولات نتنياهو امتصاص الغضب الشعبي والانتقادات الحادة، وتحضيراً للمرحلة العسكرية المقبلة، والمتوقع أن تكون أصعب بكثير، خصوصاً في حال حصول أي تطور على الحدود الشمالية أمام "حزب الله"، يتجه نتنياهو إلى توسيع الحكومة وإقامة "حكومة طوارئ وطنية".
نتنياهو يعي انعدام الثقة بحكومته الحالية
نتنياهو يعي تماماً انعدام الثقة بحكومته الحالية، وغياب شخصيات أمنية بارزة فيها، ويسعى إلى تعزيزها. وربما يحسن الأمر ثقة المجتمع الإسرائيلي بالحكومة بعد الإخفاق الكبير.
في المرحلة الأولى بالشراكة مع حزب "هماحانيه همملختي" (المعسكر الرسمي) الإسرائيلي بزعامة بني غانتس، وزير الأمن الأسبق والقائد العام للجيش، وربما ينضم بعدها رئيس حزب "ييش عتيد" (هناك مستقبل) يئير لبيد.
وأعلن غانتس بشكل واضح وعلني أنه لا يعارض الدخول في حكومة طوارئ، من دون أي شروط تتعلق بتقسيم الوزارات، على أن يكون شريكاً في اتخاذ القرارات العسكرية والسياسية بصيغة تشكيل حكومة حرب مصغرة، لمواصلة إدارة الحرب، ويُمنَحُ من خلالها تمثيل مؤثر لأعضاء "المعسكر الرسمي"، وفي عضويتها الوزراء ذوي العلاقة من قِبل رئيس الحكومة.
وبذلك يريد غانتس تقليص تأثير وزراء مثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش على عملية اتخاذ القرار العسكري، وأن تكون الحكومة محددة لفترة الحرب فقط.
من جهته، وضع لبيد عدداً من الشروط للانضمام إلى "حكومة طوارئ وطنية"، منها أن تكون صغيرة، وإخراج حزب "القوة اليهودية" برئاسة بن غفير، وحزب "الصهيونية الدينية" برئاسة سموتريتش، من الحكومة، أو على الأقل سحبهم من الوزارات الأمنية.
كما يطالب غانتس ولبيد بوقف أي تشريعات لا علاقة لها بالحرب خلال فترة حكومة الطوارئ مع ما يعنيه ذلك من منع التقدم في الخطة الحكومية لتقييد القضاء. وعلى ما يبدو سيتم الاتفاق على تشكيل حكومة طوارئ خلال الساعات المقبلة.
المجتمع الإسرائيلي في حال طوارئ الآن. المجتمع مجند والإعلام مجند، والجميع يطالب باتخاذ خطوات "جنونية" وإجرامية تجاه غزة لتلقينها درساً وللانتقام، وهو ما تقوم به فعلاً الحكومة والجيش الإسرائيلي من دون أي تساؤل أو مراجعة حول سياسات إسرائيل تجاه غزة ونتائج الحصار غير الإنساني على القطاع ولا تجاه القضية الفلسطينية عامة.
لا يتحدث أحد عن حلول سياسية أو حتى الحاجة إليها، وكأنه على الفلسطينيين الاكتفاء بالغذاء والمياه والكهرباء والعيش بظروف غير إنسانية.
وعادة ما يضع المجتمع الإسرائيلي والقيادات السياسية الخلافات جانباً في هذه الحالات، ويتجند الجميع للجهد العسكري. فقد أعلنت المعارضة الإسرائيلية دعمها للحكومة والجيش منذ اللحظات الأولى للحرب. من هنا يمكن فهم مواقف غانتس ولبيد، وحاجة نتنياهو لحكومة طوارئ "وطنية"، ولو كانت محدودة لفترة الحرب. لكن بعد هدوء غبار المعارك سيأتي الحساب السياسي من دون شك، خصوصاً لنتنياهو، على ضوء تحذيرات الأجهزة الأمنية للحكومة وربطها مع نتائج الخطة الحكومية لتقييد القضاء.