معطيات وتطورات الأزمة الأوكرانية عززت الاعتقاد في واشنطن، خلال الأيام الأخيرة، بأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لم يفجر الأزمة اعتراضا فقط على عضوية الجار المحتملة في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، بل أيضاً وفي الأساس كبداية رفض عملي لتركة الحرب الباردة، ومحاولة إزالة "حيف التاريخ" الذي وقع بحق روسيا في الثلاثين سنة الماضية "وتصحيح" مساره.
ورغم أن هذه العملية معقدة وطويلة المدى، إلا أنه يبدو أن الكرملين قرر ترجمتها بسياسة القضم الموضعي التدريجي بدلاً من الاجتياح الشامل الذي يبدو أقرب إلى البلطجة لو حصل في غياب مسوّغ يمكن تفهمه. ويدلل على ذلك انفجار الوضع في منطقة دونباس شرق أوكرانيا، والذي يبدو كترجمة لنظرية الذرائع بنية مراكمة محطاتها المتناسلة عن بعضها، وبما يحول الأمر الواقع إلى أوراق وشروط تستخدم لفرض المزيد من التنازلات.
أما في ما يخص التساؤل حول إمكانية أن يمضي بوتين من أجل تحقيق ذلك أم أنه سيتراجع، فهذه مسألة أخرى ومفتوحة على قراءات لا تستهين بحظوظ نجاحها وسط وضع أميركي-أوروبي غير متماسك كفاية ووضع دولي مهتزة فيه صورة الغرب وأميركا، بالتحديد بعد نكسة الخروج من أفغانستان؛ فضلاً عن تنامي الجدل داخل أميركا حول جدوى ومدى صوابية نهج توسيع حلف "الناتو" أصلاً.
ومع ذلك، لا تبدو كفة التقديرات راجحة لصالح موسكو، ففي هذا الصدد ثمة من يقول إن الحديقة الأمامية لروسيا التي يطالب الكرملين بتراجع "الناتو" وأسلحته عنها، والتي جدد السفير الروسي، الأحد، في واشنطن أنتوني أنتونوف (خلال مقابلة) على ضرورة حصول موسكو على ضمانات خطية في هذا الخصوص، سقطت وما عادت موجودة مع سقوط الاتحاد السوفييتي.
وبالتالي، حسب هذا الرأي، رجعت الحديقة إلى حضنها الأوروبي الأصلي، وبما لا يجعل المطالبة الروسية بها ذات موضوع. ويرد على هذا الجدل أصحاب النظرة المقابلة، ولو أنهم القلة، بالقول إنه كان من شأن السقوط السوفييتي، ونهاية الحرب الباردة قبل 30 سنة، أن يؤدي إلى زوال حلف "الناتو" بزوال أسباب قيامه وبالتالي إلى بطلان حيثية تمدده.
لكن الواقع على الأرض غير ذلك، إذ إن اللاعب الممسك حتى الآن بزمام الأمور، أعطى إشارات سابقة وراهنة باتجاه عدم القبول بالواقع القائم، آخرها ترك القوات الروسية في بيلاروسيا بعد انتهاء المناورات المشتركة الأحد وعدم سحبها، كما كان مقرراً إلى ثكناتها في روسيا، بحيث تبقى في الجوار الشمالي الأوكراني.
ويندرج في هذه الخانة غياب موسكو هذه المرة عن "مؤتمر الأمن في ميونخ" الذي أنهى أعماله الأحد، والذي استعاض عنه الرئيس بوتين بحضور مناورات الردع الاستراتيجي مع بيلاروسيا والتي تضمنت تجارب صواريخ نووية حديثة وأسلحة متنوعة قرأها المراقبون على أنها رسالة إلى من يعنيهم الأمر بأن موسكو قررت استبدال الدبلوماسية بالعصا.
ويبدو أن ترك روسيا باب الحوار والدبلوماسية مفتوحاً "ليس سوى جزء من لعبة العلاقات العامة"، والدليل أن كافة المحاولات واللقاءات والجولات مع القيادة الروسية أفضت إلى "لا شيء"، بل إلى المزيد من التصعيد. وتردد في هذا السياق أن هناك احتمال جس نبض لطرح بديل "الاعتراف باستقلال جمهوريتي منطقة دونباس "عله يكون كافياً لإرضاء موسكو. كما تثار مسألة ما إذا كانت موسكو تسعى في سياق خطتها إلى انتزاع الاعتراف الأوروبي الأميركي بضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا. لكن يبقى كل ذلك ضمن التخمينات. وتشير المعطيات إلى أن المسألة أكبر وأبعد من ذلك.
انعقاد مجلس الأمن القومي الأميركي يوم الأحد واضطرار وزير الخارجية أنتوني بلينكن، ونائبة الرئيس كامالا هاريس لقطع مشاركتهما في مؤتمر ميونخ والعودة قبل يوم من نهايته للمشاركة في اجتماع المجلس في البيت الأبيض الذي جرى الأحد، يفصحان ليس فقط عن خطورة الوضع، بل أيضا عن أن الإدارة لم تحصد شيئا من رهانها ومعها الكثير من النخب على أن الأزمة محكومة بتسوية سلمية بالنهاية. وبوتين أفشل الرهان.
محاولة الردع بعقوبات صارمة وكاسحة ضد روسيا، لم تكن كافية على ما بدا، خاصة وأن هناك خلافاً بين واشنطن وكييف حول توقيت فرضها، قبل أو بعد الخطوة العسكرية الروسية. الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي مستعجل في تطبيقها علها تكون رادعة لأي عملية عسكرية روسية. وتبدو واشنطن متمسكة بها كرد وليس كمانع مسبق.
ويبدو من الخطاب المتداول في واشنطن أن الخيار الدبلوماسي قد فُقد أو يكاد يفقد فعاليته لجهة ردم الفجوة بين مقاربتين متضاربتين: واحدة تقول إن دواعي الأمن الأوروبي تستدعي حضور الغرب في شرق أوروبا، وأخرى تقول إن دواعي الأمن الروسي تستلزم انحسار هذا الحضور إلى حدود ما قبل الحرب الباردة، والتوفيق على الطاولة بين الجانبين أمر متعذر.
بوتين، بناء على ما تشير إليه التطورات، يتحرك لتحقيق معادلة شبيهة بتلك التي وفّرت المخرج لأزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، والتي انتهت بسحب الصواريخ السوفييتية النووية من الجزيرة مقابل التعهد الأميركي بعدم غزو كوبا وببند سري قضى بسحب الصواريخ الأميركية من تركيا المجاورة للاتحاد السوفييتي.
ويمضي الكرملين في لعبة الحرب المحتملة – المستبعدة في آن واحد، ربما لكسب الوقت ولبلوغ معادلة: انسحبوا.. ننسحب، كما حصل في أزمة كوبا.