مع انعكاس تداعيات الأزمة الأوكرانية على الكثير من دول العالم، فإن ليبيا، الدولة الغنية بالنفط والواقعة قبالة أوروبا، ليست استثناء، إذ يرى البعض أن الملف الليبي سيكون على رأس أولويات الصراع الأميركي الروسي بعد انتهاء الأزمة الأوكرانية.
ويضع الباحث والأستاذ المحاضر بالمعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية بباريس صلاح القادري أكثر من سيناريو لتأثيرات الأزمة الأوكرانية على ليبيا بناء على "اختلاف نتيجة الحرب".
ووفقاً للقادري، فإن "انتهاء الأزمة الأوكرانية بمنطق التفاوض سينعكس على وجود منطق توافقي في المعضلة الليبية أيضاً، أما فشل الغزو الروسي فسيدفع أميركا لتحجيم دورها في ليبيا، ما سيضع الأطراف الليبية المدعومة من روسيا في خيارات صعبة، وفي مقدمتهم اللواء خليفة حفتر، ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح".
ويقول القادري، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إن "اعتراف روسيا بالحكومة المكلفة من مجلس النواب برئاسة فتحي باشاغا يدخل ضمن الصراع الأميركي الروسي، وهو كذلك متوافق مع التوجه الروسي القديم في الملف الليبي، باعتبار أن صالح وحفتر حلفاء دائمون للروس، وهم من صنع الحكومة"، مضيفاً أن وجود حكومتين يزيد من تعقيد المشهد، ويدفع لسؤال في خضم حالة الاستقطاب: هل سيكون هناك حكومة مدعومة من روسيا وأخرى من الغرب؟
وبحسب رأي المحلل السياسي صلاح البكوش فإن ترحيب روسيا بحكومة باشاغا في ظل مواجهتها لأميركا والناتو وأغلب الدول الكبرى بمثابة "قُبلة الموت" بالنسبة للحكومة الجديدة، ويرى أن الترحيب الروسي دفع الجميع للتخوف من حكومة باشاغا، بمن في ذلك المصريون حلفاء عقيلة وحفتر الأساسيون.
ومن بين الأسباب التي تقف وراء الموقف الروسي الوحيد المرحب بحكومة باشاغا هو مكانة ليبيا الاستراتيجية بالنسبة لروسيا، وفقاً لرأي البكوش، الذي يضرب مثالاً أكثر توضيحاً للموقف الروسي من حكومة باشاغا قائلاً "الصواريخ الروسية المضادة للطائرات الموجودة في ليبيا بمعية حفتر الداعم للحكومة تمثل شوكة في حلق الطيران الأميركي والأوروبي، هذا بالإضافة لكون ليبيا منفذاً من البحر المتوسط وأوروبا باتجاه قارة أفريقيا، وهي سوق سلاح روسي في المقام الأول".
مصير مرتزقة فاغنر
قضية المرتزقة، وتحديداً مقاتلي شركة فاغنر المتوزعين في مناطق استراتيجية في ليبيا، كمنطقة الجفرة العسكرية وقريباً من حقول النفط، تعد من أكثر القضايا ارتباطاً بين الموقف الروسي والملف الليبي، وفي هذه القضية يرى مصدر عسكري ليبي، مقرب من لجنة 5 + 5 العسكرية الليبية المشتركة، أن روسيا ستتمسك أكثر بليبيا، ولهذا يشكك المصدر، بحسب حديثه لـ"العربي الجديد" في احتمال تحويل روسيا مرتزقة فاغنر من ليبيا إلى أوكرانيا للمشاركة في الحرب، معللاً بأن "المعركة هناك أكبر من أن يؤثر فيها بضعة آلاف من الجنود"، هذا بالإضافة إلى أهمية الاحتفاظ بفاغنر كورقة ضغط تضمن أكبر قدر من مصالحها الاستراتيجية في البلاد.
ويدعم هذا الرأي تصريح عضو اللجنة العسكرية 5+5، اللواء الفيتوري غريبيل، الذي توقع "تأجيل تنفيذ خططهم المتعلقة بإخراج المرتزقة والقوات الأجنبية لأجل غير معلوم"، بحسب حديثه في تصريحات صحافية أمس الاثنين.
ووفقاً للبكوش، فإن "الوجود الروسي في ليبيا ليس مشكلة ثنائية بيد البلدين، بل سلسلة في حلقات متداخلة بملفات إقليمية ودولية"، معتبراً أن إنهاء هذا الوجود ليس ممكناً، بمعزل عن التعامل مع الملفات الأخرى المتشابكة مع روسيا.
ويدور في ليبيا صراع خفي بين حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة، والحكومة المكلفة من مجلس النواب برئاسة فتحي باشاغا، إذ لم تتمكن حتى الآن من دخول العاصمة طرابلس واستلام مهامها بسبب رفض الدبيبة التسليم، والتحفظ الذي لا يزال يلازم موقف المجلس الأعلى للدولة حيال قرارات مجلس النواب، ومنها تغيير الحكومة، وسط تشكيك في صحة إجراءات منح مجلس النواب الثقة للحكومة الجديد.
ويبدو أن هذا الصراع هو ما دفع الأمم المتحدة عبر مستشارة أمينها العام، ستيفاني وليامز، إلى التدخل. وفي هذا الصدد يقول القادري إن "انشغال العالم بأزمة أوكرانيا منح في ليبيا فرصة للعمل بمعزل عن التأثيرات الخارجية، وإن إخراج حكومة باشاغا في هذا التوقيت كان مقصوداً".
ويتابع "مع أن ليبيا ليست حالياً في سلم الأولويات الدولية، لكن الأمر مختلف بالنسبة للأمم المتحدة التي طرحت مبادرة على مجلسي النواب والدولة من أجل الخروج بإطار دستوري يدفع نحو الانتخابات، وهذا يعني إرادة أممية من أجل تفادي السيناريو الأوكراني أو إعادة سيناريو الحرب وحصار طرابلس".
وأضاف "وليامز لا تريد أن تتخذ موقفاً معادياً لحكومة باشاغا، وتريد أيضاً أن تحتفظ بحكومة الدبيبة، وهي ترغب باستبعاد حصول قطيعة كاملة بين مجلس النواب في الشرق ومجلس الدولة في الغرب، مع التمسك بهامش أكثر من المرونة والمناورة السياسية".
ووفقاً للقادري "فقد أفسد الدبيبة المشهد بترشحه للانتخابات مع استمرار وجوده على رأس الحكومة، وليس لديه الآن إلا ورقة الانتخابات، وفي الجهة المقابلة، لا تتمتع الحكومة الجديدة بالتوافق، ولا تمثل إرادة غالبية الليبيين كما سوّق لها مجلس النواب".
ويرى القادري أن المجتمع الدولي والأمم المتحدة وصلا إلى قناعة حول عدم وجود توافق حول الحكومة الجديدة، خاصة بعد تصويت مجلس الدولة على رفض خريطة طريق مجلس النواب التي أفرزت الحكومة، ويستدل على ذلك بوصف الأمين العام أنطونيو غوتيريس التصويت على الحكومة الجديدة بأنه لم يرتق لمعايير الشفافية.
ويلفت إلى أن مطالبة غوتيريس بالمحافظة على الاستقرار والتوافق في ليبيا يعني أن تعيين هذه الحكومة هو ضرب للوحدة والاستقرار، وبالتالي فالمجتمع الدولي والأمم المتحدة يريان وجوب الإسراع في التوجه للانتخابات وإنتاج مؤسسات قطعية الشرعية.
وفيما يعتبر القادري استمرار تداول الحكومات "إطالة للصراع"، يرى أن "إفشال الانتخابات كان متعمداً من أجل استمرار المؤسسات الحالية"، محملاً المسئولية للجميع، بما فيهم المجلس الرئاسي والحكومة ومجلسي النواب والدولة ومفوضية الانتخابات.
حذر غربي في التعامل مع الأحداث الليبية
يلفت أستاذ العلاقات السياسية الدولية والسياسات المقارنة بجامعة شمال تكساس إبراهيم هيبة إلى مقاربة اقتصادية لفهم تأثيرات الأزمة الأوكرانية في الملف الليبي، لافتاً إلى أن "مصلحة أميركا والاتحاد الأوروبي الحالية تكمن في استمرار تدفق النفط والغاز الليبي إلى أوروبا"، ورغم قلة الصادرات النفطية الليبية مقارنة بروسيا إلا أن تدفقها سيحافظ نسبياً على الأسعار، بحسب هيبة، ويضمن أيضاً تدفقاً أكبر للطاقة إلى أوروبا في مواجهة روسيا.
ويقول هيبة، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إنه "من أجل ذلك، ليس من مصلحة أميركا والأوروبيين نشوء أي خلاف سياسي أو حرب قد تقود إلى إيقاف الصادرات الليبية، وهذا هو سبب الحذر الغربي في التعامل مع الأحداث الليبية اليوم". ويضيف أن "تداعيات الحرب في أوكرانيا هي من يقف وراء الحذر الدولي تجاه ما يجري في ليبيا، وليس الانشغال بالحرب نفسها، وأعتقد أن الدبيبة وباشاغا يعلمون ذلك، ويدركون أن من مصلحة كل منهما في الحفاظ على علاقات طيبة مع الغرب". ويستطرد بالقول "روسيا تقف في الجانب الآخر تماماً، فمن مصلحتها إيقاف الصادرات الليبية، لكي يزيد الضغط على أوروبا (المستورد الأساسي للطاقة من روسيا)، ولكني لا أعتقد أنها استغلت هذه الورقة".
وفي الصدد، لا يستبعد صلاح البكوش استخدام روسيا فعلاً لهذه الورقة، خاصة بعد قيام مجموعة مسلحة، الأحد الماضي، بمحاولة لإغلاق وإفساد صمامي حقلين، أحدهما هو الأكبر في البلاد، تتسبب لوحدها في خسارة 330 ألف برميل في اليوم، ويعتقد البكوش أن "إقفال النفط الليبي سيرفع كلفة الحرب التي تشغل كل العالم، حتى أضحت ليبيا أحد المتأثرين بها، والمؤثرين فيها".