تساؤلات كثيرة، وعلامات استفهام عدة تثار حول مصادر تمويل الإنشاءات والمشاريع العقارية التي تنفذها الهيئة الهندسية بالقوات المسلحة والشركات التابعة لها، على مستوى مصر. يأتي هذا في ظل تردي أوضاع الاقتصاد، وعجز الموازنة، وغض الطرف عن أولوية قطاعات خدمية مهمة، مثل الصحة والتعليم. "العربي الجديد" حققت في مصادر تمويل تلك المشاريع التي دأب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على التأكيد أنها لا تُحمل موازنة الدولة أية أعباء، من دون الحديث عن أي تفاصيل بشأن تلك المصادر. وأشار خلال تفقده مركز القيادة الاستراتيجي للدولة بالعاصمة الإدارية الجديدة، أخيراً، إلى أن نقل وحدتين فقط من الحرس الجمهوري إلى المقر الجديد، سيغطي 60 في المائة من تكلفة المركز الجديد المقام على مساحة 22 ألف فدان.
وأكدت مصادر متطابقة، لـ"العربي الجديد"، أن "الآثار"، هي كلمة السر في الإنشاءات التي تنفذها الهيئة الهندسية، وإسناد كافة المشاريع الجديدة للهيئة بالأمر المباشر، بحيث تكون القوات المسلحة هي المسؤولة عن عملية تمويل تلك الإنشاءات لمنع الحديث عن الاعتمادات المالية ومصادرها. وقالت مصادر خاصة إن عمليات الاتجار في الآثار، التي تتم لصالح خزينة القوات المسلحة وأنشطتها الاقتصادية، هي المصدر الرئيسي لتمويل كافة المشاريع التي تجري حالياً، والتي تؤول ملكيتها وأرباحها بطرق متعددة بعد ذلك إلى خزينة القوات المسلحة مجدداً، كاشفة عن عمليات واسعة جرت أخيراً، جميعها كانت لصالح دول في الخليج. كما كشفت المصادر أن الكثير من الآثار التي خرجت من مصر أخيراً، وانتقلت إلى السعودية والإمارات، لصالح رموز كبيرة في الدولتين، مستخرجة من عمليات تنقيب واقعة تحت تصرف القوات المسلحة. وأكدت المصادر أن تلك العمليات تتم تحت إشراف قيادات كبيرة في القوات المسلحة، بالتنسيق مع عدد من رجال الأعمال، الذين يحترفون تلك التجارة منذ فترات طويلة.
الكثير من الآثار مستخرجة من أراضٍ تحت تصرف الجيش
وشددت المصادر على أن الفترة الماضية شهدت خروج كميات كبيرة ونوعيات نادرة من الآثار الفرعونية، لصالح شخصيات بارزة في الخليج، بتنسيق أقرب إلى الرسمي. وأكدت أن التنقيب عن الآثار يجري داخل مناطق وأراضٍ تخضع لإدارة وتبعية القوات المسلحة في عدد من المحافظات. وقال مصدر خاص إنه سمع مسؤولاً بارزاً في الدولة يقول إذا كان لدى دول الخليج البترول، ويتصرفون به بما يعود عليهم بالنفع، لماذا لا نستفيد من حجم الآثار الهائل في باطن الأرض، والتي لا تعد ذات قيمة بالنسبة لنا ولا تعود بالنفع؟ بحد تعبير المصدر. وأضاف: كانت هذه رسالة كاشفة للغاية لشكل تفكير القيادة الحالية للدولة. وتابع المصدر "ما يمكن التأكيد عليه أن غالبية عوائد عمليات بيع الآثار تصب في قنوات رسمية داخل خزينة القوات المسلحة". وأشار إلى أن "الكثير من المشاريع الإنشائية الحالية تجري بتنفيذ وإشراف الهيئة الهندسية وقياداتها، وهناك العديد من تلك المشاريع، تتم فوق مناطق أثرية، وذات تراث خاص، والكثير منها شهد استخراج العديد من القطع النادرة، التي اختفت بعد ذلك ولم يتم تدوينها في سجلات وزارة الآثار".
مصدر آخر أكد، لـ"العربي الجديد"، أنه بعد انسحاب رجل الأعمال الإماراتي محمد العبار من تنفيذ العاصمة الإدارية، وعدم دخول أي مجموعات كبيرة لتنفيذ المشاريع، نظراً لعدم جدواها حينها، حيث كان المبرر الأساسي للرفض من جانب كافة المجموعات العالمية التي تم التباحث معها للدخول كشركاء في تنفيذ العاصمة الجديدة، هو عدم الجدوى الاقتصادية من جهة وكذا عدم قدرة السوق المصري على استيعاب العاصمة والمدن الجديدة مالياً. وأوضح أن كافة الاستثمارات التي جاءت بعد ذلك كانت بتوجيهات مباشرة، وحملت أسباباً سياسية في خلفياتها، على سبيل المثال ما جرى مع المطور العقاري هشام طلعت مصطفى، الذي تم إطلاق سراحه من السجن الذي يقضي فيه عقوبة 10 سنوات بعد تورطه في قتل المطربة اللبنانية سوزان تميم، بعفو رئاسي، قبل أن تعلن بعدها مجموعة طلعت مصطفى العقارية عن ضخ استثمارات بنحو 4 مليارات جنيه (نحو 63 مليون دولار)، زادت بعد ذلك، لتنفيذ مشاريع عقارية بالعاصمة الإدارية الجديدة.
ودللت المصادر بتراجع الجدوى الاقتصادية من هذه المشاريع في الوقت الحالي، حيث يعاني الاقتصاد العالمي من أزمات متعددة، بما حدث في 2018، قائلة: "حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة في مصر عام 2018، بلغ 3.6 مليارات دولار، وبلغ حجم ما أخرجه الأجانب من أموال للخارج في نفس العام 3.7 مليارات دولار". وأوضحت أن هناك من نصح السيسي، عقب انسحاب العبار، ورفض شركات صينية تنفيذ المشروع، بأن يتم الإعلان عن تبني الهيئة الهندسية تنفيذه، بحيث تنفذ ضربة البداية، ووقتها سيكون هناك وسائل لدفع رجال الأعمال المصريين للاستثمار هناك، وهو تم تنفيذه بعد ذلك.
وكانت الحكومة المصرية قد ألغت مذكرة التفاهم المبرمة مع شركة "كابيتال سيتي بارتنرز"، التي يديرها رجل الأعمال الإماراتي محمد العبار، بشأن تنفيذ العاصمة الإدارية الجديدة، وهو الأمر الذي برره العبار، في تصريحات تلفزيونية وقتها، بأن الحكومة المصرية غيرت رأيها في بعض البنود، ويحق لها لأن الاتفاق غير ملزم، وبالتالي لم نتفق على وجهة نظر واحدة، ولذلك انسحبنا من المشروع.
العوائد دافع رئيسي لإقناع السيسي بها كمصدر مهم للتمويل
في المقابل، قال متخصص مصري في مجال الآثار إنه منذ نحو 8 سنوات طرأ على عمليات الاتجار بالآثار متغير جديد، فبعد أن كانت عمليات البيع والتهريب تتم لصالح صالات مزادات في أوروبا، ويتم التهريب عبر طرود دبلوماسية عن طريق سفارات أفريقية في القاهرة، ظهرت دول الخليج كسوق نشط لبيع الآثار المصرية المهربة، وغير المسجلة. وظهرت أسماء أمراء، وعدد من أثرياء الخليج في هذا السوق، الذي شهد تواجد الإمارات والسعودية والكويت، وبعض الشخصيات القطرية.
حجم عوائد هذه التجارة كان دافعاً رئيسياً لبعض المقربين من الرئيس أن يقنعوه بها كمصدر مهم، يغطي خططه بشأن "الإنجازات الشعبية" التي يسعى لتقديمها كعنصر مساعد، بدلاً من التركيز على القروض، ورفع أسعار الخدمات المقدمة للمواطنين. وأكد مصدر خاص أنه بعد إطلاع السيسي على قائمة تضم رجال أعمال مصريين بارزين يعملون في تجارة وتهريب الآثار، التي أعدتها جهة سيادية، كلف مقربين بوضع تصور كامل بشأن توظيف هذه الآلية لإنقاذ الوضع الاقتصادي المتردي، بسبب السياسات التي تم اتباعها خلال بداية حكمه. وكان في مقدمة هذه السياسات تفريعة قناة السويس، التي تسببت في أزمة النقد الأجنبي، وانخفاض السيولة المالية بالبنوك المحلية، بعد سحب المصريين مدخراتهم، لشراء شهادات استثمار قناة السويس ذات الفائدة الأعلى حينها. وأوضح المصدر أن ما شجع الرئيس على المضي قدماً في هذا التوجه، هو مشاركة أجهزة سيادية مهمة في الدولة خلال عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك في تلك التجارة، في إشارة إلى جهاز أمن الدولة قبل تغيير اسمه إلى الأمن الوطني، وهو ما كشفته تقارير سيادية أيضاً كان السيسي على علم بها. وأكد أن بعض تلك الشخصيات الأمنية والأجهزة كانت تقوم بعملية غسيل لتلك الأموال في أنشطة اقتصادية، بالتشارك مع رجال أعمال على علاقات جيدة بها، مقابل تبادل مصالح.
وأوضح المصدر أن الاعتماد على الأموال المتوفرة من عمليات بيع الآثار المصرية في الخليج كانت النواة التي وفرت الأساس الذي تم عليه بناء الشروع في تنفيذ العديد من المشاريع التي أعلن عنها السيسي. ولكن بالطبع كانت هناك أمور أخرى مساعدة، منها على سبيل المثال حصيلة بيع أراضي الدولة دون أن تدخل ميزانية الدولة، حيث صدرت قرارات تخص القوات المسلحة بنسبة 51 في المائة وهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة بنسبة 49 في المائة من أراضي العاصمة الإدارية الجديدة، لتضخ مواردها بميزانية الهيئتين المستقلتين عن ميزانية الدولة، لينفق منهما على الاستثمارات في العاصمة الإدارية الجديدة.
وأعلنت الإمارات، في نوفمبر/تشرين الثاني 2017، افتتاح متحف جديد، يشمل مقتنيات فنية مملوكة لحكومة أبوظبي، وأخرى أثرية مُعارة من متحف اللوفر بفرنسا، بهدف جذب الملايين من الزوار سنوياً. وفي 17 يونيو/حزيران 2017، أعلن السيسي تعيين نفسه رئيساً لمجلس أمناء المتحف المصري، لما تمثله المقاصد الأثرية من ثروة قومية. وأصدر المجلس قراراً، بعدها بيومين، بمنع استخدام الكاميرات داخل المخازن، بدعوى الحفاظ على الآثار من السرقة. وفي 25 يوليو/تموز 2017، وفي واقعة تعد الأولى من نوعها انقطعت الكهرباء، لمدة تزيد عن الساعتين بمطار القاهرة، ما تسبب في تأخر إقلاع 12 رحلة طيران دولية، قبل أن يعلن في 16 أغسطس/آب عن اختفاء 33 ألف قطعة أثرية من مخازن المتاحف.
ومنعت صحيفة "المصري اليوم"، المملوكة لرجل الأعمال صلاح دياب، وقتها نشر مقال لرئيس تحرير صحيفة "الأهرام" السابق عبد الناصر سلامة، شن خلاله هجوماً حاداً على الإمارات، بعد الكشف عن عرضها مقتنيات تاريخية تعود إلى العصر الفرعوني في متحف "اللوفر" بأبوظبي. ونشر سلامة مقاله الممنوع على صفحته الشخصية بموقع "فيسبوك"، متسائلاً عن مصدر القطع الأثرية المصرية التي ظهرت خلال جولة تفقدية لمتحف أبوظبي لكل من حاكم دبي محمد بن راشد، وولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، ويقول المسؤولون في الإمارة الخليجية إنها ضُمت إليه في الآونة الأخيرة. وقال سلامة إن "المتحف الإماراتي يضم العديد من الآثار الفرعونية، ما يطرح تساؤلات مهمة، مثل: متى خرجت هذه القطع من مصر، ومن بينها توابيت كاملة كبيرة الحجم؟ ومن هو صاحب القرار في هذا الشأن؟ وإذا كان مصدرها ليس مصر مباشرةً، أو جاءت من متحف اللوفر بباريس، فهل وافق الجانب المصري على ذلك؟".