في الشكل كانت الردود الأميركية عارمة على مقتل الزميلة الصحافية شيرين أبو عاقلة، أمس الأربعاء، خلال تغطيتها عدوان الاحتلال الإسرائيلي على مخيم جنين، شمالي الضفة.
فمن البيت الأبيض ووزارة الخارجية وصولاً إلى وسائل الإعلام التي أبرزت الحدث على صفحاتها ونشراتها الرئيسية، تقاطعت المواقف عند "الإدانة" ورفض الاعتداء على حرية الصحافة والصحافيين، مع المطالبة "بتحقيق شامل وكامل" يصار على أساسه إلى "محاسبة" القاتل.
لكن إذا كان للسوابق من دليل، فإن المشاعر الفياضة التي جرى التعبير عنها أمس في واشنطن لن تتخطى لحظتها وحدودها اللفظية. حالات مشابهة انتهى ملفها إلى النسيان برغم الإصرار على وجوب معرفة الأسباب. آخرها كانت وفاة المسن الفلسطيني عمر أسعد، الحامل للجنسية الأميركية، في يناير/ كانون الثاني الماضي. يومذاك قالت وزارة الخارجية الأميركية إنها طالبت إسرائيل "بتحقيق شامل" وبإطلاعها عليه. وحتى الآن القضية نائمة.
لو كان في النية هذه المرة كسر المألوف المعروفة نتائجه مسبقاً، لكان على الإدارة الأميركية برئاسة جو بايدن الإعلان عن رغبتها، بل عن إصرارها على المشاركة في التحقيق، على الأقل لأن المغدورة صحافية تحمل الجنسية الأميركية. وكان وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن قد شدد في كلمته، الأسبوع الماضي، بمناسبة "اليوم العالمي لحرية الصحافة"، على أهمية حرية الصحافة والتزام واشنطن بحمايتها. لكن يبدو باستثناء إسرائيل.
أما الناطق باسم الخارجية نيد برايس، فقد بدا خلال رده على الأسئلة كمن يحاول "المشي بين حبال المطر". مساحة الدفاع ضيقة ومساواة إسرائيل بغيرها ممنوعة. أدان الحادثة بتغريدة ثم خصص لها افتتاحية اللقاء (الإيجاز) الصحافي اليومي، مكرراً فيها "الإدانة بقوة لمقتل المراسلة الفلسطينية الأميركية شيرين أبو عاقلة، كما نفعل عادة عند سقوط أي صحافي في العالم".
Shireen was a veteran reporter, followed closely by those who care about the region. The Secretary spoke just one week ago on #WorldPressFreedomDay about the fundamental role journalists play. It’s heart-wrenching to see the killing of another journalist a week later. pic.twitter.com/lEf0aRZJWs
— Ned Price (@StateDeptSpox) May 11, 2022
خلت مقدمته من أي إشارة لإسرائيل أو لظروف الجريمة ما عدا ذكر المكان "في الضفة الغربية". طبعا من دون الإشارة إلى وضعيتها "المحتلة". أبدى في المقابل الثقة بقدرة إسرائيل على القيام وحدها بالإجراءات اللازمة لاستبيان الحقيقة، زاعماً أنه لا حاجة لتحقيقات دولية أو مشاركة أي طرف آخر فيه. "الجانب الفلسطيني قد يقوم بتحقيقاته الخاصة"، وهذا شأنه، أما أن يشارك فهذا غير وارد، ولا حتى واشنطن برغم أن الضحية أميركية.
"دورنا عند وفاة مواطن أميركي في الخارج يقتصر على تقديم الدعم القنصلي، وهذا ما ننوي عمله الآن"، كما قال برايس في معرض رده على سؤال لـ"العربي الجديد" عما إذا كانت الإدارة تعتزم فتح تحقيق خاص بها أو العمل مع إسرائيل لكشف ظروف استشهاد شيرين أبو عاقلة. صحيح. لكن هذا النوع من الدعم يحصل في حالات الوفاة العادية غير الاغتيال. في هذه الأخيرة، الأمر مختلف، إلا في إسرائيل، لأن طريق المساءلة غير سالك، ناهيك عن المحاسبة.
تواجه إدارة بايدن حالة وضعت نفسها فيها وتتسبب لها بالمزيد من تآكل صدقيتها. تعطي الوعود مع ترك الانطباع بعزمها على الإسراع في التنفيذ، لتعود وتتراجع عند الاستحقاق، كما قال المحلل بيتر باينرت في واحد من تصريحاته.
من بين تلك الوعود إعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس وموضوع حل الدولتين. الأولى برغم بساطتها تعذر على بايدن ترجمتها على أرض الواقع لأن إسرائيل مانعت فتحها. حساباته المحلية وخوفه من الكونغرس، تسببا في شل قدرته. والآن تأتي هذه الجريمة لتزيد من الانكشاف. فالإدارة تعرف جيدا أن تحقيقات إسرائيل في عمليات القتل من هذا النوع هي نفسها تحتاج إلى تحقيق.
السجل الإسرائيلي حافل بالحوادث المشابهة التي تركت تنطفئ من غير متابعة ولا مساءلة. مع ذلك ما كان بإمكانها أكثر من العودة إلى الأسطوانة المكسورة نفسها: التعبير عن "القلق" مع "إدانة" خجولة أفرغت سلفاً من مضمونها بترك استبيان ظروف جريمة أصدر رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينت حكمه مسبقاً بشأنها، عندما قال ما يفيد بأن شيرين أبو عاقلة استشهدت جراء إطلاق نار عشوائي من جانب الفلسطينيين في المخيم.