أخفقت وساطات عدة قادتها قوى سياسية في بغداد، في احتواء التوتر الأمني والسياسي الذي تعيشه منذ أسابيع عدة مدينة السليمانية، ثاني كبرى مدن إقليم كردستان العراق، على خلفية الصراع الحالي بين قطبي حزب الاتحاد الوطني الكردستاني (حاكم مدينة السليمانية)، وهما جناح بافل الطالباني، نجل جلال الطالباني، مؤسس الحزب وثاني الرؤساء العراقيين عقب الغزو الأميركي عام 2003، وجناح لاهور شيخ جنكي الطالباني، الرجل الأمني الذي تولى إدارة مناصب أمنية عدة، قبل أن يصبح رئيساً مشتركاً للحزب إلى جانب ابن عمه بافل العام الماضي.
وكان المؤتمر الرابع لحزب الاتحاد الوطني الكردستاني، الذي عُقد في مدينة السليمانية في أوائل العام الماضي، قد انتخب كلا من بافل الطالباني ولاهور شيخ جنكي كرئيسين مشتركين للحزب، على أن يسيّر الأول الشؤون السياسية، بينما تُترك الملفات الأمنية للثاني. ومطلع الشهر الماضي، أصدر بافل الطالباني، قرارات عدة وُصفت بالانقلاب الأبيض، جرّد من خلالها شريكه في رئاسة الحزب، لاهور شيخ جنكي، من صلاحيات واسعة، فضلاً عن إقالة عدد من القيادات الأمنية البارزة المرتبطة به أو المحسوبة على جناحه، وتحديداً تغيير رئيسي مؤسسة المعلومات، ومؤسسة مكافحة الإرهاب في السليمانية. وكان على رأس المؤسستين شخصيات محسوبة على شيخ جنكي تم استبدالهما بآخرين أقرب إلى بافل. وهو ما دفع شيخ جنكي إلى تحشيد أنصاره بالسلاح وسط مدينة السليمانية، واتهام بافل الطالباني بتلقي دعم خارجي للانقلاب عليه، قبل أن تنجح وساطة الرئيس العراقي برهم صالح في احتواء التصعيد ومنع تحوله إلى صدام مسلح.
أصدرت محكمة السليمانية مذكرة اعتقال بحق لاهور شيخ جنكي
لكن الأزمة عادت لتبرز أخيراً، مع إصدار محكمة السليمانية مذكرة اعتقال بحق لاهور شيخ جنكي بتهم مختلفة، منها التجسس لصالح جهات لم تسمها، وتوظيف أشخاص وهميين في الأجهزة الأمنية التي يديرها، إلى جانب اتهام ضباط وحاشية موالية له بالتورط في انتهاكات، وفق مصادر مسؤولة في حزب الاتحاد الوطني الكردستاني تحدثت لـ"العربي الجديد".
وقالت المصادر ذاتها إن "الخلافات الأخيرة التي بدأت بتغيير في رأس هرم المناصب الأمنية وتطورت لتشمل ملفات سياسية أخرى، توسعت الآن إلى فتح ملفات جديدة مرتبطة بالفساد، منها ما يتعلق بعمليات تهريب النفط وبمشاريع وعقود إعادة إعمار، وتسجيل أشخاص وهميين في الأجهزة الأمنية وتلقي مرتبات بدلاً عنهم، إضافة إلى فتح ملفات انتهاكات إنسانية وقعت أغلبها في مناطق متنازع عليها بين بغداد وأربيل بحق المكونين العربي والتركماني، ويتورط فيها أشخاص محسوبون على شيخ جنكي".
وكشفت المصادر عن "عزل شخصيات أمنية وأخرى في مناصب إدارية وخدمية في السليمانية وحلبجة، محسوبة على شيخ جنكي، الذي تلقّى مقترحات عدة للتهدئة، من بينها مغادرة الإقليم مؤقتاً، لكنه رفض ذلك". ولفتت إلى أنّ "وساطات لشخصيات سياسية في بغداد، أبرزها لرئيسي الحكومة السابقين، نوري المالكي وحيدر العبادي، إضافة إلى زعيم تيار الحكمة عمار الحكيم، عبر اتصالات هاتفية ومبعوثين إلى كلا الطرفين، سعت لاحتواء تطور الأزمة، ومحاولة إلغاء أمر القبض الذي أصدرته محكمة السليمانية بحق الشيخ جنكي، خوفاً من اصطدام مسلح مع أتباع الأخير، خاصة من أفراد جهاز مكافحة الإرهاب الذي كان يرأسه لسنوات طويلة. لكن ذلك لم يتحقق، على الرغم من وعود بعدم تنفيذ مذكرة القبض في الوقت الحالي بحق شيخ جنكي، الذي يلتزم منزله منذ أيام، وتحيطه عناصر أمنية تابعة له وآخرون من أنصاره، تحسباً لتنفيذ مذكرة الاعتقال بحقه".
ولفتت المصادر إلى أن "شيخ جنكي يسعى إلى التصعيد ضد بافل الطالباني، عبر شحن جماهيره ضد بعض قادة حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، الأمر الذي أدى إلى صدور إجراءات جديدة، من بينها أوامر اعتقال بحق مسؤولين محليين، منهم مدير صحة السليمانية صباح هورامي، والنائب السابق ميران عباس، فضلاً عن أوامر قبض بحق عدد من الضباط المقربين من شيخ جنكي".
رفض شيخ جنكي مقترحات للتهدئة منها مغادرة كردستان مؤقتاً
وأقرّ عضو الاتحاد الوطني الكردستاني في السليمانية، محمد كركوكلي، بحساسية الأوضاع في المدينة عموماً بسبب الأزمة السياسية الحالية بين جناحي الحزب، موضحاً أنّ "هناك أطرافاً داخل الإقليم نفسه مستفيدة من حالة الصراع، وأخرى خارجه، أبرزها تركيا التي ترى في شيخ جنكي شخصاً لا يمكن التعامل معه". ولفت كركوكلي، في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أن "فرص عقد مؤتمر للحزب لبحث الأزمة وتسويتها تتراجع، ويبدو أن منطق القوي والأقوى والأمر الواقع، هو ما سيفرض نفسه في النهاية على الأزمة الحالية".
وترى أوساط سياسية في بغداد وإقليم كردستان، أن الحزب الديمقراطي الكردستاني الحاكم في أربيل، يدعم جهود عائلة جلال الطالباني في إزاحة لاهور شيخ جنكي. غير أنّ القيادي في "الديمقراطي الكردستاني"، ماجد شنكالي، أكد أن "حزبه لم يتدخل في هذا الخلاف، ولا يوجد أي دعم لأي قطب من قطبي الصراع"، موضحاً في حديث مع "العربي الجديد"، أن "قادة حزب الاتحاد الوطني هم المسؤولون عن الصراع الدائر داخل حزبهم وفي مدينة السليمانية، والذي تتمحور أسبابه حول زعامة الحزب".
واعتبر شنكالي أن "حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، كان مقدراً له أن يصل إلى هذا الصراع، لأنّ الزعامة المشتركة غير ناجحة في معظم دول المنطقة، وبالتالي لا بدّ من أن يزيح طرف الطرف الآخر"، لافتاً إلى أنّ "الحزب الديمقراطي الكردستاني يدعم الوصول إلى حل، لأن هذا الخلاف قد يؤدي إلى مشاكل في مدينة السليمانية، مما قد ينعكس على مدن إقليم كردستان كلها".
ترى أوساط سياسية أن الحزب الديمقراطي الكردستاني الحاكم في أربيل، يدعم جهود عائلة جلال الطالباني في إزاحة لاهور شيخ جنكي
من جهته، قال المحلل السياسي الكردي محمود خوشناو، إن "الاتحاد الوطني الكردستاني، من الأساس لا يمثل فكرة واحدة، إنما مجموعة أفكار متحدة في ما بينها، والمتطلع على تاريخ الحزب منذ عام 1975، سيجد أنه يشهد خلافات من هذا النوع كل عام، حتى أن آخر انشقاق كان لرئيس الجمهورية الحالي برهم صالح (في فبراير/شباط 2020)". وأضاف خوشناو، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "الإصلاحات التي أطلقها المكتب السياسي للحزب، لم يفهمها لاهور شيخ جنكي في بداية الأمر، وهو ما دفعه إلى المواجهة مع بافل الطالباني". وأكد أن "جميع القرارات سواءً داخل الحزب، أو الأمنية والسياسية، صدرت عن المكتب السياسي لحزب الاتحاد الوطني الكردستاني، وليس عن بافل الطالباني".
أما الصحافي المختص بشؤون الإقليم الكردي، سامان داود، فقد رأى أن "الصراع الذي هز الجدران الداخلية للاتحاد الوطني الكردستاني، يعود أساسه إلى مشكلة نظام الرئاسة المشتركة الذي أقر بشكل عاجل قبيل مؤتمر الاتحاد الأخير، وذلك بسبب ظهور رغبة في الترشح لرئاسة الحزب لدى كل من بافل الطالباني وابن عمه لاهور، من دون أن يتمكن أي من المرشحين من ضمان فوزه في الانتخابات الداخلية للحزب، ما دفع الطرفين إلى الذهاب نحو تسوية لا خاسر ولا رابح فيها، من خلال اعتماد نظام الرئاسة المشتركة". وأكد داود، في حديث مع "العربي الجديد"، أنه "بعد انتهاء المؤتمر، بدأ الرئيسان المشتركان السعي للهيمنة على الحزب من خلال الاستحواذ على الأجهزة الأمنية والمفاصل الاقتصادية في السليمانية".