في الثالث عشر من سبتمبر/أيلول؛ حلت الذكرى الثلاثون لتوقيع اتّفاق أوسلو، بين منظّمة التحرير الفلسطينية؛ برئاسة ياسر عرفات، وحكومة دولة الاحتلال؛ برئاسة إسحاق رابين. طوال الثلاثين عامًا الماضية؛ لم تتوقف النقاشات والتحليلات من مختلف الأطراف الفلسطينية، والمهتمة بالقضية الفلسطينية، المؤيدة منها للاتّفاق أو المعارضة له، أو التي تأخذ موقف الوسط منه، على اعتباره (شرًا لا بد منه).
ولكي نستطيع بناء رأيٍ أو موقفٍ علميٍ من الاتّفاق لا بدّ لنا؛ ولو سريعًا، معرفة سياقه المرحلي والتاريخي، ودوافعه لدى كلٍّ من الطرفين، إضافةً إلى دراسة نتائج الاتّفاق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والهيكلية. هذه النتائج ربّما لم تكن دراستها متاحةً لحظة توقيعه، لكن كان من الممكن التنبؤ بها، أو ببعضها.
السياق التاريخي للاتّفاق
١-على الصعيد الفلسطيني
هنا سوف نكتفي بالعودة إلى دورة المجلس الوطني الفلسطيني التاسعة عشر، المنعقدة في الجزائر عام 1988، التي نتجت منها وثيقة الاستقلال، وإعلان الدولة الفلسطينية، على أساس حلّ الدولتين، وقرار مجلس الأمن 242 لعام 1967؛ المختَلف على تفسيره، ما يمثّل تراجعًا واضحًا ليس عن الميثاق الوطني الفلسطيني لمنظّمة التحرير فحسب، إنّما عن برنامج النقاط العشر أيضًا. تلا هذا الإعلان؛ خطاب الراحل ياسر عرفات أمام الجمعية العامّة في جنيف من العام نفسه، الذي اعترف به صراحةً بإسرائيل، وبقرار مجلس الأمن 242، إضافةً إلى "نبذ الإرهاب"، مقابل موافقة الإدارة الأميركية على فتح باب الحوار معه.
إنّ توقيع اتّفاقية أوسلو كان خطأً فادحًا، أضر بالقضية الفلسطينية، إلّا أنّ الخطأ الأكبر هو الاستمرار على هذا النهج
وفي السياق التاريخي أيضًا؛ لا يمكن تجاهل الانتفاضة الأولى، التي دفعت ياسر عرفات إلى تسريع الخطى نحو مشروع السلام، لضمان موطئ قدمٍ له في المرحلة القادمة، إذ أنتجت هذه الانتفاضة جيلًا جديدًا داخل الأراضي المحتلّة، منهم قادةٌ مستقلون عن منظّمة التحرير، ولا يخضعون مباشرةً لها.
كما مثّل الظرف الدولي في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات دافعًا إضافيًا للدخول في عملية التسوية، إذ بدا واضحًا أثر اجتياح العراق الكويت، وحرب الخليج الثانية، وخروج أميركا منتصرةً على الصعيد الدولي، وتحوّلها إلى قطبٍ عالميٍ أوحدٍ يفرض أجندته على المنطقة، بعد انهيار الاتّحاد السوفياتي، والمنظومة الاشتراكية الداعمين الدوليين الرئيسيين للقضية الفلسطينية. كما انتقمت الكويت من الفلسطينيين، منها طردتهم من الكويت، ردًا على انحياز منظّمة التحرير للعراق، ولا يخفى على أحدٍ أنهم كانوا يشكلون أحد الحوامل الاقتصادية المهمة، للمنظّمة وللانتفاضة الأولى، كما أدّى هذا الانحياز إلى ازدياد عزلة منظّمة التحرير من قبل الأنظمة العربية.
٢- على صعيد الاحتلال الصهيوني
دخل الاقتصاد الإسرائيلي بأزمة كسادٍ وتضخمٍ، وتراجعت معدلات النمو، وازدادت الأسعار نتيجةً لحرب أكتوبر 1973، كما فاقم اجتياح لبنان عام 1982 هذه الأزمة، وطرد منظّمة التحرير بعد ارتكاب مجازر عديدةٍ، إما مباشرةً أو عن طريق وكلاء الاحتلال، ما ساهم في اهتزاز صورة الاحتلال عالميًا، فكاد الاقتصاد الإسرائيلي أن ينهار لولا خطة الإصلاح الاقتصادي، إضافةً إلى المنحةٍ الاقتصادية الأميركية (1.5 مليار دولار). إلّا أنه وبعد عامين على الخطة الاقتصادية؛ التي ساهمت بتعافي الاقتصاد، وارتفاع معدلات النمو، وانخفاض نسبة البطالة اندلعت الانتفاضة الأولى، ما أدّى إلى إرباك الاقتصاد مرّةً أخرى، وتوقف الانتعاش والنمو، لا سيّما بعد عجز الاحتلال عن احتوائها بالطرق العسكرية القمعية، في وقتٍ كان لاحتوائها ضرورةً اقتصاديةً وديموغرافيةً، تحديدًا في مرحلة ما بعد انهيار الاتّحاد السوفياتي، استعدادًا لاستيعاب موجة هجرةٍ روسيةٍ زادت عن مليون مهاجرٍ.
نتائج الاتّفاق على الفلسطينيين
١- سياسيًا
سبق توقيع اتّفاقية أوسلو تبادلٍ لرسائل الاعتراف بين منظّمة التحرير والاحتلال، ففي حين اعترفت المنظّمة؛ على لسان رئيسها ياسر عرفات "بحقّ دولة إسرائيل في الوجود"، لم يعترف رابين بحقّ دولة فلسطين في الوجود، إنّما اكتفى بـ "الاعتراف بمنظّمة التحرير بوصفها ممثّلٍ للشعب الفلسطيني"، وهنا تكمن إشكاليتان، الأولى الاعتراف بحقّ إسرائيل في الوجود دون مقابلٍ، والثانية أن المنظّمة باتت تستجدي تمثيلها للشعب الفلسطيني من محتل هذا الشعب وأرضه، وليس من الشعب نفسه. هذا ما أثر على مكانة منظّمة التحرير كثيرًا، إذ تغير دورها من حركة تحررٍ وطنيٍ إلى سلطةٍ مقيدةٍ من قبل الاحتلال.
كما ساهم الاتّفاق بزيادة الشرخ، والهوة في المشهد السياسي الفلسطيني، كون معظم الفصائل الفلسطينية باستثناء حركة فتح؛ المنضوية وغير المنضوية في منظّمة التحرير، قد عارضت الاتّفاق.
كما أنّ الاتّفاق لم يأت إلّا بالخيبة لفلسطينيي الأراضي المحتلة عام 1948، ما دفع القوى الوطنية إلى إيجاد حلولٍ وطرقٍ جديدةٍ في مواجهة الأسرلة المفروضة عليهم.
كما هُمشت قضية اللاجئين نتيجة عدم التمسك بقرار الجمعية العامّة للأمم المتّحدة 194، وهي إحدى أهمّ ركائز القضية الفلسطينية.
كما لا يمكن أن نغفل عن الدور الذي لعبه الاتّفاق في فتح باب التطبيع مع الاحتلال أمام الأنظمة العربية، التي كررت في أكثر من مناسبةٍ "نرضى بما يرضى به الفلسطينيون".
٢- اقتصاديًا واجتماعيًا
نتج من اتّفاق أوسلو وملحقاته (اتّفاق أوسلو ٢ واتّفاقية باريس) اقتصادٌ فلسطينيٌ هشٌ مرتبط ارتباطًا وثيقًا ومحكمًا بالاقتصاد والإدارة الإسرائيلية، ومعتمدٌ كثيرًا على المساعدات العربية والدولية، المقدمة للسلطة الفلسطينية، والتي تمر عبر الاحتلال، والخاضعة لمزاج المانحين (قطعت المساعدات بعد فوز حماس بانتخابات 2006). كما أنّ السلطة لا تملك أيّة معابر، ما يسمح للاحتلال بالتحكم في الاستيراد والتصدير، معرقلًا بذلك أيّ فرصةٍ لتطوير الصناعات المحلية، حتّى البسيطة منها، إذ يمنع استيراد أكثر من مائة صنفٍ من المواد الخام، التي تدخل في الصناعات الجلدية والإنشائية والغذائية والهندسية والمعدنية والنسيج والصحية وغيرها. وتعطي الاتّفاقيات الاحتلال الحقّ بإدارة الموارد المائية الشحيحة، وحرمان الفلسطينيين من معظمها.
الثانية أن المنظّمة باتت تستجدي تمثيلها للشعب الفلسطيني من محتل هذا الشعب وأرضه، وليس من الشعب نفسه
جغرافيًا؛ يسيطر الاحتلال على المنطقة ج كلّيًا، والتي تشكل 60% من مساحة الضفّة الغربية المحتلّة، ما يحدّ من قدرة قطاع الزراعة على التوسع والازدهار، ويحرم الفلسطينيين من قطاع الكسارات واستخراج الحجارة.
أوقع الاتّفاق الفلسطينيين في الضفّة والقطاع تحت قمعٍ مزدوجٍ، فتحوّلت السلطة إلى الخط القمعي الأول، فهي المسؤولة عن ضمان أمن إسرائيل، من العمليات الفدائية الفلسطينية، ما جعل الشعب الفلسطيني يضطر للمرّة الأولى؛ في سبيل نضاله ضدّ الاحتلال، أن يصطدم مباشرة مع الفلسطيني الآخر، ما خلق شرخًا كبيرًا داخل المجتمع، ينذر بحربٍ أهليةٍ شاملةٍ، وما أحداث 2007 في غزّة بين فتح وحماس؛ ضمن صراعهما على السلطة، إلّا مؤشرًا بسيطًا على ذلك.
فتح أوسلو الباب على مصراعيه أمام المنظمات غير الحكومية (NGOs)، الكبيرة منها والصغيرة، ولا يغفل على أحدٍ الدور السلبي الذي لعبته هذه المنظّمات في تدمير البنية الاجتماعية، فالعمل ضمن هذه المنظّمات أصبح حلمًا يراود شبانًا فلسطينيين كثر، نتيجة ارتفاع نسبة البطالة من جهةٍ، ومرتباتها المرتفعة؛ مقارنةً بسوق العمل المحلية، من جهةٍ أخرى. رغم أنّ استيعابها لليد العاملة محدودٌ، إلّا أنّها تستقطب العديّد من الكفاءات التي لا تستطيع ضمن هذه المنظّمات مراكمة أيّ خبراتٍ، وفي الوقت نفسه تحرم الاقتصاد المحلي من الاستفادة من هذه الكفاءات، التي تحوّلت إلى فئةٍ مضافةٍ إلى الفئة المستفيدة من السلطة، خصوصًا كبار الموظفين ورجال الأعمال، المرتبطين ارتباطًا مصلحيًا ووجوديًا باتّفاق أوسلو ومؤسساته، ما فرض تغيرًا في طبيعة العلاقة مع الاحتلال، وطريقة مواجهته، إلى حدّ أنّ بقاء الاحتلال، واستقرار العلاقة معه أصبح شرطًا موضوعيًّا لوجود هذه الفئات.
٣- البنية الهيكلية
من أهمّ مشاكل الاتّفاق أنّه خلق سلطةً من دون دولةٍ، ما ساهم في تحوّل النضال من أجل التحرير وإنشاء الدولة، إلى صراعٍ على سلطةٍ لا دولة لها، ولا سيادةً، إذ أخضعَ الراحل ياسر عرفات؛ ومن بعده محمود عباس، منظّمة التحرير للسلطة، ما أفقدَ المنظّمة تمثيلها لكافّة الشعب الفلسطيني، في الداخل المحتل وفي الشتات.
وفي مقابل الهياكل الاقتصادية الضعيفة، أو المعدومة، إضافةً إلى عدم السماح بوجود جيشٍ، فإن أساس البنية الهيكلية للسلطة قائمٌ على القوى الأمنية، إذ يقارب عدد موظفي السلطة الـ 150 ألفًا، أكثر من نصفهم من منتسبي الأجهزة الأمنية. مثل هذه البنية؛ لا يمكن أن يفهم سببٌ لوجودها، سوى أنّها قوىً رديفةٌ للاحتلال في قمع الشعب الفلسطيني.
نتائج الاتّفاق إسرائيليًا
١- سياسيًا
بدأ الاحتلال بحصد المكاسب السياسية قبل توقيع الاتّفاق، فحصل على اعتراف ياسر عرفات؛ رئيس المنظّمة، عام 1988، وكشرطٍ من الاحتلال للمشاركة في مؤتمر مدريد؛ ألغت الأمم المتّحدة القرار 3379 لعام 1975، الذي كان يعتبر الصهيونية أحد أشكال العنصرية.
كما لم يُلحق اعتراف الاحتلال بمنظّمة التحرير ممثّلًا للفلسطينيين أيّ ضررٍ بالاحتلال، طالما لم يعترف بحقّ الفلسطينيين بإقامة دولةٍ فلسطينيةٍ على أرضهم، لذلك يعتبر الاتّفاق انتصارًا للرواية التاريخية الصهيونية، مقابل الرواية التاريخية الفلسطينية.
مثّل توقيع اتّفاقية أوسلو إعلانًا عن نهاية الانتفاضة الأولى، التي عجز الاحتلال عن إيجاد الحلول لها، ومن بعده قل احتكاك الاحتلال بالشعب الفلسطيني في الضفّة والقطاع، فأصبح قادرًا على إدارة الفلسطينيين وقمعهم بواسطة السلطة الفلسطينية، ما أعفاه من مسؤولياته في هذه المناطق، إذ أجهضت السلطة انتفاضاتٍ أخرى، مثل انتفاضة السكاكين، وهبّة كلّ فلسطين من خلال التنسيق الأمني المتنامي.
أوقع الاتّفاق الفلسطينيين في الضفّة والقطاع تحت قمعٍ مزدوجٍ، فتحوّلت السلطة إلى الخط القمعي الأول
كما ساهم الاتّفاق في تلميع صورة الاحتلال عالميًا، وفتح عديد الأبواب المغلقة في وجهه، ومن ضمنها أبواب الدول العربية.
٢- اقتصاديًا
ضغط رجال الأعمال الإسرائيليون من أجل توجه ساستهم نحو العملية السلمية، فلم يمضِ سوى عامين على الإصلاح الاقتصادي، حتّى أطاح اندلاع الانتفاضة الأولى ببيئة الأعمال والاستثمار، وبعد فشل الحسم العسكري، وانكشاف طبيعة الاحتلال عالميًا، كان الانخراط بالمفاوضات وصولاً إلى أوسلو مخرج الاحتلال من أزمته السياسية والاقتصادية، إذ مكّنه الانخراط في عملية التسوية من الدخول إلى الأسواق العالمية، خاصّةً التي كانت تقاطعه اقتصاديًا، وساعدت العلاقات الدبلوماسية الحسنة، وأجواء الاستقرار التي نشأت على زيادة حجم التصدير، وعلى الاستثمار الإسرائيلي في الخارج، وعلى الاستثمار الأجنبي في إسرائيل.
وأخيراً يبقى السؤال: هل كان من خيارٍ آخر أمام القيادة الفلسطينية في مواجهة تحدّيات تلك المرحلة؟
إن مشروع التسوية لم يكن إلّا محاولةً من قبل الاحتلال لتصفية القضية الفلسطينية، فبعد أن أعادت الانتفاضة الأولى الزخم للقضية الفلسطينية؛ على المستويات العالمي والعربي والفلسطيني، بعد سنواتٍ من إخراج منظّمة التحرير من لبنان، كان من الأجدى إعادة هيكلة منظّمة التحرير، وإجراء تغييراتٍ جوهريةً، تبدأ من رأس الهرم، لتمثّل الشعب الفلسطيني؛ في الداخل المحتل وفي الشتات، ويمكّنها من استثمار الانتفاضة، وتطوير مختلف أنماط الثورة الشعبية؛ من ضمنها الكفاح المسلّح، بما لا يصل بها إلى أفقٍ مسدودٍ، وتنشيط حملات المقاطعة في وجه الاحتلال، إذ أثبتت هذه الحملات فاعليتها في العديد من ثورات التحرر الوطني؛ جنوب أفريقيا مثالاً.
إنّ توقيع اتّفاقية أوسلو كان خطأً فادحًا، أضر بالقضية الفلسطينية، إلّا أنّ الخطأ الأكبر هو الاستمرار على هذا النهج، الذي أثبت ضرره وفشله بالمطلق. لقد استطاع غسان كنفاني أن يجيب عن هذا السؤال بقوله "إذا كنا مدافعين فاشلين عن القضية.. فالأجدر بنا أن نغير المدافعين.. لا أن نغير القضية".