طوى العسكر والمدنيون في السودان، اليوم الإثنين، صفحة خصومة سياسية، امتدت لأكثر من عام، عقب الانقلاب العسكري لقائد الجيش الجنرال عبد الفتاح البرهان.
ووقع الطرفان في القصر الرئاسي في الخرطوم، بحضور دبلوماسي واسع، على اتفاق إطاري "مبدئي" ينص ضمن بنود أخرى على تشكيل حكومة مدنية دون مشاركة العسكر فيها، وبإصلاح المؤسسة العسكرية والأمنية ونأيها عن السياسة والاستثمارات التجارية عبر شركات خاصة.
ووقع كل من عبد الفتاح البرهان بصفته قائداً للجيش، ومحمد حمدان دقلو "حميدتي" بصفته قائدا لقوات الدعم السريع على الاتفاق، مقابل توقيع أحزاب الحرية والتغيير التي أطاحها الانقلاب العسكري، وأحزاب أخرى خارج التحالف وتنظيمات نقابية ومهنية، ليصل عدد الموقعين إلى نحو 40 تنظيماً، أبرزهم حزب الأمة القومي والتجمع الاتحادي والمؤتمر السوداني، والحركة الشعبية لتحرير السودان فصيل مالك عقار وحركة تحرير السودان المجلس الانتقالي وتجمع قوى التحرير، وواحد من فصيلي تجمع المهنيين السودانيين.
في المقابل، غاب عن التوقيع فصيل الحرية والتغيير الكتلة الديمقراطية، وحزب البعث العربي الاشتراكي والحزب الشيوعي ولجان المقاومة السودانية التي سيّرت موكباً نهار اليوم نحو القصر الرئاسي للتعبير عن رفضها للتسوية السياسية وتمسكها بعدم التفاوض مع العسكر، إلا أن الشرطة فرقته بالغاز المسيل للدموع قبل أن يصل إلى وجهته.
ويُعد الاتفاق الإطاري، الأول من نوعه عقب انقلاب قائد الجيش الجنرال عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، وتم التوصل إليه بدعم ورعاية لجنة رباعية مكونة من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والسعودية والإمارات، كما أشرفت عليه كذلك آلية ثلاثية مكونة من الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية للتنمية "إيغاد".
وللاتفاق الإطاري 4 بنود رئيسة أولها المبادئ العامة وثانيها قضايا ومهام الانتقال وثالثها يتعلق بهياكل السلطة الانتقالية ورابعها الأجهزة النظامية، وينص بشكل أكثر وضوحاً على تشكيل حكومة مدنية دون مشاركة العسكر فيها، كما ينص على بناء جيش وطني واحد، ودمج قوات الدعم السريع فيه.
"العسكر للثكنات والأحزاب للانتخابات"
وأعلن عبد الفتاح البرهان في كلمة له أمام مراسم التوقيع، عن التزام المؤسسة العسكرية بالاتفاق والعمل من أجل الوصول للاتفاق النهائي لتشكيل حكومة من كفاءات مستقلة، لكنه شدد على أهمية ابتعاد الأحزاب عن السلطة الانتقالية وتطبيق شعارات الثوار في الشوارع "العسكر للثكنات والأحزاب للانتخابات".
من جهته، أقر قائد قوات الدعم السريع محمد دقلو "حميدتي" بخطأ ما حدث في 25 أكتوبر، في إشارة إلى الانقلاب العسكري الأخير. وقال: "ما حدث في 25 أكتوبر، خطأ سياسي فتح الباب لعودة قوى الثورة المضادة، وقد انتبهنا لذلك منذ اليوم الأول، وعملنا على معالجته بالتواصل مع قوى الثورة، حتى وصلنا إلى الاتفاق الإطاري".
ورأى حميدتي أن الاتفاق "يُنهي الأزمة السياسية الراهنة، للتأسيس لفترة انتقالية جديدة، نتجنب فيها الأخطاء التي صاحبت الفترة الماضية"، معرباً عن أمله أن يكون الاتفاق خطوة أولية وأساسية لمعالجة الأخطاء السياسية، ومعالجة اختلالات الدولة، وبناء دولة العدالة الاجتماعية والحكم الراشد والسلام المستدام والديمقراطية.
وشدد على الاعتراف والاعتذار من الجميع عن عنف وأخطاء الدولة تجاه المجتمعات عبر مختلف الحقب التاريخية. وأشار حميدتي إلى أن ذلك العنف أهدر فرص البناء الوطني وتحقيق السلام والتنمية والوحدة والاستفادة من التنوع.
كما شدد على أهمية إقرار عمليات العدالة والعدالة الانتقالية، لرد المظالم وشفاء الجراح وبناء مجتمع متعاف ومتسامح، وانسحاب المؤسسة العسكرية من السياسة، "وهو ضروري لإقامة نظام ديمقراطي مستدام، وبناء جيش قومي، ومهني، ومستقل عن السياسة وإجراء إصلاحات عميقة في المؤسسة العسكرية تؤدي إلى جيش واحد، يعكس تنوع السودان، ويحمي النظام الديمقراطي، واستكمال السلام مع الحركات غير الموقعة، والعمل على عودة النازحين واللاجئين إلى قراهم الأصلية، ووضع أهمية خاصة لمعالجة قضية شرق السودان".
أرضية لاستعادة الحكم المدني
من جهته، عبر فولكر بيرتس رئيس بعثة الأمم المتحدة في السودان، عن سعادته بتوصل السودانيين لهذا الاتفاق الإطاري، الذي قال إنه ليس مثاليا لكنه يمثل أرضية قوية لاستعادة الحكم المدني في البلاد.
وأشار بيرتس إلى أن الاتفاق "يحتاج لجهود عظيمة لإنجاحه"، موضحا أن المطلوب أكثر هو إلحاق الرافضين باستمرار التواصل معهم حتى يكون الاتفاق النهائي أكثر شمولا، خصوصا وأن هناك قضايا لم يكتمل النقاش حولها مثل العدالة والعدالة الانتقالية، والإصلاح الأمني والعسكري واتفاق السلام وغيرها من موضوعات.
من جهته، حث ممثل الاتحاد الأفريقي في السودان محمد بلعيش في كلمته، المجتمع الدولي على دعم الحكومة الجديدة التي ستنشأ بعد الاتفاق النهائي، مشيدا بكل الأطراف السودانية على استجابتها وتوقيعها على الاتفاق الإطاري.
وفي كلمة له نيابة عن المدنيين الموقعين على الاتفاق، ذكر الواثق البرير، الأمين العام لحزب الأمة القومي، أن الاتفاق الإطاري "قائم على مبادئ ثورة ديسمبر المجيدة وتتويج لتضحيات عظيمة في السنوات الأخيرة، وأن هدف الاتفاق هو إنهاء الانقلاب، وبناء السودان ليسع الجميع".
وأضاف أن الاتفاق "قطيعة للأبد مع ماضي الانقلابات العسكرية"، مشدداً على أهمية إصلاح مؤسسات الدولة والإصلاح الأمني والعسكري على وجه التحديد، مؤكداً أن الاتفاق الإطاري سيقود لتشكيل سلطة مدنية كاملة، ونادى بتهيئة المناخ الحُر ووقف العنف، والالتزام بمناقشة القضايا المتبقية والوصول للاتفاق النهائي والذي سيكون قاعدة للدستور الانتقالي.
وجدد العهد باسم الموقعين، بالعمل الدؤوب لبناء الدولة والمحافظة عليها والذود عنها، وأشاد باستجابة المكون العسكري لتطلعات الشعب السوداني في الحرية والسلام والعدالة.
يوم تاريخي في مسيرة إنهاء الانقلاب
وفي استطلاع لـ"العربي الجديد" وسط الموقعين، أكد عضو مجلس السابق محمد الفكي سليمان، أن الضمان الوحيد لنجاح الاتفاق الإطاري هو التفاف السودانيين حول مطالب الثورة السودانية، وأن الاتفاق على مستواه النظري ممتاز، وإذا تم تنفيذه فسيجاوب عن كثير من الأسئلة، مبيناً أن عدم وجود القوى السياسية في السلطة الانتقالية سيقلل من حدة الاحتقان السياسي، لأن الصراع في جوهره هو صراع حول السلطة.
من جانبه، اعتبر جعفر حسن الناطق الرسمي باسم قوى الحرية والتغيير، الاتفاق، واحداً من الأيام التاريخية في مسيرة إنهاء الانقلاب، وإعلاء التحول الديمقراطي وخطوة لتحويل الأقوال إلى أفعال بتكوين الحكومة المدنية الكاملة وإبعاد المؤسسة العسكرية عن العمل السياسي، وتفكيك نظام الثلاثين من يونيو، واستعادة الشركات الاقتصادية من المؤسسة العسكرية وعودتها لوزارة المالية والسلام والعدالة المنصفة للضحايا، وكلها تمثل قضايا ثورة ديسمبر المجيدة، طبقا لتقديره.
وأوضح حسن لـ"العربي الجديد" أن المرحلة المقبلة تتطلب فتح نقاش واسع مع الثوار لغرض تحقيق تلك الأهداف والمطالب، مشيراً إلى أنهم في الحرية والتغيير يخشون أكثر ما يخشون من تفتت وتشتت الجبهة المدنية وتأثير ذلك على الاتفاق، "لأن الجبهة هي الضامن الأوحد لإنجاح الاتفاق الذي يحتاج لقاعدة جماهيرية كبيره تسنده.
وحول مدى ثقتهم في المكون العسكري والتزامه بنصوص الاتفاق، قال جعفر حسن، إن ثقتهم كبيرة جداً في الشعب السوداني وتماسك الجبهة المدنية للاستمرار في العمل الكبير للوصول إلى نتائج كبيرة.
أما سلمى نور، عضو تجمع المهنيين السودانيين، الفصيل القريب من الحرية والتغيير، فقد أوضحت أن الشارع الثوري لو تمعن النصوص فسينال الاتفاق الإطاري، رضا فيض واسع من القوى الثورية المختلفة، ولجان المقاومة، وكل الأجسام المهنية التي لم تكن جزءا منه في مراحله الأولية، لأن الاتفاق، على حسب قولها، يترجم بصورة حقيقية مطالب الشارع السوداني، مؤكدة أن حركة رفض الاتفاق في اليوم الأول وما سبقه لم تكن قوية كما توقع البعض.
من جانبه، رحب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس بالاتفاق، معربا عن أمله في أن "يفتح الطريق" أمام انتقال البلاد إلى سلطة مدنية.
وقال المتحدث باسمه ستيفان دوجاريك في بيان إن غوتيريس "يدعو كل الأطراف السودانية إلى العمل بدون تأخير على المرحلة المقبلة من العملية الانتقالية للاستجابة للمشاكل المتبقية بهدف التوصل إلى اتفاق دائم وجامع سياسيا"، وكرر دعم الأمم المتحدة "لتطلعات الشعب السوداني للديمقراطية والسلام والتنمية المستدامة"، وفق ما نقلت وكالة "فرانس برس".