اتحاد الشغل التونسي... أزمة شرعية بعد تراجع دوره

30 ديسمبر 2024
الطبوبي خلال احتفال بعيد العمّال، تونس، 1 مايو 2024 (فتحي بلعيد/فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- أزمة داخلية تهدد استقرار الاتحاد العام التونسي للشغل، مع تصاعد الخلافات بين قيادات عليا تطالب بتقديم موعد المؤتمر العادي لانتخاب قيادة جديدة، وسط اتهامات بتراجع تأثير المنظمة.

- وجود تيارين معارضين يعكس تحديات ديمقراطية؛ الأول يعارض تمديد فترة الرئاسة الحالية، والثاني يطالب بانتخابات جديدة، مما يبرز الحاجة لتحديث النظام الأساسي والهيكلة الإدارية والمالية للاتحاد.

- تراجع الدور السياسي والنقابي للاتحاد بعد إجراءات الرئيس قيس سعيّد في يوليو 2021، مما أثار غضب القيادات الوسطى وصعّب الوساطات الحالية في التوصل إلى حلول وسطى.

تتواصل أزمة الانقسامات الحاصلة داخل الاتحاد العام التونسي للشغل، أكبر المنظمات النقابية وأقدمها وأكثرها تأثيراً في المشهد التونسي، الاجتماعي والاقتصادي والسياسي أيضاً، على مدى عقود. وبلغت ذروة الخلاف داخل اتحاد الشغل التونسي حدّ تهديد قيادات عليا بالاعتصام داخل مقر المنظمة، للمطالبة بتقديم موعد مؤتمر المنظمة العادي لانتخاب مكتب تنفيذي جديد (يفترض في عام 2027) وانتخاب قيادة جديدة، بسبب ما تراه المعارضة النقابية تراجع المنظمة وتدني تأثيرها في الواقع الاجتماعي والسياسي للبلاد.

وكان خمسة قياديين من المكتب التنفيذي للاتحاد، هم أنور بن قدور وعثمان الجلولي ومنعم عميرة والطاهر المزي وصلاح الدين السالمي، أعلنوا نيّتهم الدخول في اعتصام مفتوح، يوم 25 ديسمبر/كانون الأول، وعقد مؤتمر صحافي لإطلاع الرأي العام التونسي على الأوضاع التي وصفوها بالمتردية التي آلت إليها المنظمة. غير أن وساطات قادها الأمين العام السابق للاتحاد حسين العباسي، أدّت إلى تأجيل موعد الاعتصام إلى 8 يناير/كانون الثاني المقبل، لبحث تطويق الأزمة وإيجاد مخرج يحول دون تصدع المنظمة النقابية.

أزمة عميقة داخل اتحاد الشغل التونسي

ويطرح مراقبون تساؤلات حول قدرة هذه الوساطة على حلحلة الأزمة العميقة المتواصلة منذ أشهر داخل اتحاد الشغل التونسي. أحد القيادات المعارضة، صلاح الدين السالمي، نشر تدوينة مقتضبة على حسابه الشخصي في "فيسبوك"، مساء السبت، قال فيها: "فشلنا... ثم عجزنا... ألم يحن الوقت للرحيل جميعاً؟". هذه التدوينة فسّرها متابعون على أنها قد تشكل إشارة إلى تواصل الخلاف، وعدم التوصل إلى اتفاق حتى الآن.

رأى معارضون أن تمديد فترة رئاسة القيادة الحالية بالاتحاد أضعف الديمقراطية والتداول على السلطة داخل المنظمة

أما الأمين العام للاتحاد، نور الدين الطبوبي، فبدا أكثر تفاؤلاً بإنهاء الأزمة، وقال في اجتماع نقابي قبل أيام، إن "النقابيين يختلفون ويتصارعون ولكن في إطار وحدة نقابية، وسيتم الخروج من الأزمة بالحكمة وبذكاء النقابيين، فالمنظمة مرّت بمحن عدة، وتعلمت منها الحكمة في إدارة الأزمات، وتلك مناعتها وقوتها وحصانتها في الممارسة الديمقراطية ومرجعها القانون الأساسي والنظام الداخلي". وأضاف الطبوبي في تصريحات نقلها موقع "الشعب نيوز" التابع للمنظمة، أن "الاتحاد قوي بتنوعه ووجود كل الحساسيات الفكرية، ومهما بلغت ذروة الاختلافات إلا أن الاتحاد سيخرج منتصراً موحداً بنبذ الذات وتغليب مصلحة الاتحاد قبل كل شيء وعبر مرجع وحيد مبني على أن كل القرارات يحكمها القانون الأساسي والنظام الداخلي".

وعن هذه الخلافات داخل اتحاد الشغل التونسي وأسبابها، يقول الأستاذ الجامعي والخبير المستشار لدى الاتحاد، كريم الطرابلسي، لـ"العربي الجديد"، إن "هناك تيارين معارضين داخل اتحاد الشغل التونسي: تيار أول ظهر قبل ثلاث سنوات، وهو الذي عارض بشدة قرار تعديل البند 20 من القانون الأساسي للمنظمة، والذي تم بموجبه تمديد فترة رئاسة القيادة الحالية لولاية جديدة بدعوى الحفاظ على استقرار الاتحاد"، مضيفاً أنه "قبل تعديل البند 20 من النظام الأساسي كانت كلّ القيادات النقابية السابقة تخضع للنص الذي يقيّد حق الترشح لعضوية المكتب التنفيذي في دورتين فقط". ويشير الطرابلسي إلى أن "قرار تعديل البند أدّى إلى بروز تيار معارض للأمين العام الحالي ومكتبه التنفيذي بسبب رفض تمديد ولايته، إذ رأى المعارضون أن هذا التعديل أضعف الديمقراطية والتداول على السلطة داخل المنظمة".

وفي ما يتعلق بالتيار المعارض الثاني داخل اتحاد الشغل التونسي أو ما يسمى بالمعارضة الداخلية التي يقودها خمسة أعضاء من داخل المكتب التنفيذي، فيوضح الطرابلسي أن "تيار المعارضة الداخلية يطالب بإعادة الاحتكام للصندوق وانتخاب قيادة أخرى تعطي نفساً جديداً للمنظمة النقابية وتقرّ نظاماً أساسياً جديداً وهيكلة إدارية ومالية تساعد على عودة الاتحاد لحاضنته الشعبية"، مضيفاً أنه "بات من الصعب بحسب التيار المعارض، استمرار الوضع على ما هو عليه إلى حين عقد المؤتمر في موعده العادي عام 2027".

ويوضح الأستاذ الجامعي أن "شخصيات مهمة قادت خلال الأيام الأخيرة وساطات من أجل التوصل إلى حلول وسطى يفترض أن يقدّم خلالها كل طرف تنازلات من أجل الخروج من الأزمة"، معتبراً أن "هذه الوساطات يجب ألّا تختزل الأمر في تاريخ جديد لعقد المؤتمر، بل أيضاً في بحث توافقات حول الخطوط الكبرى للبرنامج الإصلاحي للمنظمة في إطار التحديات المطروحة على المستوى الهيكلي وعلاقة اتحاد الشغل التونسي بالسلطة وموقفه من مسائل مهمة، وعلى رأسها الحريات والديمقراطية السياسية".

ويشرح الطرابلسي أن "أزمة الأجسام الوسيطة، من منظمات وأحزاب وجمعيات، هي انعكاس للمشروع المعلن للسلطة القائمة الذي يتبناه الرئيس قيس سعيّد والذي يستمد مبادئه من الديمقراطية الشعبية التي تربط القاعدة برأس السلطة مباشرة". ويضيف أن "هذا المشروع أدى على نحو أو آخر إلى تهميش المؤسسات الوسيطة وتقليص حضورها في الفضاء العام، بما في ذلك الاتحاد العام التونسي للشغل وباقي المنظمات الوطنية الممثلة للقطاعات، رجال الأعمال والفلاحون وغيرهم".

ويعتبر الطرابلسي أن "تحجيم دور هذه المنظمات يعبّر عن رؤية السلطة تجاه ما يسمى بالهياكل الوسيطة"، مؤكداً أن "هذا التهميش الذي طاولها لا يحجب أيضاً وجود مشاكل حقيقية داخل هذه المنظمات بما في ذلك الاتحاد العام التونسي للشغل". ويضيف أن "الوضع العام لم يعد يخدم المنظمات لكنها تتحمّل أيضاً مسؤولية عدم تطوير خطابها تجاه منظوريها، وعدم الاشتغال بشكل كافٍ على توسيع القاعدة النقابية عبر استقطاب الشباب من الطبقة العاملة، فضلاً عن التقصير في تطوير طريقة التسيير الإداري والمالي وتمكين القطاعات من استقلالية أكبر، ما جعل السلطة النقابية ممركزة في القيادة التنفيذية".

كريم الطرابلسي: الوساطات يجب أن تبحث توافقات حول الخطوط الكبرى للبرنامج الإصلاحي للمنظمة

من ناحية أخرى، يرى الطرابلسي أن "المنظمة النقابية الأكثر تمثيلاً في تونس لم تسع للانفتاح على المهن الجديدة ولم تعمل على توسيع مشاركة المرأة في صلب هياكلها"، مشيراً إلى أن "تأخر اتحاد الشغل في تطوير آليات عمله وفق مقتضيات العصر وعدم المبادرة لاستقطاب قطاعات جديدة في المهن التكنولوجية أدى إلى تقلص امتداده الشعبي".

تراكم الخلافات يعطّل الوساطات

من جهته، يرى المحلل السياسي بولبابة سالم، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "الوساطات قد لا تنجح في تطويق الأزمة داخل الاتحاد العام التونسي للشغل لأن الأزمة استفحلت كثيراً"، موضحاً أنها "لم تعد مجرد أزمة داخلية متعلقة بالأداء أو ملفات معينة، بل تحوّلت إلى أزمة شرعية للمكتب النقابي، وتراكمت الخلافات خصوصاً أن المركزية السياسية (القيادة الحالية) لم تتفاعل مع دعوات الإصلاح، ودخول مجموعة من المكتب التنفيذي في اعتصام يعكس ذلك، وهؤلاء من الصفّ الأول، ولكن ذلك لا ينفي مسؤوليتهم أيضاً، ولكن الأزمة أصبحت عميقة".

ويشير سالم إلى أن "ما يجعل المسألة معقّدة أن المعتصمين يطالبون بعقد مؤتمر للإنقاذ قريباً، أي في بداية 2025 فيما المركزية تتمسك بعقده في 2027"، مشيراً إلى أن "الظاهر أن الصراع هو حول تراجع دور الاتحاد، ولكن يبدو أن حقيقة الصراع تحوم أيضاً حول التموقع داخل الاتحاد". ويلفت إلى أن "مواصلة المركزية النقابية وتجاوزها للفصل 20، جعل عدة قيادات وسطى وفي قطاعات نقابات مؤثرة مثل التعليم والصحة والصناعة، تعبّر عن غضبها"، مؤكداً أن "بعضهم كانت لهم ربما طموحات لدخول المكتب التنفيذي، ولكن ذلك أقفل الأبواب أمامهم، ما دفع بعضهم إلى رفع دعاوى قضائية للطعن في شرعية المؤتمر، وهذا يوضح أن هناك أيضاً صراع تموقع".

ويرى سالم أن "المنظمة النقابية تراجعت، والرصيد السياسي السابق للنقابة تراجع، فقد كانت الحكومات التي لا يقبلها الاتحاد أو لا يرضى بها تُرفض، أي أنه كان مؤثراً في الحكم الفعلي طيلة عشر سنوات، وكان الاتحاد لا يشارك مباشرة في تشكيل الحكومات ولكنه كان يزكي بعض الأسماء ويرفع الفيتو في وجه آخرين، وحتى في مناصب إدارية كبرى". ويضيف أنه بعد 25 يوليو/تموز 2021 (الإجراءات الانقلابية التي اتخذها قيس سعيّد) "تموقع الاتحاد في المربع الاجتماعي فقط، وتراجع دوره كثيراً، ولم يعد لديه أي دور سياسي، حتى الأحزاب التي كانت سابقاً تراهن عليه لم تعد كذلك، والاتحاد يتحمّل مسؤولية الأزمة"، مبيناً أن "الجميع مطالب بنقد ذاتي لكن الاتحاد بوصفه منظمة نقابية تقدمية، الأوْلى أن يتم احترام نظامه الداخلي".

بولبابة سالم: المنظمة النقابية تراجعت، والرصيد السياسي السابق للنقابة تراجع

بدوره، يشكك القيادي في حزب العمال، النقابي السابق جيلاني الهمامي، في إمكانية توصل الوساطات إلى نتيجة ملموسة، معتبراً أن "الصراع داخل المنظمة بلغ مرحلة اللاعودة". ويكشف الجيلاني لـ"العربي الجديد" أن "هذه الوساطات الحالية سبقتها أخرى، ولكنها لم تفلح أيضاً في نزع فتيل الأزمة بسبب تمترس كل طرف بموقفه". ويعتبر أن "أقصى ما يمكن لوساطة العباسي أن تبلغه هو التوصل إلى موعد للمؤتمر غير 2027 الذي تصر عليه القيادة النقابية الحالية و2025 الذي تتشبث به المعارضة، ولكن حتى هذا الأمر يبقى صعباً للغاية".

ويضيف الهمامي: "بصفتي نقابياً منذ أكثر من أربعين سنة، وبحكم معرفتي بالاتحاد، فهذه الأزمة هي الأخطر على الإطلاق في تاريخه، إذا لم يتم التوصل إلى توافق". ويتابع: "وصلت بعض الأزمات مع سلطات الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، إلى حد تجميد الاتحاد وسجن قياداته، ولكنه كان دائماً يعود أقوى بفضل قواعده، أما الآن فقد جرى تدمير هذه القواعد وكأن هناك اتفاقاً لتدمير الاتحاد، الذين يعتبر معلماً من معالم تاريخ هذه البلاد".

المساهمون