ما تزال عمليات انتشال جثث ضحايا عاصفة "دانيال" التي ضربت مدينة درنة، الأحد قبل الماضي، مستمرة على طول شاطئ المدينة، بعد تقلص فرص العثور على المزيد منها داخل الأحياء المتضررة، في الوقت الذي لا تزال درنة تعيش على وقع اختناق أمني كبير. يأتي ذلك وسط تعاطٍ سياسي يتسم بطابع الانقسام والتنافس بين حكومتي البلاد، حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس بقيادة عبد الحميد الدبيبة، وحكومة مجلس النواب في شرق البلاد بقيادة أسامة حماد.
وارتفع عدد ضحايا العاصفة في مدينة درنة لوحدها إلى 3845 ضحية، بحسب ما أعلنه المتحدث الرسمي باسم غرفة الطوارئ بمدينة درنة، محمد الجارح، في مؤتمر صحافي ليل أمس السبت.
وحتى اليوم الأحد لا تزال حركة الصحافيين والإعلاميين بالمدينة مقيدة بضرورة تحركهم بمرافقة عناصر أمنية هم من يحددون مسار التنقل والأماكن المسموح بتغطيتها، باستثناء عدد من وسائل الإعلام التابعة لقيادة مليشيات اللواء المتقاعد خليفة حفتر.
وبينما أطلق سراح عدد من المشاركين في المظاهرة التي احتشد لها المئات من أهالي المدينة، الاثنين الماضي، وطالبوا خلالها بمحاسبة المسؤولين عن الكارثة التي حلت بمدينتهم، لا يزال ثمانية آخرون رهن الاعتقال لدى أجهزة أمن حفتر، بينهم ثلاثة من منظمي المظاهرة والداعين لها، وفقاً لمصادر ليبية متطابقة.
زيادة حجم القيود
وبعد أن أطلقت أجهزة أمن حفتر حملة اعتقالات واسعة بحق من شارك في المظاهرة منذ الاثنين الماضي، تزامنت مع تقييد حركة الصحافيين والإعلاميين وقطع الاتصالات، كشفت ذات المصادر، التي تحدثت لـ"العربي الجديد" وفضّلت عدم ذكر اسمها، عن أومر حفتر بزيادة حجم القيود والإجراءات الأمنية، ومنها نشر حواجز تفتيش حول درنة، وعلى طول الطريق الواصل إليها من مدينة بنغازي.
ووفقاً لمعلومات المصادر نفسها، فإن غرفة الطوارئ بالمدينة التي يقودها صدام نجل حفتر، بدأت منذ أيام في تقليص أعداد المتطوعين القادمين من مختلف المناطق الليبية إلى المدينة بشكل تدريجي، من خلال إجراءات تقضي بضرورة تسجيل المتطوعين في فرق غرفة الطوارئ ومنحهم بطاقات بعدد محدود، بالإضافة لإرجاع حواجز التفتيش أي متطوع قادم من مناطق غرب وجنوب البلاد.
وفيما يصف أحد المصادر الإجراءات الأمنية بـ"الخانقة" للمدينة، يشير إلى أنها إجراءات تحمل في مضمونها رغبة من جانب حفتر في إفراغ المدينة من أي زخم شعبي قد يشكّل خروجه فقدان السيطرة على الوضع.
وألقت تلك الإجراءات الأمنية المشددة بظلالها على واقع حياة سكان المدينة، الذين أكد عدد منهم أنهم لم يعد بإمكانهم الحصول على بعض المؤن الغذائية الأساسية بالكميات الكافية لمعاشهم اليومي، بعد أن تراجع منذ الخميس الماضي عدد سيارات المتطوعين التي كانت تمر داخل أحياء المدينة لتوزيع المساعدات الغذائية، وأنهم عند ذهابهم إلى مراكز توزيع المساعدات يُبلغون بنقص في بعض المواد الأساسية.
وخلال الأسبوع الأول من نكبة المدينة لم تتوقف أرتال سيارات الإغاثة والمساعدات عن التحرك باتجاه درنة قادمة من كل المناطق الليبية، تزامناً مع بناء عدد من الدول جسوراً جوية لنقل أطنان من المساعدات الغذائية والدولية، ولذا يتساءل الناشط المدني علي المجبري، الذي شارك في الحملة التطوعية لنقل الإغاثات والمساعدات خلال الأسبوع الأول من الأزمة، عن مصير تلك الكميات من المساعدات.
ويؤكد المجبري في حديث لـ"العربي الجديد" أنه شاهد كميات من الأغذية والأدوية في مخازن جمع الإغاثات المقامة على تخوم المدينة، معبراً عن مخاوفه من حدوث موجات نزوح جديدة من داخل المدينة إذا شملت الإجراءات الأمنية الغذاء والدواء والماء.
وفي ثاني أيام تنفيذ مليشيات حفتر التضييق الأمني في درنة، أعلن المتحدث الرسمي باسم قيادة مليشيات حفتر، أحمد المسماري، الثلاثاء الماضي، عن تعليمات "القيادة العامة (قيادة حفتر) أن تكون مهمة استقبال الإغاثات والمساعدات من مهام الهلال الأحمر، وعليه قام الهلال بإنشاء مكان في مدينة سرت لاستقبال المساعدات لنقلها إلى المحتاجين، ونحن نقوم بحماية مقراته ومستودعاته". وهو ما تم بالفعل، إذ فرضت بوابة أمنية بمدينة سرت على المتطوعين إنزال الإغاثات في مدينة سرت، التي تفصلها عن درنة مسافة 800 كم، والعودة إلى مناطقهم.
ولم تخف حكومة الدبيبة من جانبها شكوكها حيال وصول الإعانات إلى أيدٍ وجهات يمكنها أن تمنع وصولها إلى السكان، فقد طالبت وزارة الصحة بحكومة الوحدة الوطنية فرع جهاز الإمداد الطبي في بنغازي "بتشكيل فريق لفرز الإعانات الطبية والتحقق منها بالتنسيق مع مركز الرقابة على الأغذية والأدوية"، وطالب الجهات المتقدمة بالإعانات بـ"توريد الإعانات لمخازن جهاز الإمداد الطبي بمدينتي بنغازي والبيضاء".
انقسام حاد
ويعبّر الأكاديمي وأستاذ العلاقات الدولية عادل أبوشينة عن قلقه حيال طريقة تعاطي الحكومات والقادة مع أزمة درنة وتزايد ظهور حجم المناكفات السياسية بينهما "بشكل لم يتماه مع التلاحم الكبير الذي أظهره الشعب على الأرض"، بحسب حديثه لـ"العربي الجديد".
وفي ذات السياق، عبّر المبعوث الأممي الى ليبيا، عبد الله باتيلي، عن أسفه حيال تنسيق المؤسسات الليبية الذي لم يكن "على مستوى التضامن غير المسبوق الذي أبداه الليبيون من المناطق كلها تجاه إخوانهم وأخواتهم في درنة".
وطالب باتيلي، خلال سلسلة تغريدات، القادة الليبيين بضرورة الاجتماع من أجل الاستجابة السريعة للأزمة، ومضى قائلاً: "من المهم للغاية أن يرتقي القادة السياسيون إلى مستوى اللحظة، وأن يعملوا يداً في يد من أجل تجاوز آثار المأساة".
ويشير أبوشينة إلى أن موقف الحكومتين من ملف إعادة إعمار المدينة يعد من أبرز صور الانقسام الحاد.
وبعد أن وجهت حكومة الدبيبة طلباً إلى البنك الدولي من أجل المساعدة في إدارة أموال إعادة إعمار درنة والمناطق الأخرى، أعلنت حكومة حماد عزمها تنظيم مؤتمر دولي في العاشر من أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، من أجل إعادة إعمار مدينة درنة والمناطق الأخرى.
وإزاء هذا الانقسام في موقف الأطراف الليبية، يعبر أبوشينة عن مخاوفه من أن يطاول أيضاً استمرار الجهود الخدمية لإعادة الحياة بالمدينة، التي تنفذها جهات أغلبها تخضع لحكومة الدبيبة وتتلقى أموالها منها.
وقال في هذا السياق: "القادة لا يزالون يفكرون بمنطق الغنيمة، ولأن الدبيبة يملك القدرة على تمويل مشاريع إعادة إعمار المدينة، يبدو أن حماد وحفتر فكرا في أن الطريق الأسلم لقطع الطريق أمام كسبه المزيد من الشعبية هو الدعوة لعقد مؤتمر دولي يضطلع بمهمة الإعمار، وإذا لم يؤيد الدبيبة هذه الدعوة فلن يتجاوب المجتمع الدولي، باعتبار حكومة الدبيبة المعترف بها، وستكون ردة فعل خصومه بعدها برفض انخراط البنك الدولي الذي دعاه الدبيبة لإدارة أموال إعمار المدينة".
وأشار إلى أن الانقسام ستزيد حدته لتطاول ملفات الأخرى كالانتخابات والقوانين الانتخابية والتحقيقات القضائية الجارية في تحديد المسؤولين عن التقصير في صيانة سدي درنة، اللذين تسبب انهيارهما في موت الآلاف.