إسبانيا: بيدرو سانشيز في مواجهة قنابل موقوتة سياسياً

02 مايو 2024
بيدرو سانشيز في مدريد، فبراير الماضي (دانيال غونزاليز/Epa)
+ الخط -
اظهر الملخص
- بيدرو سانشيز، رئيس الحكومة الإسبانية، يواجه اتهامات فساد موجهة ضد زوجته بيغونيا غوميز، في حملة يبدو أنها من اليمين واليمين الشعبوي لتشويه سمعته وسمعة حزبه منذ 2019، مما دفعه لتعليق عمله مؤقتًا للتفكير في الوضع.
- القضاء الإسباني حفظ التحقيق ضد غوميز بعد اعتراف منظمة مانوس ليمبياس بأن شكواها استندت فقط إلى تقارير صحفية، وسط تسجيلات توثق محاولات اليمين "قتل سانشيز سياسيًا" عبر ملاحقة زوجته.
- سانشيز يبقى متمسكًا بمنصبه، معتبرًا الاتهامات جزءًا من محاولة لإضعافه سياسيًا وشخصيًا في بيئة سياسية متوترة ومستقطبة، مدافعًا عن الديمقراطية ومحاولًا حماية عائلته وبلده من التشهير السياسي.

لم تكن اتهامات الفساد بحق بيغونيا غوميز، زوجة رئيس الحكومة الإسبانية بيدرو سانشيز الحملة الأولى من نوعها التي يضطر الأخير إلى مواجهتها في مسيرته السياسية، إذ أنها تشكل جزءاً من التربص به وبحزبه "الاشتراكي العمالي"، بقيادة خليط سياسي من يمين وسط ويمين شعبوي، بدأ منذ نهاية عام 2019، لكنه اختار هذه المرة مواجهتها بطريقة مختلفة، إذ دفعته الحملة إلى إعلان تعليق عمله لخمسة أيام و"التفكير في الوضع" مما أقلق الشارع من مرحلة عدم يقين مقبلة، قبل أن يقرر يوم الأربعاء الماضي البقاء في منصبه والمضي في المواجهة السياسية، على الرغم من تعرّضه لحملة "مضايقات وتنمّر" منظمة من قبل اليمين المتطرف، بحسب قوله. 

وبدأت القضية عندما وجّهت منظمة مانوس ليمبياس (أيادٍ نظيفة) الاتهامات لغوميز بشأن استخدام منصبها، زوجة لرئيس الحكومة، لتعزيز مصالحها الاقتصادية الخاصة، قبل أن يفتح القضاء الإسباني تحقيقاً بحقها ثم يطلب الادعاء حفظ التحقيق، فيما اعترفت المنظمة بأنّ شكواها استندت فقط إلى تقارير صحافية. وللمنظمة صلات وثيقة بتيار التطرف اليميني، وتشتهر بممارسة الضغوط على خصومها من خلال رمي تهم الفساد على بعضهم ليكون التصويب هذه المرة على بيغونيا غوميز. ونشرت وسائل الإعلام الإسبانية الجمعة الماضي تسجيلات صوتية، يبدو أنها توثّق كيف حاول السياسيون اليمينيون والقوى التي تقف وراء المنظمة منذ فترة طويلة "قتل سانشيز سياسياً" من خلال ملاحقة زوجته التي سبق أن انتشرت عن قصد شائعات حولها بأنها متحولة جنسياً، وأن عائلتها من تجار المخدرات الذين يديرون بيوت الدعارة. وبحسب ما ذهبت صحيفة إل كونفيدنسيال، فإن المنظمة التي تدّعي مكافحة الفساد تتلقى دعماً من أحزاب يمينية لتشويه علاقة عائلة سانشيز بشركات وعقود حكومية مدعومة، وهو ما لم يتم إثباته.

وجاءت الاتهامات الموجهة لغوميز بعد خوض زوجها بيدرو سانشيز مواجهة حامية الوطيس للبقاء في السلطة في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وذلك بعد انتخابات برلمانية تداخل فيها التخوين السياسي وتقدّم اليمين المحافظ على الاشتراكي وتحقيق اليمين المتطرف تقدماً في بعض أنحاء البلد. كما لم يهدأ السجال حول علاقة الرجل بسياسيي إقليم كتالونيا ومستقبلها الانفصالي عن إسبانيا، وغيرها من قضايا كثيرة، بما فيها الهجرة واللاجئون، بما يشكّل قنابل موقوتة في السياسة الإسبانية اعتاد سانشيز عليها في السنوات الأخيرة. مع العلم أنه برز في الحياة السياسية في عام 2014، حين دخل المشهد السياسي نائباً عن الحزب الاشتراكي العمالي، وهو من أقدم الأحزاب الإسبانية. وتدرج حتى أصبح زعيماً للحزب، ثم رئيساً للحكومة في عام 2018. 

حقبة بيدرو سانشيز

ومنذ أن تولى السلطة في مدريد في عام 2018 تعهد الاشتراكي بيدرو سانشيز بإعادة اللحمة إلى مملكة إسبانيا المهددة بالتفتت، بفعل مطالب سياسيي إقليم كتالونيا القوميين بالانفصال عن المملكة. ومرّ بيدرو سانشيز بظروف صعبة للغاية مع الأسابيع الأولى لوباء كورونا في عام 2020، ثم تعرّض لاتهامات مرتبطة بتوثيق العلاقة بالصين على حساب الغرب. في مايو/أيار 2023، تعرّض حزب بيدرو سانشيز لانتكاسة كبيرة في الانتخابات المحلية والإقليمية الإسبانية، مما اضطره إلى الدعوة إلى إجراء انتخابات برلمانية في يوليو/تموز الماضي 2023، حين أدت النتائج إلى حلول حزبه ثانياً بعد حزب الشعب المحافظ.

وفي نوفمبر الماضي، أُعيد انتخابه رئيساً للحكومة بعد مخاض عسير، بدعم 179 عضواً من أصل 350 عضواً في البرلمان الإسباني. مع ذلك، لم يمنع تربص المعارضة به بيدرو سانشيز من اتخاذ قرارات بدت مفاجئة وجريئة، لعل أهمها وأكثرها حساسية تلك التي أُعلنت بعد الانتخابات التشريعية صيف العام الماضي، إذ وافق يومها على منح العفو للسياسيين والناشطين الكتالونيين، لدورهم في محاولة غير قانونية لانفصال كتالونيا عن إسبانيا في 1 أكتوبر/تشرين الأول 2017، في مقابل الحصول على دعم الأحزاب الانفصالية الكتالونية لحكومة الأقلية التي يقودها. وهو ما حفّز غضب الأحزاب والقوى القومية المتشددة، مطلقين عليه لقبي: "خائن" و"مجرم".


التربص بسانشيز جزء من مسار سياسي يستفيد من حالة الاستقطاب وتقدم اليمين القومي المتشدد

وبالنسبة إلى الاتهامات الأخيرة لزوجته بيغونيا غوميز، فإن بيدرو سانشيز اعتبر أنها ضده "في محاولة منسقة لإضعافي سياسياً وشخصياً". في المقابل، اعتبر معسكر التشدد اليميني تصريحات رئيس الحكومة الإسبانية، عن وجود تعاون يميني لإسقاطه، بمثابة محاولة الظهور كضحية. كما اعتبرت المعارضة اليمينية الإسبانية أن سانشيز، بسبب شعبيته في بروكسل (عاصمة مفوضية الاتحاد الأوروبي)، يختلق مشكلة البقاء في السلطة لأنه يسعى إلى منصب في هرم السلطة الأوروبي، بناء على ما ستفرزه نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي، المقررة بين 6 يونيو/حزيران المقبل و9 منه. ويؤشر ذلك التراشق إلى أن السياسات الحزبية الإسبانية باتت على عتبة أوضاع غير مسبوقة، مما يخلق انطباعاً بأن أجواء الهجمات والشخصنة تسمم الأجواء وتدخل البلد في عصر استقطاب. وتذكر هذه الأجواء بما ابتليت به إيطاليا منذ عام 1946، على صعيد عدم استقرار حكوماتها، وصولاً إلى تسلّم اليمين المتطرف قيادة روما، بمشاركة حركة ذات علاقات فاشية، حسبما ردد خصوم رئيسة الحكومة الإيطالية جورجيا ميلوني، رغم دفاع البعض عنها بحجة أنها "صارت أكثر تعقلاً".

غير أن التربص في مدريد لا يقتصر فقط على بيدرو سانشيز، بل هو مسار سياسي يستفيد من حالة الاستقطاب وتقدم اليمين القومي المتشدد، الذي يتباهى بعضه بتاريخ الفاشية أيام الجنرال فرانشيسكو فرانكو، بين عامي 1939 و1975، ولإعادة الاعتبار لمسيرته. وتتقدم اليوم الجماعات والأحزاب الشعبوية والقومية المتشددة في إسبانيا، كحزب "فوكس" الذي يقلّد "البديل لأجل ألمانيا" في برلين، في مسيرته نحو السلطة من المحلي والإقليمي إلى الوطني، وذلك في سياق التداول باستطلاعات رأي تمنح التيار اليميني القومي والشعبوي الأوروبي تقدماً في انتخابات البرلمان الأوروبي. ويعكس ذلك، برأي خبراء في مجال الاقتراع، ميلاً عند فئات أوروبية محتجة لمنح التيار القومي فرصة تعزيز نفوذه على مستوى الأوطان التي يحرز فيها شعبية على حساب الطبقات السياسية التقليدية، مما يؤسس لحالة الاستقطاب الأوروبية الموسعة.

ولذلك، فإن إعلان بيدرو سانشيز من روندا في إقليم الأندلس، الاثنين الماضي، استمراره في منصبه لا يعني أن الاستقطاب صار أقل حدة. عملياً، سحب الرجل صاعق لغم من ألغام حقل أوسع. البقاء "بقوة أكبر إن أمكن"، كما قال الرجل، يعني في تفكيره وتفكير الاشتراكيين ألا تكون الأمور "كما هي عادة، بل أن تتغير". وما ينطوي عليه ذلك أن التغيير ليس مضموناً، خصوصاً مع حالة التراشق والاستغلال اليميني للأزمات، من أجل تحقيق موطئ قدم أوسع في السياسة الإسبانية. والبقاء في المنصب لن يعني أن المعارضة اليمينية والمتطرفة ستتراجع عن استغلال الاستقطاب لتكثيف الهجوم على رئيس الحكومة شخصياً، وباعتباره غير كفء أو جدير بالثقة.

وفي مقابل تحركات المعارضة، فإن بيدرو سانشيز المدعوم من قبل بعض أجنحة اليسار، يملك خبرة كبيرة في التعامل مع خصومه، ويعرف عنه أنه قادر على مفاجئتهم. ومجرد طرحه فترة استراحة، أثار خشية من الاستقالة، ما حرك شيئاً في الساحة الإسبانية التي تخشى عدم اليقين في مرحلة صعبة في السياق الأوروبي العام، سواء تعلق الأمر بحرب أوكرانيا وتبعاتها الاقتصادية أو السجال حول مستقبل القارة وعسكرة اقتصاداتها وعلاقتها بالحليف الأميركي مستقبلاً، بغض النظر عمن سيفوز في الطريق نحو البيت الأبيض خريف العام الحالي.

والتفكير في مرحلة ما بعد بيدرو سانشيز أمر جدي ويشغل بال المهتمين باستقرار بلده، مع العلم أن المسألة ليست مرتبطة ببقاء وغياب "الرجل الأوحد" في الحكم، بل بنماذج قريبة في الجغرافية السياسية الأوروبية في مؤشرات "تسلل" معسكر اليمين القومي المتشدد نحو الحكم، أو التحول إلى بيضة قبان الطبقة اليمينية التقليدية، بعد أن تتراجع الأخيرة عن تعهداتها بعدم التعاون مع القوميين والشعبويين. وحصل ذلك على سبيل المثال في نموذجي السويد وفنلندا، بينما يواصل هذا المعسكر زحفه في ألمانيا وهولندا وأكثر من 10 دول من دول الاتحاد الأوروبي، لتكون القارة العجوز أمام تطبيق عملي لمقولة "إلى اليمين در".


بقاء سانشيز في منصبه لا يعني أن المعارضة اليمينية والمتطرفة ستتراجع 

بيدرو سانشيز وخطاب الأسرة

صحيح أن بيدرو سانشيز عبّر عن امتنانه لدعم "العمال الاشتراكي" في مدريد، أول من أمس الثلاثاء، وخروج الآلاف في الشارع نهاية الأسبوع الماضي، إلا أنه يدرك أن "حملة التشهير ضده وضد عائلته لن تتوقف". وهو ما يعطي صورة عن جدية ما ستذهب إليه إسبانيا في الاستقطاب، الذي وصل حد أن يصبح اليمين الشعبوي في برشلونة وكتالونيا يصوّب على المهاجرين، للتملق الشعبوي للشارع، وتحقيق موطئ قدم في الإقليم الذي كان الأكثر تسامحاً مع تلك الفئة من المواطنين. وعملياً، كسب بيدرو سانشيز، على ما يبدو، هذه الجولة مع تقديم نفسه "حارس أخلاق يحاول حماية عائلته"، موجهاً ضربة لألبرتو نونيز فيخو، زعيم المحافظين الطامح للحكم بالائتلاف مع زعيم حزب فوكس اليميني المتطرف، سانتياغو أباسكال، وغيرهم في جناح اليمين والشعبويين، وذلك لأن بيدرو سانشيز اعتبرهم "متعاونين" في أوركسترا شخصنة التنافس بالتصويب على أسرته.

في المجتمع الإسباني شبه المحافظ، لطبيعته الكاثوليكية في السياق الأوروبي، يكون مفعول خطاب الأسرة والأخلاق سحرياً، وهو ما حفّز بيدرو سانشيز لانتهاز الفرصة وقول ما لم يستطع قوله سابقاً: "دعونا نظهر للعالم كيفية الدفاع عن الديمقراطية"، مضيفاً: "لقد سمحنا لفترة طويلة جداً لهذه القذارة بإفساد حياتنا السياسية والعامة، وتم استخدام أساليب سامة لم يكن من الممكن تصورها قبل بضع سنوات فقط. هل هذه حقا إسبانيا التي نريدها؟". هذا السؤال الذي طرحه بيدرو سانشيز يحسم رداً متأخراً على المعارضة اليمينية المتشددة واستغلالها خطاب الدين والأسرة الأوروبية، والتي ظلت تردد عن سانشيز بأنه "سياسي متعطش للسلطة، ومستعد لفعل أي شيء للتمسك بالكرسي".

ولم يتردد ألبرتو نونيز فيخو في استغلال فرصة السجال، للقول إن إسبانيا "تستحق رئيس وزراء ناضجاً لا يلقي البلد في الاضطرابات السياسية"، مضيفاً في تصريحات صحافية أنه "لا ينبغي لنا نحن المواطنين أن نركز على أسرة سانشيز (بمعنى قضاياه هو) بل ينبغي على سانشيز التركيز على المواطنين". عملياً، وعلى الرغم من قدرة اليساري بيدرو سانشيز على صد الهجمات ضده، إلا أن المعارضة الإسبانية تشعر بالإحباط منذ تشكيله أغلبية برلمانية لاستمراره في الحكم بعد انتخابات العام الماضي، وهي ظنت أن سنواته انتهت إلى غير رجعة. الاتهام بأنه قايض الكتالونيين للحصول على أصواتهم في مقابل منحهم استقلال إقليم كتالونيا، وإطلاق أوصاف مثل "المجرم والكذاب والمتعاطف مع الإرهابيين والدكتاتور والخائن"، يظل عود ثقاب قابلا للاستخدام إذا ما أرادت المعارضة حرق مراحل في سبيل الوصول إلى الحكم، خصوصاً أن "الملكيين" لن يسمحوا بتقسيم مملكة إسبانيا، وهؤلاء منتشرون في أغلبية الأحزاب على يمين اليمين ويسار الوسط.

المساهمون