يطغى الاهتمام الآن في واشنطن بموضوعين: اجتياح متحور "دلتا"، وانتقال المبادرة الميدانية إلى حركة "طالبان". المشترك بينهما أن إدارة جو بايدن غير قادرة على التحكم بأي منهما. تبدو وكأنها تواجه هذا التحدي المزدوج والمتزامن بلا دفاعات. الأول ليس من صنعها، لكنها متراخية بإجراءاته، وخصوصاً في مواجهة حملة تسييسه وما أدت إليه من استفحال الفيروس. والثاني يجري تحميلها مسؤوليته من باب أنه كان خطوة غير محسوبة. وفي الحالتين يزداد انكشافها، وبما قد يرتّب كلفة على رئاسة بايدن يتحدد حجمها بمدى تفاقم تداعيات هذين التطورين. في ضوء ذلك، تتصرف الإدارة وكأن طموحها تراجع في الوقت الحاضر إلى حدود العمل على تقليل الخسائر قدر الإمكان.
موضوع الانسحاب من أفغانستان، انقلبت حساباته بسرعة وبصورة أحرجت الإدارة. خصومه سارعوا إلى وصف القرار بـ"المتهور" بتعبير السناتور ميتش ماكونيل، زعيم الأقلية الجمهورية في مجلس الشيوخ. وحتى بعض الدوائر الليبرالية صنّفته في خانة "الخروج السهل المفتوح على كارثة". الحيثيات التي عرضها المسؤولون، والخطوات التي اتخذت في الأيام الأخيرة، كشفت عن حالة تخبط فتحت المجال لتعزيز تهمة "التبسيط" في سياسة الإدارة الخارجية. من المآخذ أنها راهنت أو أوحت بالرهان على قدرة القوات الأفغانية "عالية العدد والتجهيز والتدريب" على الوقوف بوجه "طالبان". لكن تبيّن العكس. حاولت التنصل من الانسحاب بزعم أن قراره اتخذته الإدارة السابقة وأنها كانت مضطرة للالتزام به، في حين كانت حيثية بايدن أن "20 سنة كفاية ولا نية لديه" لإرسال جيل جديد من الجنود إلى افغانستان". شدد على أن الخروج لا خط رجعة فيه، ليعود ويرسل قاذفات جوية للمساعدة في وقف زحف "طالبان".
الثلاثاء، تعمدت الإدارة التلويح بترك الباب مفتوحاً أمام كافة الخيارات. الجواب الرمادي الذي أعطاه المتحدث في الخارجية نيد برايس على سؤال عما إذا كانت الإدارة في وارد العودة عسكرياً إلى أفغانستان تحت أي ظرف من الظروف. لكنها الخميس، أعلنت عن قرار ترحيل قسم من جهاز السفارة الأميركية - فيها 1200 موظف ودبلوماسي - في كابول، من دون ذكر حجم الخفض الذي قال المتحدث في الخارجية إنه مفتوح على إعادة النظر به في ضوء التطورات، أي أنه مرشح للمزيد من الخفض.
موضوع الانسحاب من أفغانستان، انقلبت حساباته بسرعة وبصورة أحرجت الإدارة
واللافت أن عملية الخروج من السفارة تمّت "بحماية عسكرية" كما قال. بداية هجرة دبلوماسية تكمل المغادرة العسكرية. وفي ذلك مؤشر إلى أن الوضع الأمني في العاصمة كابول دخل هو الآخر في دائرة التدهور السريع، وسرعان ما حمل هذا التدبير على استحضار مشهد الرحيل الدبلوماسي الأخير من على سطح السفارة الأميركية في سايغون في 1975. تذكير أثار مزيجاً من مشاعر "الخيبة والهزيمة"، وبما خلخل الاعتقاد السائد بأن الرئيس بايدن يتميز بحسن التقدير في الشؤون الخارجية، بنتيجة خبرته التي جمعها من خدمته الطويلة في مجلس الشيوخ (36 سنة)، ثم في موقع نائب الرئيس لمدة 8 سنوات.
حاولت الإدارة في الأيام الأخيرة مسح هذا الانطباع، لكن لا يبدو أنها نجحت. الشروحات التي قدمتها خلال المؤتمر الصحافي اليومي طوال هذا الأسبوع في البيت الأبيض ووزارة الخارجية، بقيت عاجزة عن تلميع الصورة. بل ازدادت الأسئلة وعلامات الاستفهام، وهي مرشحة للمزيد بقدر ما تتوسع دائرة انهيار النظام في كابول.
يضاعف من الإحراج الأفغاني للرئيس بايدن، أنه يترافق مع هجمة "دلتا" الكاسحة التي تهدد بخريف وشتاء كاسرين. وهي تعود في شقها الأكبر لقرار خاطئ، وعلى الأرجح متعمد، أخذه بعض حكام الولايات من خصومه - مثل تكساس وفلوريدا - بمنع الكمامة وزرع الشكوك بالتلقيح، بما ساهم إلى حدّ بعيد في تزايد انتشار الفيروس الجديد. الاصابات اليومية تعدّت 125 ألفاً، على الطريق نحو 200 ألف. الوفيات تزايدت إلى 350 يومياً وعلى ارتفاع بنفس الوتيرة. مع ذلك، ما زالت المواجهة رخوة مع أصحاب هذا القرار الذي ساهم في هبوط نسبة التطعيم، وبالتالي في ارتفاع عدد الإصابات. والأخطر أن ذلك يحصل في لحظة بدأ فيها مفعول اللقاح يتناقص، بما سيفرض الحاجة لحقنة ثالثة في المدى القريب. ويزيد من التحدي أن هناك خطرا من ظهور وانتشار متحور آخر أشدّ فتكاً من "دلتا" في الأشهر القليلة المقبلة، كما يحذر الطبيب روبرت رادفيلد، المدير السابق لمركز الأوبئة والوقاية.
الرئيس بايدن يبدو حالياً وكأنه أسير هذين التحديين المرشحين للتفاقم. الخيارات صارت فسحتها ضيقة، والمدة المتبقية لانتخابات الكونغرس الفاصلة - بعد 14 شهراً - لا تحتمل انتكاسات كبيرة، خصوصاً على الصعيد الصحي - الاقتصادي، فضلاً عن التداعيات الجيوسياسية لانسحاب بدأ يشار اليه وكأنه كان أقرب إلى الهرولة. هل في جعبة الإدارة ما قد تطلع به قريباً من مفاجآت لخلط الأوراق ونقل الأضواء إلى مكان آخر، مثل تجديد الاتفاق النووي مع إيران؟